شاعرٌ ينتظر ربيع دمشق خلف القضبان
عبدالله أمين الحلاق
تمارس الشموليات لتركين أسس حكمها، تمويتاً ممنهجاً وإفراغاً للبلد من كل محتوى ثقافي حقيقي، بحيث لا يبقى إلا دمى ثقافية تُحرَّك بالخيوط في مؤسسات الأخ الأكبر، دليلاً على صحة وعافية تنعم بهما البلاد في ظله. فاتحاد الكتّاب العرب واتحاد الصحافيين السوريين ونقابة الفنانين وغيرها، ليست إلا واجهات ثقافية هزيلة لبلد يحكمه حزب واحد منذ خمسين عاماً. غير أن هذا الكلام العام والضروري، قد يقودنا إلى تخصيص تشهده سوريا التي تعيش انتفاضةً وطنية وتنتظر ربيعاً تمعن في اختراعه وتمتين أسسه عبر الاحتجاجات السلمية والعمل السياسي المترافق معها يوماً بعد يوم.
عبدالله ونوس، شاعر شاب معروف في أوساط ثقافية لا يستهان بها في سوريا، هي أوساط معارضة غالباً، أو على الأقل أوساط مثقفين وشعراء ومنابر لا تمت الى السلطة بصلة. لم يكتب شعراً سياسياً مباشراً ولم ينتمِ إلى حزب أو تكتل معارض، لكنه جعل من الشعر والمقالات الأدبية التي نشرها في منابر محترمة إبراً تلسع المؤسسات والصحف التابعة للنظام الحاكم، وأخيراً كان متظاهراً ومشاركاً في الاحتجاجات التي شهدتها بلدته. عبدالله الآن في السجن، اعتُقل بتهمة التظاهر، سحبه حرّاس الظلام من حانوته المتواضع من دون أن يلتفتوا إلى خريطة فلسطين وصورة محمود درويش التي تزيّن واجهة المحل، كناية عن علاقة صادقة لعبدالله بمحمود درويش وبقضيته، قضيتنا الإنسانية، على عكس العلاقة التي ربطت من اختطفه بها.
اعتقاله كناية عن أن الأزمة في سوريا ليست أزمة إصلاحات متأخرة بقدر ما هي ذات علاقة بكمّ الأفواه بشتى الوسائل التي صارت مشهداً سوريا يومياً، نال المثقفين منها ما نالهم، في استكمالٍ للثأر من ربيع دمشق ومن كل مثقف يقف في مواجهة السلطة ويقول الحقيقة دونما مواربة أو “تمسيح جوخ”.
عبدالله ونوس رأى في الانتفاضة الوطنية فرصة للتعبير عن مكنوناته وما كتبه في مواجهة آلة الدعاية الإعلامية البعثية. لم يقبل على نفسه أن يكون عضواً في اتحاد الكتّاب العرب أو اتحاد الصحافيين السوريين. كان صادقاً في مواقفه ممن رسخ مؤسسات الدمى تلك، ولطالما انتقد إعلام النظام وصحفه التي لا تقيم اعتباراً للمثقف إلا في أواخر أيامه أو بعد مماته، هذا إذا أقامت له ذلك الاعتبار، كما انتقد تسابُق الخطباء والبلغاء ومحترفي تمجيد السلطة إلى إطناب المديح لها حتى في مناسبات العزاء. هؤلاء كتب عنهم عبدالله في وصفه للحالة السورية المحكومة باللون الواحد والحزب الواحد والمشيئة الواحدة:
“يركنُ جامعو الحثالات إلى نصّهم بنهم يوازي ركونهم إلى لصّهم، بِغالُ الحزب تجرّ عرباتهم، ومئة حوذيّ يجلدون الهواء نقيقاً. الصحيفة السمينة والوحيدة كجرذٍ مدلل، تقيء كلّ صباح على قارئيها البؤساء، هي غبطة استمراء قيء الآخر عليك، آليّة المثقف السعيد في وطن بائس. ننتظر قيء صحيفة الصباح كما ننتظر الرغيف، افتتاحية رئيس التحرير وجهها، وما دبّج الشعراء قفاه. تقيء علينا الصحيفة من صفحتها الأخيرة، ملاحق وصفحات ثقافية وكتباً شهرية لتبديد البلادة الأزلية، وجحافل من الأجراء والأميين، معلمين بالوكالة في مدارس بلا تلاميذ، حاصدي شهادات عليا في غفلة الرعب الأزلي على رقاب العباد، يكتبون الشعر حيث عزّت المهن، كراسيهم مقاعد مراحيض، وطاولاتهم وَضم. هي إذاً ثقافة القيء ـ أو قيء الثقافة.
المثقفون الحقيقيون من ظلّ إلى ظلّ كعجائز الحواري، بلا تفاحة الرغبة، ولا هسيس أفعى الفتنة، هم مبعدون عن فردوس المؤسسة الذي تكون الجحيم عنده أصلاً، برداً وسلاماً” .
رواية النظام عن الإرهابيين والمسلحين لا يمكن أن تنطبق على هذا الشاعر، من دون أن يعني أنها انطبقت على غيره أصلاً. إنها قصة الصراع التاريخي بين “القلم والسيف” بحسب تعبير إدوارد سعيد، وعلى نطاق شعبيّ أوسع: بين شعب توّاق الى الحرية ونظام يعمل كل ما في وسعه لإيقاف عجلة التاريخ الذاهبة في اتجاه نيلها، مكملاً مسيرة قمع المثقفين الأحرار وكل من تسول له نفسه ألاّ يكون بوقاً للاستبداد.
قبل تغييبه القسري بأشهر، كان عبدالله ونوس تلقّى موافقة من دار نشر لبنانية مرموقة على طباعة ديوان له يفترض أن يصدر عن تلك الدار. ماذا يمكن أن نقول للناشر لو حاول الاتصال بـ”أبو بيسان” ليطلب منه أن يستعد لتسلم ديوانه الأول من المطبعة، هل نقول له ما قاله محمود درويش:
يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل/ لا غرفة التوقيف باقية ولا زرَد السلاسل
أغلب الظن أن ذلك سيكون لسان حالنا فيما يعرف الجميع أن الفجر الذي يلوح ضوءاً في آخر هذا النفق يزداد سطوعه يوماً بعد يوم، كما يتبدى بوضوح أن ثنائية المتنبي وسيف الدولة، وقبله كافور الإخشيدي، ليست بالقدَر الذي يفترض أن يرسم علاقة الشاعر بالسلطة. أضف، أن السجن لن يكون حائلاً بين عبدالله وارتكاب الشعر كما نتمنى. قصة رياض الترك وإخراجه لقصائده ومحاولاته الشعرية التي ألّفها في سجنه معروفة للجميع، فأبو هشام كان يقوم بتحفيظ كل من المعتقلين بيتاً واحداً من القصيدة، وفور خروج المعتقل من السجن كان يكتب البيت على ورقة إلى أن يأتي شخص ويقوم بجمع القصيدة كلها. لكن، وعلى رغم ذلك سنقول بهمس:
“يرجى عدم الإزعاج، فخلف القضبان يقبع شاعر لا يستطيع كتابة الشعر الآن”.