شهادة قدمها مكاوي سعيد في البحرين قبل شهر من رحيله
سيد محمود
قبل شهر من وفاته المفاجئة أمس، زار الكاتب مكاوي سعيد مملكة البحرين بدعوة من الشيخة مي آل خليفة وقدم شهادة عن تجربته الرواية بمركز الشيخ إبراهيم، وقد وصلت الشهادة لمحرر الأهرام العربي بسبب صداقته بالكاتب وعن طريق الشاعر البحريني قاسم حداد وكان الكاتب الراحل يعد لنشرها قريبا، وها هي تنشر بعد وفاته تحية لذكراه وبأمل توثيقها كشهادة متكاملة عن تجربته في الكتابة والحياة.. وإلى نص الشهادة:
كيف صرت كاتباً
مشواري عبر أروقة السرد ودهاليزه وعوالمه
فضلت تجنب ذكر المصطلحات والمفاهيم والمدلولات النقدية المعنية بالسرد وتقنياته، باعتبار أن الغالبية المعنية بفن الكتابة تعرفها أو تعرفت عليها، كما أن إعادة كتابها بقوالبها المعتادة لن تضفيَ جديداً للقراء والكتّاب ؛ لأنها تفتقد إلى الخصوصية التي تميز كل كاتب عن نظيره، لكن الكتابة؛ الكتابة فقط في أشكالها كافة، النثرية والشعرية والنقدية حتى وصولاً إلى الخاطرة والتدوينة، تحمل بعضًا من جينات كاتبها ، وتتسم ببصمة يستطع القراء والكتاب والمختصين تمييز كل كاتب من خلالها.. لذا فسأكتب عن رحلتي في الكتابة ومشواري الطويل عبرها وما سببته لي من فخر وحب وترضية برغم بعض الآلام التي أكسبت تجربتي ثراءً وأصقلتها.. سأكتب كيف صرت كاتباً.
الكتابة كانت بالنسبة لعائلتي الصغيرة بوابة سحرية لم يجرؤ أو يتاح لأحد منهم ولوجها أو اكتشافها لظروف عدة، فقد كانت أمي أمية تماماً، بينما أبي على إلمام بسيط بالعمليات الحسابية غير المعقدة، وعلى معرفة بالحروف العربية غير كاملة ، وإن كانت تتيح له أحيانا معرفة بعض الجمل البسيطة وقراءتها..تعلم بعضها عقب قضاء شهور قليلة في كُتّاب القرية، ثم صرف النظر عنه أو صُرف منه لسبب ما –الله أعلم- ولم يكن ذلك مهما في عالمه الضيق بالقرية، وحتى عندما انتقل إلى العاصمة (القاهرة) ليعمل بها، واستقر بها مع أمي، لم تكن القراءة والكتابة تهم أيهما أو يعتقدان أنها قد تفيدهما يوماً، لذا لم يأبها لتعليم ابنهما البكر أو التفكير في إدخاله مدرسة ما لتعلم الأبجدية، حتى بلغ هذا البكر الثماني سنوات، وكان مقدراً له أن يلتحق بالعمل اليدوي في إحدى الورش الميكانيكية عند بلوغ سن العاشرة، في العام الذي ولدت به، فقد كان البكر هو شقيقي الأكبر الذي تفصلني عنه سنوات عشرة .
وكان الحال في البلاد قد تغيرتْ منذ سنوات قليلة بقيام الثورة ووصول جمال عبد الناصر إلى الحكم، وأقر بأحقية كل مواطن في التعليم، وسرت شائعات أو رُددت أقاويل في الصحف بأن الدولة ستجرم كل أب لم يدخل أبنائه الذين بلغوا سن الدراسة “ست سنوات” بغرامة قدرها عشرة جنيهات والسجن ثلاث سنوات، قال لي أبي بعدة بسنوات بأن فكرة السجن لم ترهبه بقدر ما أزعجه مبلغ الغرامة وظل لأيام يفكر في كيفية تدبيرها ، ولو دبرها فهل يستطيع يوماً تسديدها للدائن، وفي غضون أيام قلائل استكمل أبي الأوراق المطلوبة لقيد أخي كقيد الميلاد وصورة من بطاقة هوية الأب، وتمكن من قيد أخي في المدرسة.
وما كان أبي يعتقده من أنها شدة وتزول أو على رأي المثل “الغربال الجديد له شدّة”، وستعود الأيام إلى سابق عهدها، ويستطيع حينذاك إخراج أخي من المدرسة وإلحاقه بالعمل ليكون مسانداً له في ما يتطلبه مصروف البيت، لكن اهتمام الطفل بالمدرسة وانكبابه على مذاكرة ما يحصله من دروس بالبيت دون مساعدة من أحد، وبهجته بأصدقاء الدراسة وضيقه من الأجازات، ومشواره هو اليومي لإحضار ابنه من المدرسة وإيداعه فيها، وثرثرته مع الأهالي في انتظار جرس انصراف التلاميذ، صرفت الأب عن التفكير في التحايل لإخراج الولد من المدرسة، وبخاصة ما رآه من اهتمام الأم بتحصيل الطفل في المدرسة ومجاراة جاراتها في الحديث عما يدرسه الطفل والوجبات التي تمنح لها والنجوم الحمراء التي توضع في الكراريس الدالة على التفوق، وكلما مرَّ عام بدا اهتمام الأب يكبر بالمدرسة وبضرورة وجود ابنه فيها، كما بدأ يدخر كل عام ليكون جاهزاً في بداية العام الدراسي بما تستلزمه الدراسة من كراريس وأقلام ومساطر ومسّاحات ومرايل وحذاء جديد، ولما نجح الطفل في الشهادة الابتدائية بتفوق يسمح له باستكمال الدراسة في المدارس الإعدادية وزعت والدته الشربات على الجيران وسار أبوه منتشياً فخوراً، وتبدلت خطته من أن يعمل ابنه في أي عمل يدوي بأن يصيراً موظفاً حكومياً له سلطة ومهابة.
عندما دخلت المدرسة في السن المحددة ، كان أبي قد تغيرت فكرته عن التعليم، وتدرب جيداً بملازمته أخي، وأصبح يسألني يومياً عما درسته وعن معاملة المعلم لي وهل أخطأت كثيراً وما دفعه لضربي، وليتأكد من صدقي كان يفحص بدقة كفي اليمنى ثم اليسرى كأنه يتشمم آثار عصا أو قرصة ما فركت أذني وتركت علامة، ويتسلم الشهادة المدرسية التي كانت تقدم لنا كل ثلاثة شهور ويدقق في الأرقام ويعاتبني لو درجتي كانت متوسطة، وكانت أمي تحتفظ بهذه الشهادات الورقية بداخل مجلة من مقتنيات أخي الذي كان قد بدأ يقرأ ويشترى أحيانا مجلات فنية، وضبطت أمي تُرى هذه الشهادات للجارات وهي مبتسمة، أمي الجنوبية التي لم أشهدها تضحك بصوت في وجود أبي أو في غيابه، أو ترتدي ملابس ملونة حتى في الأفراح طبقاً لعادات أهلنا، كانت تبتسم من تفوقي، وكانت الجارات يخرجن ويعدن بشهادات مماثلة لأبنائهن. وكبرت قليلا وأصبح أبي يقنن لي أوقات لعبي، وإذا ما تأخرت في اللعب يقتحم الشارع الذي كنا نتخذه ملعباً ويشير لي من بعيد، فيتوقف اللعب والكون كله وأنا أُجرُّ من يدي وهو يلومني بشدة ويحذرني بمنعي من اللعب نهائياً إن تكررت، وكنت إن نسيت وفعلتها مرة أخرى يمنعني فعلا من اللعب أو التمشية مع أصدقائي، ثم سرعان ما يسمح لي بمواصلة أداء هواياتي بمجرد أن يحس بمدى حزني، وكانت أمي رقيباً أشد في البيت في الفترة التي يغيبها أبي سواء في عمله أو في مسامراته مع أصدقائه، إن ضبطتني وأنا مشغول عن المذاكرة بسماع الراديو أو بقراءة مجلات الأطفال أو الكبار التي كان يحضرها أخي، كانت تغلق الراديو أو تجذب من يدي ما أتصفحه وتؤمرني بمعاودة المذاكرة، وبمرور الوقت عندما أحببت القراءة خاصة الموجودة في المجلات والكتب غير الدراسية، كانت المراقبة أشد وكنت قد تعلمت كيف أتحايل عليها بدس الكتاب الذي أنا مستمع بقراءته وسط أي كتاب من كتب المنهج الدراسي، لكني يبدو أن قراءة كتاب أحبه تختلف تماماً عن قراءة كتاب مفروض علينا قراءته طبقاً للمنهج الدراسي –كما عرفت عند الكبر- كانت ملامحي يبدو عليها الاستحسان والتمتع بما أقرأه، ولم يغب ذلك عن فراستها الفطرية ، فتظاهرت بأنها ستعد لي الشاي ثم غافلتني وأتت من ناحية ظهري وضبطتني متلبسا بقراءة الكتاب غير المدرسي، فنزعته مني بغضب شديد، وغادرتني بدموع حقيقية وأغلقت عليها غرفتها، وغرقت في همي ومصيبتي لم أكن مهتما بتهديدها بالشكوى لوالدي ولأخي، ولا بفكرة أن يضربني ويهينني أحدهما، كنت مهموماً بأني أغضبتها إلى حد البكاء، وأنها قد لا تصالحني للأبد، فقد خبرت خصومتها للأقارب وللجيران وكنت أرى بعيني وأسمع بأذني، رغبة من ضايقها في مصالحتها بعد فترة كبيرة وكيف كانوا يرسلون ناس طيبين للشفاعة، وكيف كانت تردهم حتى لو كانوا أعزاء على قلبها، مرت الساعات القليلة حتى حضور أخي ثم والدي كأنها دهور، ثم سمعت دعوتها لهما وطلبها بإغلاق الغرفة عليهم، ثم خروج الأب والأخ دونها كما توقعت، والصفعة القوية التي نلتها من أبي وتوبيخ أخي، لكنني كتمت ألمي كما كتمت دموعها، وانسحبت كي أنام دون أن أتناول طعام العشاء، وحتى عندما دخل أخي غرفتنا وأبلغني بأن أبي يدعوني للعشاء، رفضت الخروج ونمت مستاء إلى الصباح.
كلما كبر أخي عاماً كان يدخل في مستويات أعلى للقراءة بحكم فارق السن، لكنه ظل يشترى مجلات الأطفال ويطوف عليها سريعاً ثم يتركها لي، ولأنه أغرم بالقراءة وظل كذلك حتى نهاية حياته، فقد أفادني ذلك جداً، لأنه بدأ يقتني الروايات البوليسية الأجنبية ويحبها ويكثر من شرائها أو مبادلتها مع أقرانه، ودواوين الشعر لصلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي ومجايليهم، وكنت اقتفي خطاه وأقرأ كل ما يصل إلى يدي، رغم سخريته مني لأني أقرأ كتب أكبر من سني، واختباراته لي بقراءة بعض سطورها أمامه وسؤاله لي عن معناها، حتى يتأكد من أنني أعي ما أقرأه..ثم إعجابه بقدرتي العالية على القراءة وإفهام أمي وأبي أن تلك الكتب تفيدني في الدراسة ولا تعطلني، وأحب أخي الروايات العربية وبدأ يشترى روايات لنجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف إدريس ويوسف السباعي وأمين يوسف غراب وحنا مينا والطيب صالح وآخرين، وهنا وجدت متعتي الحقيقية حتى أني بدأت أهمل قراءة مجلات الأطفال وأبدأ في قراءة الروايات حتى لو لم يكُمل أخي قراءتها، وكان ذلك يثير غضب أخي ويلومني بعنف حتى لم أعد أفعل هذه الفعلة وأقرأ قبله كتاباً كان له، وكان يكافئني عند نجاحي الدراسي بكتاب أو كتابين لأحد الكتاب الكبار مثل طه حسين أو العقاد أو توفيق الحكيم.
أول نقود أحصل عليها من الكتابة كان عن قصة للأطفال رسمها الفنان التشكيلي الكبير فيما بعد “صلاح عناني” ، وبعد النشر تسلمت شيكا مصرفيا باسمي الثلاثي، وأريته للعائلة ورأيت نظرة محبة لم أنسها مطلقا، وتساؤلًا مكبوتًا كنت أشاركهم فيه..هل الكتابة التي يُضيّع فيها هذا الطالب وقته لها مردود مالي؟. وكان المبلغ كبيرا بعد تحويله إلى العملة المصرية، ورغم حاجتي له التي يعرفها أبي جيداً بعد دخولي الجامعة في عامها الأول، إلا أنه طلب مني أو على الأصح نصحني بأن أحتفظ بالشيك باعتبار أنه أول مقابل مادي لكتاباتي، لكنني صرفته في أول فرصة على الاحتفال بهذه المناسبة مع أصدقائي، وفي الحقيقة كانت لهذه المكافأة دوراً كبيراً فيما بعد لامتهان الكتابة والاعتماد عليها وتغيير مهنتي كمحاسب فيما بعد إلى كاتب، كما أنها عززت هوايتي أمام العائلة وتوقف لومي على تضييع الوقت في القراءة والكتابة وإهمال الفروض الدراسية، ومن تلك اللحظة ظل حبي للكتابة للأطفال مستمراً حتى الآن، فقد كتبت ونشرت في معظم مجلات الأطفال العربية والمصرية، ونشرت العديد من روايات الأطفال أخرهم منذ عام، رغم المقابل الضئيل الذي يمنحه الناشرون لهذه الكتب، ورغم مكاسبي الكبيرة من الكتابة للكبار سواء أكانت روايات أو مقالات تجمع في النهاية في كتب ، إلا أن امتناني لما قدمته لي كتب الأطفال في بدايتي بصفة خاصة في مجال تنمية الخيال، والأجور التي دعمتني في أول مشواري، تجعلني أخصص لهم على فترات قصيرة دورية أعمالا لهم. ثم بدأت تظهر صوري في فترات قليلة في الصحف، وكان هذا انتقالا مذهلا أثر في أهلي وجيراني أولاً، وبات لا يدهشني أن يدخل أبي يده في جيب سيالته ليخرج منها ورقة صحف مطوية يعطيها لي وهو يبسم ويخبرني بأنها قد تفيدني لأنه سمع وهو بالمقهى يلعب الدمينو أنها مقالة جيدة لكاتب كبير يتناقشون ويتجادلون حولها..أما أمي التي كانت العفاريت تتقافز على كتفيها عندما تراني أقرأ المجلات وسط العام الدراسي أو أكتب في كراسة وليس أمامي أحد الكتب المدرسية، كنت أبحث منهمكاً فوق مسوداتي الموضوعة على ظهر المكتب، وكانت تراقبني بعد أن وضعت الشاي أمامي، ثم سألتني هل فقدت شيئاً؟..فقلت لها بلا اهتمام: أبحث عن إحدى وريقاتي؟. طلبت مني البحث في سلة القمامة الموضوعة أسفل المكتب، فأخبرتها أني انتهيت من البحث فيها، فخرجت من الغرفة وعادت بصندوق صغير من الكرتون ملئ بالأوراق الصغيرة التي كنت ألقيها في السلة يومياً، وأشارت لي بالبحث فيها وفعلا وجدتها، وسألتها مندهشاً لماذا تحتفظ بالأوراق التي سبق أن رميتها، فأجابت بجدية: لأني كنت متأكدة أنها أوراق مهمة وقد تعود للبحث عنها!. هذا هو العالم الذي صنعته لي الكتاب داخل بيتنا ووسط عائلتي الصغيرة.
والتحقت بالمرحلة الثانوية وقد كبرت لدرجة التصرف بمفردي في الحصول على الكتب والدواوين الجديدة التي أسمع أو أقرأ عنها، عندما عرفني بعض الزملاء من هواة القراءة أيضاً على بائع صحف ومجلات مقره بالقرب من مدرستنا، ويؤجر الكتب الجديدة والمجلات الشهرية لمدة أسبوع بمبلغ ضئيل؛ بشرط إعادته دون تمزيق أو كتابة بالقلم على صفحاته، وكان هذا الرجل هو المعين الثاني لي بعد أخي في القراءة، فالمدة الوجيزة التي يمنحها لنا جعلتني أقرأ بسرعة حتى أرد الكتاب في موعده، وما يفوتني من القراءة وأحس بأهميته كنت أنسخه على ورقة من الكراسة وأحتفظ بها حتى يحين وقت قراءته، كما أن التزامي بشروط هذا البائع جعلته لا يمنع عني كتاباً مهما غلا ثمنه، أو ندر وجوده، ومن هنا قرأت أغلب ما كانت تصدره المطابع العربية، وباتت لي ذائقتي الخاصة في الشعر بعد إضافة شعراء مذهلين لم أكن أسمع عنهم كمحمد الفيتوري والسياب وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش والجيل الجديد من الشعراء المصريين كأمل دنقل وعفيفي مطر، والكتاب والروائيين الجدد كبهاء طاهر وجمال الغيطاني والبساطي وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وآخرين، ولم يخل الأمر من وصاية! فبقدر دهشة أخي الكبيرة من الكتب التي بدأت أقرأها ولم يكن قد سمع عنها، بنفس هذا القدر كانت دهشتي عندما امتنع بائع الصحف عن تزويدي بأي من الكتب والمجلات رغم أني لم أخالف له اتفاقاً، وكدت أبكي أنا أسأله عن السبب، وهو يربت ظهري قال أنه قد أخذ على نفسه عهداً أن لا يمنح أحد التلامذة كتباً ولا مجلات قبيل امتحانهم، وأكد أنه لن يستثني أحداً، ثم وعدني بمعاودة تزويدي بالكتب الجديدة بمجرد انتهاء الامتحانات، وطلب مني عند ظهور شهادة نجاحي أن أحضرها له لكي يراها، وأنه حينها سيمنحني عشرة كتب أقرأها مجاناً طوال فترة الأجازة، وقد وفى بوعده عند نجاحي.
في تلك المرحلة الدراسية بدأت بكتابة الخواطر الشعرية فيما يشبه الكتابات في المدونات الشبابية الآن وكان يقرأها بالطبع أخي ثم أصدقائي وزملائي وكانوا يتحمسون لما أكتبه مجاملة، كما كنت أحاول كتابة قصص الأطفال على غرار ما كنت أطالعه في المجلات الخاصة بهم، وتحمست أكثر وبدأت أكتب نقداً انطباعيا على بعض المقالات والأفلام لكن لم أنشر شيئاً من هذه الكتابات ولم أملك الجرأة لفعل ذلك، وبمساندة من الأصدقاء الذين دأبوا على استحسان ما أكتبه والطلب مني أن أراسل بعض الصحف لنشره، أطعتهم وأرسلت مقالاً تعقيباً على كاتب يناقش مسألة عامة، ونشرت بعض عدة أيام قليلة والذي نبهني لذلك كان أخي الذي اشترى الصحيفة وأثنى على ما كتبته، ومن خلال أخي عرف والدي بالمقال واشترى أيضا الصحيفة التي بها مقالي وكانت هذه هي المرة الأولى الذي يشتري فيها ورق به كتابة لا طائل من ورائها كما كان يوبخ أخي في الماضي لإنفاقه مالا في هذه التفاهات، وأعتقد أنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي يفعل فيها هذا الأمر، وأنا بصدد تناول مصروفي اليومي منه وهو بجوار أصدقائه، رأيته يطلعهم على المقال وهو يحاول قراءته ويتهجى كلماته بصعوبة بالغة، خجلت جداً وهممت بالتراجع لكن أحد أصدقائه لمحني وأبلغه فناداني مبتسماً وأثنى على ما كتبته وشاركه أصدقائه بمصافحتي والضغط على يدي وتمني مستقبلا باهراً لي، وعند عودتي من المدرسة في المساء وجدت أبي منشغلا بأمر عجيب وأخي يحاول إقناعه بأن الأمر ليس بيدي، كان التوقيع على المقال باسم “مكاوي سعيد”، وجدته يشير إلى الاسم ويطلب مني قراءته بصوت عال، وقرأته كما هو مكتوب، وباغتني بسؤال وهو يشير إلى نفسه: وأنا أسمي إيه؟. أجبته بخوف: حضرتك سعيد محمد، قلب شفتيه وهو يقول: إذن لماذا تكتب اسم أبيك ولا تكتب اسم أبي؟. سكت وأنا أنظر إلى أخي ليتدخل، وظللنا في مجادلة بيزنطية لأكثر من ساعة أخي يكرر أن ليس باستطاعتي أن أذهب إلى مقر الصحيفة وأن أطلب منهم تصحيح الاسم لأني كاتب صغير يكفى أنهم نشروا لي، وأنهم سيرفضون التصحيح وقد يأخذوا موقفاً مني ولا ينشروا لي بعد ذلك، وبعناد الأصول الجنوبية كان أبي يتعنت ويعلن انه سيكون بصحبتي في الصباح وسيصحح الاسم حتى لو أدى ذلك للخناق معهم، ودخلت أمي لتزيد اللهب ناراً وهي تزايد على والدي بأن هذا لا يصح، وأخي المسكين جف حلقه وهو يعدد لهم مخاطر ما قد أتعرض له لو أصر على رأيه، وأنا أبكي بكاء بغير انقطاع واندم على اللحظة السوداء التي دفعتني لكتابة هذا المقال ونشره، لكن في الصبح كان الأمر قد تغير وأخبرني أبي انه لن يذهب إلى الجريدة وطلب من أن أريه ما اكتبه قبل أن أرسله ليرى بنفسه اسم أبيه، وأومأت بالموافقة ولم أرسل شيئا بعدها للصحف لأكثر من ستة أشهر، مما لفت نظر أخي ولعل أبي كلمه في الأمر وأقنعني أخي بمعاودة مراسلة الصحف دون أن أهتم برد فعل أبي، وظل يشجعني ويلح عليّ حتى أرسلت إليهم مرة أخرى ونشر تعليقي بدون اسم الجد، وطالع أبي الجريدة لكنه لم يناقشني في سؤال لماذا تجاوزته ولم أريه كتابتي قبل النشر أو لماذا لم تنشر الجريدة الاسم الثالث للكاتب.
في الجامعة تطور أسلوبي وتحسنت لغتي وبدأت أكتب أشعار لا بأس بها وإن قال عنها أصدقائي ومعجبيّ في الجامعة أنها جيدة، وفي الوقت نفسه كنت أكتب قصص الأطفال وأجرب السرد للكبار، وفي مسابقة جامعة القاهرة للأدب والفنون حصلت على لقب شاعر الجامعة، في ذات العام الذي حصل فيه المطرب الجامعي “أحمد الكحلاوي” على لقب مطرب الجامعة والزميلة الجامعية “إيمان الطوخي” على لقب مطربة الجامعة. وكلاهما اشتهرا فيما بعد، وكنت قد بدأت في تجميع بعض قصائدي تمهيدا لإصدار أول ديوان لي قبل أن أتخرج من الجامعة مستفيدا من شعبيتي كشاعر داخل أسوار الجامعة، لكن في الحقيقة بعد دراسة متأنية واستقصاءات لزملائي في الجامعة، عدلت عن فكرة نشر الديوان لأنني وقد أكون غير مصيب أحسست بأن الشعر ليس طريقي الإبداعي، وان أفكاري ورؤياي من الصعب قولبتها في القوالب والأوزان الشعرية، وحتى لو اتجهت إلى نظم الشعر الحديث النثري –وقد جربت ذلك- فالأولى أن أكتب السرد القصصي والروائي، وبخاصة أنني في هذه الفترة كنت أحضر ندوات أدبية في المقاهي الثقافية ودار الأدباء ونادي القصة، وكنت أقرأ عليهم إنتاجي من القصص وأثنى عليها نقاد وأدبار كبار كالناقد توفيق حنا والقاص يحيى الطاهر عبد الله، وهنا بدأت التجهيز لإصدار مجموعتي القصصية الأولى تحت عنوان “الركض وراء الضوء”.
وجمعتها فعلا وكانت هناك صعوبات جمة أمام الشباب آنذاك للنشر في المطبوعات الحكومية لأن حين يحين دورك دون وساطة قد يكلفك ذلك سبع سنوات من العمر، وكان الحل في أن أطبعها على حسابي، ولم أكن املك مبلغ الطبع حينها ولم أشأ أن اطلب من أخي الذي كان يعمل محاسبا أن يدفع لي المبلغ، لا لأنه سيرفض ولكن رأيت أن هذا سيقلل من صورتي وأهمية الكتابة في نظره، لكن في الحقيقة تعاون معي أصدقائي سواء أكان بجمع المبلغ المطلوب أو تقديم الاقتراحات لتدبيره، وكان منها بما أني مازلت طالباً بالجامعة وأمامي عدة أشهر قبل التخرج أن أتقدم إلى رئيس اتحاد كلية التجارة بجامعة القاهرة لدعمي من صندوق الكلية بأي مبلغ حتى أتمكن من طبع ونشر الكتاب، وبصفتي طالبًا له مساهمات أدبية كثيرة لصالح الكلية وحاصل على لقب شاعر الجامعة، قرر مجلس اتحاد الطلبة شراء عدد 200 نسخة من المجموعة القصصية ودفع قيمتها مقدما مساهمة في الطبع، على أن أورد الكتاب فور الطبع. ودفعوا لي ذلك المبلغ الذي كان بمثابة هدية من السماء، فهو يمثل 50% من تكلفة الطبع، والباقي جمعته من مدخراتي ومدخرات أصدقائي الذي باع أحدهم خاتمه الذهبي لتكملة المطلوب مني، وكانت هذه مكرمة منهم لم انسها مطلقاً.
أمام المطبعة وأنا أنتظر الكتب فوجئت بالمأساة، ألف كتاب في انتظاري وعلي أن أتوجه بهم إلى البيت وسيارات الأجرة ترفض حملهم، وسائقي الميكروباس عندما يسمعون اسم المنطقة التي سيذهبون إليها يرفضون بحجة أن رخص تسيير سيارتهم ستسحب منهم لأن المنطقة مهمة كما يدعون، واستنجدت بصاحب المطبعة الذي أرسل أحد عماله لإحضار سيارة، ولم يفلح الصبي إلا في إحضار عربة كارو مخصصة لنقل الرمال ومواد البناء يقودها حمار هزيل، وحمل العمال على ظهر العربة المكشوف وصمم الحوذي على ركوبي بجوار الكتب بحجة أنه غير مسئول عن الكتب التي ستسرق أو يتخطفها الأطفال، وجلست على بقايا الاسمنت والتراب والزلط وحبيبات الرمال مستندا على بالات الكتب متعرضا لأشعة الشمس الحارقة والعربة يتهادى بها الحمار داخل شوارع حينا والسكان يتلصصون علينا من الشرفات والنوافذ حتى أدخلناها البيت.
وفي اليوم التالي حملت 200 كتاب منها لأودعها في مكتبة الكلية لحين توزيعها على باقي مكتبات كليات الجامعة كما أخبروني، وكما أضافوا بأنهم قد يطلبون نسخاً أخرى لباقي الجامعات. نظر رئيس اتحاد الكلية لكمية الكتب بدهشة ثم سألني عنها، فذكرته بما دار بيننا في السابق، ضحك كثيرا وقال إنه لا يحتاج إلا لخمس نسخ لإيداعها في مكتبة الكلية إثباتا لأنني قمت بالطبع وأضاف بأنه سيجعل أمين المكتبة يعطيني ورقة مخالصة بأنه استلم الكمية بالكامل. وعندما ظهر الاستياء على وجهي ربت ظهري وهو يخبرني بأن وضع كل هذه الكمية في المكتبة ستجعل الطلبة يتعاملون معها بإهمال ويمزقونها وأن من الأفضل لي أن أضمها للمجموعة التي لدي وأوزعها بنفسي على المكتبات وباعة الصحف.
فعلت ذلك بالطبع لكن لم يباع منها إلا القليل لأني لم أكن معروفاً أيامها ولم تنشر أي دعاية عن الكتاب، لكن أثنى عليها مجموعة كبير من النقاد وكبار الكتاب، وتمت مناقشتها في مقهى “على بابا” الذي كان يؤمُّه أيام حضور ألمع وجوه المثقفين وكان على رأس المناقشين الكاتب الراحل “يحيى الطاهر عبد الله”.
وبعد تخرجي من الجامعة مضى طريقي الأدبي متعسراً في البداية خاصة بعد عملي كمحاسب بإحدى شركات المقاولات لمدة طويلة بلغت خمسة عشر عاما، وكان هذا العمل يأخذ جل وقتي وكان إنتاجي الأدبي قليلا حينها، حتى غامرت بعدما اشتهر اسمي قليلا نظرا للجوائز التي حصلت عليها عن الرواية والقصص القصيرة، واستقلت من عملي المحاسبي وقررت الاعتماد فقط على الكتابة وقد تحقق لي ذلك بعد عدة سنوات..لقد كتبت في أشكال السرد كافة..الرواية والنوفيلا والقصة القصيرة وأدب الأطفال والسيناريو الروائي التليفزيوني والتسجيلي والوثائقي والنقد والمقال الأدبي، وقد حصلت على جوائز مهمة وتكريمات من مصر والبلاد العربية وهيئات مصرية ودولية وترجمت بعض أعمالي إلى لغات مختلفة منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والكرواتية والصينية..وكان ذلك في حضور أبي وأمي وأخي، وفي غيابهم الآن أدعو الله أن يتولاهم برحمته وأشكرهم كل الشكر لوقوفهم بجواري في مشواري للكتابة مع أصدقائي الذين آزروني في البداية، والكتاب الكبار والنقاد الذين رعوا موهبتي وحموها من الضياع.