صحة سورية… خطر من كارثة غير مسبوقة/ عدنان عبد الرزاق
أمراض عدّة تنتشر مجدداً في سورية بعد اختفائها قبل زمن. ولعلّ الحرب مع تبعاتها، ولا سيما اختفاء الدواء واللقاحات، وكذلك توقّف المؤسسات العلاجية عن العمل، كلّها تساهم في تدهور صحة السوريين.
“فقدت ساقي نتيجة الإهمال وعدم توفّر مراكز طبية وأدوية في إدلب. كانت الحالة سهلة وبسيطة، إلا أنّها تفاقمت حتى أصبت بشلل شبه كامل فيها”. هكذا يختصر الشاب عبد الحافظ عبود من سرمين في ريف إدلب شمالي، غربي سورية، ما أصابه خلال لقاء مع “العربي الجديد” في عيادات “رابطة علماء الشام” في منطقة الفاتح في إسطنبول. هو كان يخضع هناك إلى جلسة علاج بعدما كان يتداوى في مشفى خاص في العاصمة التركية بالموجات فوق الصوتية، لكنّه لم يستطع الاستمرار بها نتيجة ارتفاع تكلفة الجلسة إلى مائة ليرة تركية (نحو 30 دولاراً أميركياً).
ويحكي عبود، وهو طالب جامعي، لـ “العربي الجديد”، عن حالات صحية في شمال سورية بدأت بسيطة يمكن علاجها لتتحوّل إلى أمراض مزمنة وخطيرة انتهى معظمها بالوفاة، وعن انتشار أمراض قلما يستطيع الأطباء والمتطوّعون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كشفها أو تشخيصها بدقة.
وسوء الرعاية الصحية وشحّ الأدوية ليسا حكراً على المناطق المعارضة والخارجة عن سيطرة النظام. ففي مدينة السويداء، جنوبيّ سورية، الخاضعة لسيطرة النظام، كانت عضّة كلب كفيلة بكشف الواقع المتردي. فقد تعرّض رجل من آل العاقل في قرية أم الرمان في محافظة السويداء قبل أسبوع إلى عضّة كلب، لكنّه لم يتمكّن من الحصول على ما يحتاجه من لقاح مضاد لداء الكلب لعدم توفّره، بحسب ما تخبر نزيهة وهي قريبته. وقد أبلغه الطبيب المعالج بأنّه ليس مفقوداً من مشفى السويداء الوطني فحسب بل من مشافي دمشق وكل مشافي سورية. تضيف نزيهة لـ “العربي الجديد” أنّ “أهله لم يتمكنوا من تأمين اللقاح من لبنان، لأنّ الشروط تقتضي وجود المصاب شخصياً. لكنّ الرجل ما زال في مشفى السويداء يعالج بطرق بدائية، لأنّ وضعه لم يستقر بعد”. وتشير إلى أنّ أهله ما زالوا ينتظرون المنظمات الإنسانية لتأمين اللقاح، في حين أنّ التأخير يمثّل خطراً على حياته.
إهمال وتفشٍ للأمراض
وخلال السنوات الأخيرة، تفشت أمراض كانت قد اندثرت قبل عقود في البلاد ، نتيجة التلوّث، من قبيل الجرب والتهاب الكبد الوبائي والليشمانيا والتهاب السحايا والكوليرا. إلى ذلك، تبقى مؤشرات الأمراض المزمنة والخطرة من قبيل داء السكري والأورام السرطانية، مقلقة.
ويقول الدكتور إبراهيم كامل من محافظة إدلب لـ “العربي الجديد” إنّ “مشكلة الأمراض السارية والمعدية والخطرة في سورية ليست في وجودها فحسب، بل في إهمال التقصي عن الإصابات وإهمال المناطق المصابة، الأمر الذي يزيد من صعوبة تحديد حجم المشكلة البيئية، ووضع أولويات الحلول وتحديد دور الجهات المعنية بالإصحاح البيئي والمكافحة للمساهمة بكسر حلقة سراية المرض”. ويشير كامل إلى أنّ “عدم توفّر الأدوية والاكتفاء بالمسكنات التي يصفها أشخاص من غير أهل الاختصاص بعد خروج المشافي عن الخدمة، إنّما ينذر بتفجّر كوارث صحية وانتشار أمراض كانت منقرضة لخمسين سنة في سورية، من قبيل شلل الأطفال والجرب والكوليرا وغيرها”.
وهذه الحال “ليست محصورة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام”، بحسب ما يؤكد كامل. ويوضح أنّ “العاصمة دمشق وريفها، نتيجة استقبالها أعداداً كبيرة من النازحين والهاربين من الموت، تبوّأت المراكز الأولى بمعظم الأمراض وسط نفاد معظم الأدوية”. يضيف أنّ “محافظة ريف دمشق حلّت في المرتبة الأولى بين المحافظات لجهة الإصابة بالأمراض المنتشرة من حصبة والتهاب السحايا والكوليرا، فيما حلت محافظة دمشق في المرتبة الثانية”.
20 ألف وفاة بالسرطان
كشفت إحصاءات رسمية في سورية أنّ نسبة المصابين بالأورام الخبيثة في البلاد بلغت ثلاثة في المائة من إجمالي عدد السكان، أي أنّ عدد المصابين بلغ نحو 800 ألف مصاب. واحتل سرطان الدم المركز الأول لجهة انتشاره، مع 200 ألف مصاب في العام الماضي، في حين بلغ عدد المصابات بـسرطان الثدي 40 ألف امرأة. أمّا سرطان القولون الذي يعدّ أخطر الأمراض السرطانية نتيجة تأخر اكتشافه، فبلغ عدد المصابين فيه نحو 50 ألف مصاب. يُذكر أنّ سرطان الرئة يحل في المركز الثاني لجهة انتشاره مع 100 ألف مصاب.
كذلك بيّنت الإحصاءات السورية الصادرة أخيراً، أنّ عدد النساء المصابات بلغ 300 ألف، معظمهنّ مصابات بسرطان الدم والثدي والرئة والمعدة، في حين بلغ عدد الأطفال مرضى السرطان نحو 100 ألف طفل، معظمهم مصابون بسرطان الدم. أمّا الوفيات نتيجة الأورام الخبيثة، فقد بلغت فقط في عام 2014، نحو 20 ألف وفاة تشمل 200 طفل و10 آلاف امرأة.
ويرى كامل أنّ “سوء وتلوث الأغذية والبيئة من أبرز أسباب انتشار مرض السرطان بهذه الأرقام المخيفة”، مضيفاً أنّ “عدم توفّر مراكز صحية متخصصة وعدم الكشف المبكر عن المرض يزيدان من الإصابات وكذلك من الوفيات، ليأتي عدم توفّر الأدوية أو ارتفاع سعرها عاملاً إضافياً يزيد المشهد مأساوية”.
شلل الأطفال
إلى ذلك، يؤكد الطبيب السوري نذير زرزور وهو صاحب مشفى في إسطنبول عودة مرض شلل الأطفال إلى سورية، ووصول حالات إلى تركيا من مدن شمال شرق البلاد، من دير الزور والحسكة والرقة. ويقول زرزور لـ”العربي الجديد” إنّ “توقف حملات تلقيح الأطفال والبيئة المسهلة لانتشار العدوى أعادا مرض شلل الأطفال إلى سورية. وكانت بعض حالات قد سجّلت في عام 1999، ليخبو قبل أن ينتشر خلال الحرب بشدة”. ويشير زرزور إلى أنّ أول حالة شلل أطفال وصلت إلى مشفاه كانت في عام 2013، “وقد حذّرت إثرها وزارة الصحة التركية التي نظمت حينها حملات توعية وتحصين”.
وكانت منظمة الصحة العالمية قد أشارت إلى أنّ أكثر من 100 ألف طفل دون الخامسة هم عرضة للإصابة بشلل الأطفال في مدينة دير الزور وحدها. من جهتها، كانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) قد أعلنت أنّ نحو 500 ألف طفل داخل سورية لم يتلقوا اللقاح المضاد لشلل الأطفال خلال العامين الماضيين، لافتة إلى أنّها انضمت إلى منظمة الصحة العالمية لتنفيذ حملة تحصين لملايين الأطفال في سورية والمنطقة ضدّ شلل الأطفال والحصبة والنكاف والحصبة الألمانية.
ويرى زرزور أنّ “التلوّث وتوقّف اللقاحات وسوء التغذية هي أكثر ما يتسبب في تفشي الأمراض في سورية، التي تفاقمت بعد خروج المشافي والمراكز الصحية عن الخدمة ونقص الكوادر”، مناشداً “حكومات الدول المجاورة لسورية والمنظمات الدولية كي تساعد في تطويق الأمراض وتساهم في توفير الأدوية واللقاحات”. ويؤكد أنّ “الأمراض لن تبقى حبيسة الحدود السورية”.
أسعار الأدوية وندرتها
ويتابع زرزور أنّ “ندرة الأدوية في سورية اليوم وارتفاع أسعارها هي من الأسباب التي فاقمت من حدّة الأمراض، وبعضها إلى درجة الموت. فلا يمكن للسوريين المحرومين من غذائهم بسبب الفقر والبطالة أن يشتروا الدواء بعد تحكم المافيات في عرضه وسعره”.
أحمد مستو من حيّ دمّر في دمشق، مصاب بالتصلب اللويحي. يقول لـ “العربي الجديد” إنّ “المشافي الحكومية توقّفت عن توزيع أدوية التصلب اللويحي بحجّة الحصار، بعدما كانت تؤمّنه مجاناً”. يضيف أنّ “المرضى كانوا حتى عام 2012 قادرين على الحصول عليها من الصيدليات، لكنّها نفدت بعد ذلك”. ويتابع مستو أنّ “عدم توفّر أدوية الأمراض المزمنة ينذر بكوارث إنسانية بحسب ما يقول المختصون”، لافتاً إلى أنّه “في حال توفّرت الأدوية المهربة فإنها تكون مرتفعة الثمن ولا يمكن للسوريين نتيجة الفقر شراؤها”.
تجدر الإشارة إلى أنّ وزارة الصحة السورية كانت قد رفعت الشهر الماضي أسعار بعض الأصناف الدوائية المنتجة محلياً والمستوردة على حد سواء. وطاول ذلك نحو ألف و975 صنفاً دوائياً. ويعاني سوق الدواء في سورية بحسب مراقبين، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، من ندرة في الأدوية بمعظمها، وذلك بعد إغلاق الصيدليات وهدم 60 معملاً لتصنيع الأدوية، فتراجع إنتاج الأدوية في البلاد أكثر من 50 في المائة. كذلك، فإنّ الحرب المندلعة منذ ستّ سنوات أدّت إلى تخلّي خمسة آلاف و500 صيدلي عن صيدلياتهم في حين هدمت نحو ثلاثة آلاف صيدلية بحسب تصريحات لنقيب صيادلة سورية محمود الحسن.
العربي الجديد