شعب عيار 24/كمال جمال بك
على مدى قرابة ثلاثة أعوام من الهمِّ السوري ، وقف العالم متفرِّجاً وغاضباً ومندِّداً ومستنكراً ومشمئزَّاً وملوِّحاً بضربة عسكرية محدودة … وبقي القاسم المشترك بين كل حالاته جميعها أنه ظل مكتوف اليدين ويتكلم بصوت خفيض للدلالة على أنه عالم متحضر ابن عالم وناس ومتربي ..
أما السوريون النازفون دماً ، والمكتوون بحرائق بيوتهم وبفلذات أكبادهم ، والباحثون عن مأوى أو منجاة من الموت اليومي وهو يحصد أرواحهم ، فهم يصرخون ليل نهار ومن دون كلل ولا ملل ” يا الله ما النا عيرك يا الله ” – ويتساوى في الصراخ والتلويح بالأيدي المؤمنون وغير المؤمنين – ويرفعون أصواتهم عاليا بالهتافات والبيانات الحادَّة اللهجة والرسائل المطيَّرة – كلَّ حين ومين – إلى المنظمات الدولية ايمانا منهم بأنهم جزء من هذه البشرية ..
وفجأة .. وعلى وقع صدى افتضاح أمر الكيماوي السوري ودخول العالم في غرام جدل بيزنطي جديد .. يكتشف الخلق – وربما بعد إغلاق أبواب الرحمة من الخالق – أن ثمَّة شعباً على هذه المعمورة – أو المهجورة – يبحث – هارباً من الموت – عن فسحة أمل لايضيق العيش فيها.. فيسارع إلى فتح أبواب سبع عشرة دولة دفعة واحدة للسوريين الراغبين بالهجرة !!
ولأن ” الميَّة تكذِّب الغطَّاس ” فقد جاءنا بالنبأ من جنيف انطونيو غوتيريس رئيس المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة ، في أعقاب اجتماع لجنتها التنفيذية بمشاركة ممثلين عن مئة وخمسة وثلاثين دولة وسبع منظمات حكومية والبنك الدولي وتسع وكالات تابعة للامم المتحدة وتسع وعشرين منظمة غير حكومية، ليزف البشرى بعدها بأنَّ “هذه البلدان يمكن ان تستقبل اكثر من عشرة الاف لاجىء يرغبون في مستقبل افضل”.!! بينما تشير الارقام الدولية ذاتها الى ان عدد الهاربين من الموت سوريا نازحين قرابة الخمسة ملايين ولاجئين حوالي المليونين ونصف المليون !!
وللأمانة لم ينس المجتمعون في ختام اجتماعهم أن يوجهوا نداء للقيام بتحرك دولي عاجل لتخفيف العبء الاقتصادي والاجتماعي الذي تتحمله الدول المجاورة لسوريا ..
حسب الرغبة إذاً سيتوزع عشرة آلاف سوري إلى أراضي اللجوء .. ومن سيكون سعيد الحظ في هذه اللائحة .. وكيف سينفد هو وعائلته من جحيم الموت.. تلك قضية ربما ترك أمر البت فيها للقرعة !! وربما يقول قائل: وما العيب في ذلك .. أليس السوريون أصبر من الجمل ؟؟
وعلى ذكر الجمل .. يحضر السَّنام .. وتحضرُ معه عملية الاجترار التي يقتات بها وقت اشتداد الجوع وشحِّ المأكل .. ولأنَّ المائدة الدولية المتخمة بالحوارات والمؤتمرات ومؤتمرات المؤتمرات وسلسلة أصدقاء السوريين وأصدقاء أصدقائهم ، التي لم يعد للسوريين الكرام مكان فيها .. نرجع بالحديث إلى طاولة الماضي العظيم المفتوح ، لا رغبة في التأصيل له ، ولا شوقا لشوفينية مفتقدة ، ولا هوى من حنين ، بل للتذكير وللتذكير فقط فإن هؤلاء القوم – وأعني السوريين – قد صدَّروا في هجراتهم الأولى إلى العالم منذ آلاف السنين أعظم الأباطرة الذين حكموا روما وبنوا مجدها ، ومنهم المؤسسون الأوائل : من الأنطونيين الأول , إلى الأسرة الحمصية جوليا دومنا , وجيتا , وكركلا , وجوليا سوميا , وجوليا ماميا , وجوليا ميزا , وفيليب العربي من شهبا ..
ما الذي يدفع بأشرعة السوري الآن للتساؤل عن أسئلة المصير سوى الموت والدمار الذي لحق بوطنه .. أليست غرف الانتظار متشابهة وإن اختلفت الشكليات فيها ؟ بلى .. ومن تجربة شخصية أقول : لافرق بين انتظاري وأسرتي قبول لجوئنا حتى الآن مدة ستة أشهر في السويد ، وبين غرف الانتظار التي كان الجنود الأمنيون الذين كانوا يتعمدون إبقائي فيها في الفرع 215 للمخابرات العسكرية ، حين تم استدعائي للتحقيق فيها ثلاث مرات قبل الهجرة وللتفاصبل بقيات .. وتلك كانت اللحظات الأصعب في حياتي ومازالت.. أي .. أن تشهد تعذيب الآخرين وأنت عاجز عن فعل أي شي.. لافرق إذاً في غرف الانتظار سوى بالشكليات.. مادامت المواجهة لأسئلة المصير هي ذاتها .. ولا شيء آخر حتى الآن !!!..
ولأن نار التجربة مازالت تكوي ولم تُحلْ روحي بعد إلى رماد فإنني أبعثها مع مطلع كل صباح إلى أرض الشام وأهل الشام .. وعلى جناحي طائر الفينيق عطر قصيدتي :
الضباب خارج نافذتي لكن الشمس دائما في قلبي..