صفحات العالم

..والسدود المائية التركية ـ الإيرانية هل تغيّر من طبيعة سوريا والعراق؟

سليمان الشّيخ

في ظل الضجيج السياسي والإعلامي، والمعارك الشرسة بين الكر والفر، إن كان في سوريا أو العراق أو تركيا، والطوفان الإعلامي بين الحقيقي و»المفبرك» من الأخبار والدسائس وحراك الشعوب ومقاومتها؛ وهي تتعرض للقتل، أو وهي تقتلع من بيوتها وأراضيها وتجبر على تركها، لتهيم بعد ذلك في ديار الغربة والتشرد، ومواجهة مآسي الفاقة والعوز والترحال والمعاناة، وتدبير اللقمة و»الملبس« وأي مساحة توفر القيلولة أو النوم بأمن وأمان لاستمرار أدنى شروط الحياة.

في ظل هذا الضجيج، ما زالت مياه الأنهار التركية والإيرانية تصب حتى الآن، أو أقل القليل منها قي المجاري التي عرفت ذلك منذ آلاف السنين، ولا زالت سلطات المياه فيها تقيم سدودا ومشاريع على الأنهار التي تنبع من اراضيها، أو التي تجري فيها، والتي يتوالى جريانها ربما بأقل ما يمكن من كمياتها وصولا إلى مصباتها الطبيعية في سورية والعراق وتركيا كذلك. وإذا كان إنشاء السدود بغرض التنمية وإرواء الأراضي والناس، وإقامة مشاريع زراعية وصناعية وتوليد الكهرباء .. إلخ ما هو إلاّ حق من حقوق الدول وسيادتها على مياه أنهارها التي تنبع وتسير في أراضيها؛ إلا أن ذلك يجب وحسب القوانين الدولية للمياه، ألا يتم على حساب الدول المشاطئة، أو التي تجري فيها مياه الأنهار، بعد أن تجتاز الحدود الأنهار التعاقبية أو الدولية وتحدد تلك القوانين كميات المياه العابرة للحدود ونوعيتها ومواصفاتها ومواقيت الحاجة وذروتها إلخ. إلا أن الأمر لم يتم يوما ضمن شروط القوانين الدولية، أو من ضمن التزامات الجيرة ومترتبات المساحات والمسافات التي تجري فيها الأنهار في دول الجوار؛ إذ أن الأمر ومنذ عشرينات القرن الماضي، عندما استقل العراق عن الدولة العثمانية التركية، وعندما استقلت سورية في أربعينات القرن الماضي عن الاستعمار الفرنسي، فإن مشكلة مياه دجلة والفرات، استمرت قائمة، في الفيضانات المدمرة في سورية والعراق وفي تركيا وإيران أيضا في المراحل الأولى، ثم في الشح والندرة والحجز وتقليل الكميات أو التلاعب بمواصفاتها، منذ مباشرة بناء بعض السدود منذ سبعينات القرن الماضي في دول المنبع وفي دول المجرى والمصب أيضا.

واستمرت العلاقة بين دول المنبع ودول المجرى والمصب هشة وحذرة، وربما قابلة للوصول إلى تراشقات إعلامية وتهديدات. وكانت معدلات الدفق المائي تنخفض أحيانا إلى مستويات قياسية لا تروي أرضا ولا ناسا ولا تولد كهرباء. كما حصل في عام 1990 عندما حجزت تركيا مياه نهر الفرات كي تعبئ سد أتاتورك أكبر السدود التي بنيت على نهر الفرات، ولمدة شهر كامل، ما أدخل سورية والعراق في أزمة شديدة التعقيد والأذى والضرر.

فورة بناء السدود

كما إن علاقة إيران مع العراق حسب الحكومات القائمة أخذت تشهد المد والجزر إياه بين فترة وأخرى، خصوصا بعد أن لجأت إبران إلى إنشاء عشرات السدود على أنهارها العابرة للحدود، والتي تصب أو كان بعضها يصب في العراق، ومع أن عشرات الاجتماعات الثنائية أو الثلاثية، وعقد المؤتمرات المحلية والدولية أقيمت منذ أربعينات القرن الماضي لحل وحلحلة مشاكل المياه بين الدول المشار إليها، وكانت تصدر توصيات وقرارات وبرتوكولات، وتوضع خطط ومشاريع ما زالت تصدر مع ذلك فإن المشاكل ما زالت تتوالد، وأحيانا تتفاقم، لا سيما في مواسم الشحائح المطرية في بعض السنين. ومع إن الأتراك أعلنوا أنه أصبحت لهم «صفر مشاكل» مع دول الجوار في السنوات القليلة الماضية، بل وأن مشروعا مشتركا بين سورية وتركيا لإقامة سد على نهر العاصي ينبع من لبنان ويسير مسافة 571 كلم ليصب في البحر المتوسط أطلق عليه اسم «سد الصداقة» بوشر في وضع حجر الأساس له بين تركيا وسورية منذ سنتين، وعلى اراض كان مُختلفا على تبعيتها، هي أراضي لواء الاسكندرون حسب الأدبيات السورية منذ أربعينات القرن الماضي، ومحافظة هاتاي حسب الأدبيات التركية. إلا أن ما حصل في سورية في الفترة الأخيرة، أوقف السير قدما في المشروع، وازدادت المشاكل وتفرعت واقتربت من دق طبول الحرب بين البلدين، خصوصا بعد تدفق آلاف اللاجئين السوريين إلى تركيا، وتوفير الأخيرة بيئة حاضنة للمعارضة السورية، إن كانت سياسية أو عسكرية. إلا أن السؤال المسكوت عنه، في ظل هذا الضجيج والضباب : ماذا عن المياه وماذا عن السدود في تركيا وإيران؟ وما مدى تضرر سورية والعراق من إقامة تلك السدود؟ وما هي حجج سلطات المياه التركية والإيرانية في هذا المجال؟

علينا الانتباه إلى أن فورة في بناء السدود قد حدثت وتحدث منذ سبعينات القرن الماضي وحتى ما بعد اليوم؛ إن كان في تركيا أو سورية أو إيران أو العراق، بما فيه الشمال الكردي. كما ويتم التداول في محافظة البصرة لبناء سد فيها، بعد أن تم ملاحظة نقص المياه في بعض أهوارها، على الرغم من أخطار الهزات الأرضية التي قد تنشأ من جراء بناء السدود. ومن يكابر ليذكر بأن المياه وكمياتها ومواصفاتها التي كانت تتدفق في مجاريها المعتادة منذ آلاف السنين، ستكون هي نفسها بعد إنشاء السدود ومحطات الكهرباء ومشاريع إصلاح الأراضي وإرواء الناس وغيرها من مشاريع، إن من يقول ذلك، يكون في وهم كبير ويخدع نفسه خداعا كبيرا؛ إذ أن سد أتاتورك والسدود الأخرى على نهر الفرات تصادر نحو 60 في المئة من مياه النهر وفروعه حسب بعض المصادر – . كما أن مشروع «الغاب» في الجنوب التركي خطط له كي يستوعب 100 مليار متر مكعب من المياه، ما سيحرم العراق على سبيل المثال من ثلث مساحة أراضيه الصالحة للزراعة، فضلا عن تسببه في نقص الحصص المائية التي تؤثر سلبا في مجالات مياه الشرب وتوليد الطاقة والصناعة. كما إن سد «أليسو» التركي على نهر دجلة سيصادر 50 في المئة من مياه النهر في حال الانتهاء من إنشائه في العام 2014. وذكرت مصادر أخرى أن سد «أليسو» سيستكمل ببناء سد «جزرة» ما يؤدي إلى تحويل أغلب كميات المياه من نهر دجلة إلى الأراضي التركية قبل عبورها الحدود التركية العراقية.

وتضيف المصادر أن كميات المياه الشحيحة عندها التي ستصل حينها إلى العراق ستكون على درجة ملوحة عالية التركيز. الغريب أنه وفي الوقت الذي كانت تركيا تعلن أن لديها «صفر مشاكل» مع جيرانها ومحيطها، وفي الوقت الذي كانت فيه حرارة الصيف قد تجاوزت الأربعين درجة في سورية والعراق، وعندما صودف وجود رئيس الوزراء التركي أردوغان في زيارة للعراق، كانت كميات الدفق المائي تتدنى إلى 230 مترا مكعبا في الثانية، علما إنه يحتاج إلى 700 متر مكعب في الثانية لتغطية احتياجاته. وعندما عرض الأمر على رئيس الوزراء التركي أثناء الزيارة، أمر بزيادة كميات الدفق المائي إلى الضعف، إلا أن الأمور عادت إلى مستواها المتدني بعد ذلك.

عابرة للحدود أم دولية؟

فما هي حجة سلطات المياه التركية، ومن ثم الإيرانية في التحكم بدفق كميات المياه إلى جيرانها، إن كان في الزيادة أو خصوصا في الحجز والنقصان؟ ذكر الرئيس التركي الأسبق سليمان ديميريل أنه «إذا كانت الثروة الطبيعية في بلدنا، فلنا الحق في استعمالها بالطريقة التي نراها مناسبة، إن المياه تنبع في تركيا ولا يمكن لدول المجرى الأدنى أن تعلمنا كيفية استعمال ثرواتنا. هناك منابع نفط في كثير من البلدان العربية، ونحن لا نتدخل في كيفية استعمالها». ويفصّل الدكتور صبحي العادلي في كتابه «النهر الدولي المفهوم والواقع في بعض أنهار المشرق العربي» الصادر في العام 2007 عن مركز دراسات الوحدة العربية، يفصّل في نقل وجهة النظر التركية في هذا الأمر، فيذكر» أن وجهة النظر التركية تعتبر مياه نهري دجلة والفرات عابرة للحدود، فلا تنطبق عليهما تعريفات الأنهار الدولية، وبذلك فإن مياه النهرين خاضعة حصرا للسيادة التركية إلى حين وصولها إلى الحدود، وتعتبر تركيا أن النهر الدولي هو النهر الذي يرسم حدودا بين دولتين متشاطئتين، وبالتالي بحسب هذا الرأي لا يصبح نهر الفرات نهرا دوليا، إلا حين ينضم إلى دجلة في الأراضي العراقية، ليشكل شط العرب الذي يحدد الحدود العراقية الإيرانية». إلا أن الباحث العادلي يورد وجهة نظر لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة، حيث ذكرت في تقرير لها أنه «في ما يتعلق بالاقتراح الداعي إلى استخدام مصطلح المياه العابرة للحدود، بسبب استخدامه في اتفاقية معقودة أخيرا، فتلك مسألة صياغة، ولا يوجد اختلاف جوهري بينه وبين المجرى المائي الدولي، ولا يترتب على استعمال هذا التعبيرأو ذاك أية آثار قانونية«.

إلا ان الأمور في النهاية لا تخضع إلى حجج قانونية مقابل أخرى، بل يحكمها في أغلب الاحيان تغليب المصالح الذاتية وقوة الأمر الواقع؛ وذلك بحجة أن منابع الأنهار لدينا. هكذا يمكن تلخيص مشكلة المياه بين تركيا وإيران من جهة ، وسورية والعراق من جهة أخرى. أما بالنسبة إلى المياه التي تنبع من إيران، فإن الدكتور العادلي ذكر في كتابه سابق الذكر: «وبالنسبة إلى إيران، فقد لجأت إلى تحويل أغلب الروافد المائية التي تغذي نهر دجلة في الأراضي العراقية نحو أراضيها نهر قارون ونهر الوند وغيرهما ما خفض المياه المتدفقة باتجاه الأراضي العراقية وأساء إلى نوعية المياه التي ما زالت متدفقة«.

هذا ويمكن الإشارة إلى أن تركيا باشرت ببناء سد ضخم على نهر دجلة منذ العام 2007، يبعد عن الحدود العراقية نحو 50 كيلومترا، أطلق عليه اسم «أليسو» وتأمل سلطات المياه التركية الانتهاء من إنشائه في العام 2014، وهو من ضمن عشرات السدود الضخمة التي بنتها وتبنيها تركيا في جنوبها، وبالرغم من معارضة سكان الجنوب التركي، خصوصا في منطقة «حصن الكهف» أو «حسان كييف» حسب التسمية التركية، وترتيبهم القيام بمظاهرات عارمة ضد إنشاء المشروع في منطقتهم، ورفع شكاوي وعرائض إلى المنظمات الدولية ضده، كونه سيزيل «متحفا طبيعيا» من الآثار المنقورة في الصخور، وحصنا تاريخيا لعب دورا مهما في ردع ومقاومة غزوات عدة منذ مئات السنين، وهو يقع على تلة مهمة مرتفعة من تلال المنطقة التي يحاذيها النهر في جريانه الدفاق. مع ذلك فإن سلطات المياه التركية لم تأبه لا بالمظاهرات المحلية، ولا للمناشدات الدولية في الإبقاء على الحصن أو تغيير مكان بناء السد.

إن السوريين والعراقيين مقبلون على مواجهة أزمة وجود وحياة، في حال إتمام إنشاء السدود التركية والإيرانية، فما الذي تملكه السلطات الرسمية السورية والعراقية في ظل المواجهات القائمة فيهما من خطط وإجراءات لتفادي الأخطار الداهمة التي قد تؤدي إلى تصحير مناطق واسعة في البلدين؟

إن اللجوء إلى المحاكم والجهات الدولية المختصة بالمياه، وعرض المشكلة الحياتية عليها، هي إحدى وسائل الدفاع عن النفس والوجود والمستقبل، هذا بعد استنفاد كل وسائل الحث والاتصال والمناشدة وإجراء المباحثات والمطالبات مع الجهات المختصة في تركيا وإيران. كما إن تفعيل لغة المصالح في هذا المجال هي من وسائل الدفاع والضغط التي قد تؤثر في مجريات هذه المشكلة الداهمة، والكارثة التي تتدفق كتدفق مياه الأمطار والأنهار في بعض الأحيان.

إن العام 2040 أو في أحسن الأحوال في العام 2050، هما التقديران اللذان يضعهما بعض الخبراء في ما يمكن لتغلغل المآسي المائية في الحياة السورية والعراقية من الوصول بها إلى كوارث محققة في البلدين. فهل تفعيل لغة المصالح المشتركة، يمكن لها أن تعطل بعض السير الحتمي نحو كوارث يمكن أن تحمل صفة الحتم والتحقق؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى