شعب عظيم ومعارضة مهلهلة ونظام فاجر
تجنبنا الكتابة عن المعارضة السورية وتشرذمها وبعض خطابها وممارساتها حتى لا يصبَّ ذلك في خدمة النظام، لكن استمرار الحديث في هذا الموضوع من جانب أطراف دولية وعربية، قليل منها حريص على الشعب السوري، فضلا عن أوساط النظام وشبيحته وأبواقه الإعلامية التي تتوزع بين الداخل والخارج وتشمل أناسا من شتى الجنسيات وإن انحصروا في خلفيات أيديولوجية معروفة، كل ذلك كان لا بد أن يدفعنا نحو الخوض في هذا الموضوع، وإن على نحو مختلف بعض الشيء.
ما ينبغي أن يقال ابتداءً ودائما وأبدا، هو أننا إزاء شعب عظيم ورائع خرج إلى الشوارع في ثورته السلمية المتميزة وهو يدرك تمام الإدراك أي نظام يواجه، سواء أكان ذلك على صعيد البنية الأمنية، أم على صعيد التحالفات التي أنشأها في السياق السياسي العربي والإقليمي، والتي صبَّت في صالحه بشكل جيد لا يقل أهمية عن العمل على صعيد البنية السياسية الداخلية المتمرسة في السير على الحبال والترويج للنفس واختراق المعارضات، وعموم أشكال العمل الإعلامي والسياسي بسائر تناقضاته.
كان الشعب السوري يدرك أيضا أنه إزاء نظام طائفي قادر على اللعب بورقة الطائفة على النحو الذي يخدمه، ومعها ورقة الأقليات على نحو يجعل ربع الشعب إلى جانبه حتى الرمق الأخير، لاسيما الطائفة التي ينتمي إليها وتشعر أن وجودها مرتبط ببقائه، الأمر الذي لا يمكن أن يكون صحيحا بالطبع لأن نجاح الثورة لا يعني سوى إشاعة العدالة وروح المواطنة وليس الاعتداء على أي أحد بسبب طائفته.
لا يشبه هذا النظام نظام القذافي بهلوساته السياسية، ولا النظام اليمني بقدراته المحدودة، وإن اشتهر رئيسه بالكذب المكشوف في أكثر الأحيان، مع قدرة مشهودة في سياق اللعب على التناقضات. كما أن سوريا ليست مصر التي كانت تعيش حياة سياسية وإعلاما منفتحا رغم سيطرة الحزب الوطني وعصابة الرئيس على كل شيء، وهي أيضا ليست تونس التي توجد فيها قوى ومنظمات مجتمع مدني قوية، فضلا عن أحزاب سياسية وحركات لم تغب تماما عن الساحة رغم بشاعة القمع.
في مواجهة مثل هذا النظام بكل قدراته تلك، خرج الشعب السوري إلى الشوارع. خرج وهو متأكد تماما من أن الرد سيكون بالرصاص الحي، لأن منطق مثل هذه الأنظمة معروف، وخلاصته أن تقديم تنازلات سريعة في مواجهة الاحتجاجات يعني بكل بساطة فتح شهية المحتجين لمزيد من الضغط وصولا إلى إسقاط النظام، ولهم فيما جرى للنظامين التونسي والمصري مثل وعبرة كما سيقولون.
وحين جاء الرد بالرصاص الحي والاعتقال والقتل تحت التعذيب لم يرتعب الناس، بل رفعوا وتيرة الاحتجاج وصولا إلى رفع شعار “الشعب يريد إعدام الرئيس”، وليس فقط إسقاط النظام.
ما أكد قدرات النظام المشهودة هو النهج التي اتبعه في مواجهة الثورة، والذي لا نجد غضاضة في الاعتراف بذكائه، ويتلخص في سياسة القتل بالتقسيط كما وصفناها منذ الأسابيع الأولى للثورة، مشفوعة بنشر الجيش والأجهزة الأمنية والشبيحة في الشوارع، مع استمرار الاعتقالات والتعذيب ونشر الرعب في أوساط الناس.
هذه السياسة لا غيرها هي التي أفضت إلى محدودية الاحتجاجات مقارنة بالمظاهرات والاعتصامات المليونية التي عرفتها الثورات العربية الأخرى، بخاصة في مصر واليمن، وهي ذاتها التي أدت إلى غياب الاحتجاجات عن قلب مدينتي حلب ودمشق، بل حتى ساحات المدن الأخرى (حدث في حماة أن خرجت المدينة بكاملها قبل أن يقتحمها الجيش، ويؤدي ذلك إلى عودة الاحتجاجات إلى طبيعتها من حيث المسيرات المتفرقة في الأحياء).
لولا هذه السياسة لرأينا مظاهرات واعتصامات مليونية لم تعرفها الثورات الأخرى تبعا لحجم الغضب على النظام، وما يؤكد ذلك هو رفضه الدائم لأية مبادرات سياسية تنطوي على إخراج الجيش من الشوارع والسماح بالاحتجاج السلمي، لأنه يدرك أن أمرا كهذا سيعني تدحرج الاحتجاجات وصولا إلى سقوطه.
كل ذلك، ومعه وقبله وبعده حجم التضحيات الرهيب الذي قدمه الشعب السوري طوال عام من الثورة يؤكد عظمة هذا الشعب وإصراره على الانتصار مهما كان الثمن، أيا تكن فرص صمود النظام تبعا لمعادلة إقليمية دولية تصب في خدمته، إضافة إلى تشرذم المعارضة وخلافاتها وتناقضاتها.
يدخلنا هذا البعد الأخيرة مباشرة إلى واقع المعارضة السورية الذي يصبُّ بهذا القدر أو ذاك في خدمة النظام، خلافا للحال لو كانت تلك المعارضة قوية وموحدة، وهو واقع يستغله الكثيرون في إشاعة اليأس بين صفوف الناس في الداخل والخارج، مع ترويج مقولة إن سقوط النظام سيدخل البلاد في أتون حرب أهلية وربما أدى ذلك إلى تقسيم البلاد كما ذهب إليه بشار الأسد نفسه في بعض تصريحاته.
من المؤكد ابتداءً أن سلوك المعارضة السورية لا يزال يمنح النظام وشبيحته السياسيين والإعلاميين في الداخل والخارج، وربما منح بعض القوى الخارجية أيضا، ذخيرة لطخها بها والتقليل من شأنها وصولا إلى التبشير بحل سياسي يدمجها في السلطة عبر إصلاحات شكلية يجريها النظام بنفسه، وليس عبر مسارات سياسية تؤدي إلى إسقاطه بالكامل. ويحدث بالطبع أن تروِّج لهذا الحل دول كبرى مثل روسيا والصين، فضلا عن قوًى إقليمية وعربية مثل إيران والعراق وحزب الله وبعض القوى والأحزاب القومية واليسارية، والأخيرة تزين خطابها بحكاية المقاومة والممانعة المستهدفة من قبل التحالف الأميركي الصهيوني!!
والحال أن بعض ما يجري تداوله حول بؤس المعارضة وخلافاتها وإشكالات شخصياتها ورموزها صحيح إلى حد ما، لكنه لا يشكل سوى جزء من الصورة التي تسعى أبواق النظام إلى إبرازها ومن ثم استثمارها في بث اليأس في صفوف الشعب السوري، إلى جانب حشد التأييد لنفسه والترويج لضرورات بقائه.
ما ينبغي التذكير به هنا هو أن خلافات القوى هي ظاهرة طبيعية في معظم الثورات، إن لم يكن جميعها. صحيح أن لبعض الثورات في التاريخ أبطالها ورموزها الكبار (لم يلغ ذلك أبدا الخلافات أو التباين بينهم في الرؤى والمواقف)، لكن ثورات الربيع العربي ليس كذلك، إذ خرجت من ضمير الشارع الجمعي الرافض للقمع والفساد، وهي لا تسعى تبعا لذلك إلى أن تستبدل بدكتاتوريات شمولية دكتاتورية ثورية جديدة، وهذا هو الملمح الأساسي الذي يرد بقوة على منطق النظام وشبيحته.
لو كنا إزاء ثورة مسلحة بالكامل يخوضها تنظيم مسلح له قائده “الرمز” وقيادته “التاريخية” لكان بوسع النظام التشكيك فيه، ويلتقط من مواقفه ما يثير الشبهات، إلى غير ما هنالك من أساليب التشويه المعروفة، لكن الأمر ليس كذلك، إذ إن ما يريده الشعب هو إسقاط النهج الدكتاتوري واستعادة سلطته وقراره باعتباره وصيا على نفسه، وهو وحده سيعرف من ينتخب حين يذهب إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليه، وإذا ما أخطأ في المرة الأولى أو اكتشف أن من انتخبهم لم يعبروا عنه بالقدر الكافي، فسيسقطهم وينتخب آخرين.
هي إذن ثورات شعبية وليست انقلابات عسكرية ولا حتى ثورات مسلحة بقيادات مؤسسة ورموز تاريخية، وبالتالي فإن المنخرطين في الثورة سينالون من الحظوة بحسب سلوكهم السياسي وخطابهم ونضالهم وقدراتهم.
معيب أن يشارك معارضون في مؤتمر يرعاه “برنار ليفي”، وأن تكون لعضو المجلس الوطني السوري بسمة قضماني علاقات بإسرائيليين وتصريحات مسيئة للإسلام، فكل ذلك يسيء للمجلس أيما إساءة، والأفضل أن تترك موقعها بدل الدفاع عنها ببيان بائس لا يشير البتة لما جرى تداوله حولها. كما يجدر التذكير بأن انتماء هذا المعارض أو سواه إلى لون فكري لا تقبله غالبية الشعب، أو اشتهاره بسلوك حياتي لا ينسجم مع جموع الثائرين، كل ذلك لا يضير الثورة، بقدر ما يسيء إليه ولمن يتبنونه ويقدمونه من قوى المعارضة، ويبقى أن هؤلاء جميعا يوجدون تحت عين الشعب الذي يراقب كل شيء، وحين تنتصر الثورة سيعرف الناس طريقهم ويختارون ممثليهم.
على أن ذلك لا يلغي بحال أهمية البعد المتعلق بعموم سلوك المعارضة ورموزها ومواقفها، إذ إن لهذا السلوك تأثيرا كبيرا على إمكانية الانتصار وكلفته في آن، الأمر الذي يجعل من الاهتمام بهذا البعد على قاعدة النصح والإصلاح أمرا ضروريا، وهو أفضل من التورط في لعبة التيئيس التي تصب في مصلحة النظام، إن لم يكن هو الذي يحركها في الأصل عبر اختراقاته في البنية السياسية وحتى العسكرية للمعارضة، وهي اختراقات نجزم بوجودها من دون تردد تبعا لمعرفتنا بطبيعة النظام وبنيته الأمنية والسياسية وتحالفاته العربية والإقليمية.
المعارضون ليسوا سواءً، ففي الداخل هناك انتهازيون مصابون بعقدة الإسلاميين ويريدون الإبقاء على النظام والحصول على جزء من الكعكة بأية وسيلة. وقد رأينا أحدهم يطير إلى الصين بعد ساعات من استخدامها “الفيتو” لصالح النظام في مجلس الأمن. وفي الخارج يقتتل بعضهم على جلد الدب قبل صيده، لكنّ معارضين آخرين ينشغلون -ومنهم قوى وشخصيات معتبرة ذات تاريخ وتضحيات- بتقوية شوكة الوضع في الداخل كي يواصل تحدي النظام.
وفي تقديري أن الجزء الأخير من المعارضة ومن ينسجمون معه من رموز الداخل هو الذي يحظى بالاحترام، وهو الذي يُعوَّل عليه في مواجهة الموقف إلى جانب الجماهير الثائرة، لاسيما أن حكاية الإصلاح باتت مرفوضة تماما من قبل الناس حتى لو تبناها ثائر عابد زاهد مثل عمر المختار في الداخل أو الخارج، فضلا عن أن يكون مشكوكا في شخصه وتوجهاته.
المعارضة بحاجة إلى وقفة مع النفس لإعادة تقييم الوضع، ونبذ خلافاتها ما أمكن ذلك، ولكن بقاء شيء من ذلك كبر أم صغر لا ينبغي أن يدفع المخلصين إلى التشكيك في انتصار هذه الثورة، والقضاء على هذا النظام الذي فقد شرعيته السياسية والأخلاقية، ولم يعد أمامه غير الرحيل، بل السقوط الكامل لسائر أركانه ورموزه.