صعود العائلة الحاكمة وهبوطها: سنتان على انتفاضة درعا
سمير شمس
لا يحاول حسن صبرا إضافة تحليل إلى مجموعة التحليلات التي اكتظت بها المكتبة والفضائيات العربية عن الأوضاع في العالم العربي والتغييرات والتحولات الجارية، خصوصا في سوريا، بقدر ما يحاول أن يجيب عن سؤال يطرحه، أو يضمره معظم السوريين: كيف «عملتها» درعا؟.
كان الهتاف موجها في أواخر فبراير (شباط) 2011، ضد معمر القذافي الذي يعمل القتل في جماهير الشعب الليبي الثائرة: «خاين يللي بيقتل شعبو». أي قبل أسابيع قليلة من ثورة الشعب السوري ضد بشَّار الأسد التي يؤرخ لها في يوم 15-3-2011.
هو الهتاف نفسه الذي اعتمده السوريون، والذي مهَّد لشعار أكثر وضوحا، حين قال السوريون لبشار عندما أذلت عناصره الأمنية شابا سوريا في منطقة الحريقة، قلب دمشق التجاري: «الشعب السوري ما بينذل».
في «درعا» خرج صبية صغار يكتبون على الجدران شعارات معارضة لحكم بشار الأسد، فتمَّت ملاحقتهم واعتقال بعضهم، وقتل أثناء المطاردات عدد من الشباب.
درعا لها وضعية خصوصية في سوريا، فهي منطقة حدودية، طاردة للعمالة في كل أرجاء سوريا ولبنان والأردن، خصبة، غنية بمحاصيلها.. وهي منطقة عشائر كبيرة لها امتداداتها العربية منها «الجوابرة»، وسقط منها أول قتيل، ومنها «المقدادية»، ومنها «النرعيسية». لكل هذا كان الحدث منها ذا تأثير إعلامي واسع.
تحركت العشائر بعد الاعتقالات، وكلما كان يجري تشييع جثمان جديد تتطور الشعارات ويتحول التشييع إلى مظاهرة رفض للنظام «فالشعب يريد إسقاط النظام».
هي عفوية شبَّان استجابوا لدعوة 15 مارس (آذار)، احتضنتها القوى السياسية كلّها، ناصريين، إسلاميين، إخوانا، شيوعيين، بعثيين، وطنيين معارضين للنظام، وعشائر مستقلّة، وشبابا منخرطا في هذه القوى من العشائر نفسها. نعم كانت القوى الحزبية التقليدية تحضِّر لتحرّك ضد النظام شبيه بتحركات شعوب تونس ومصر وليبيا، لكنها استجابت بسرعة لحركة الشبان، وسارع النظام إلى اتهام إسلاميين، ثمّ عدّل خطابه الإعلامي ليصبح المسؤول نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدّام الذي وجّه رسائل إلى بشّار يدعوه فيها أن يدخل التاريخ من باب الإصلاح، حتّى لا يخرج منه من باب الدم.
عندما بدأ حافظ الأسد يهيئ ابنه باسل ليرثه، اختار الأخير عددا من أقربائه كي يشكلوا له نواة أمنية خاصة به ليواكب أجهزة الأمن التي كانت تنمو في تلافيف نظام الأسد الأب، وهي إحدى أساسيات حكمه. واختار عاطف نجيب مسؤولا عن الأمن السياسي في محافظة درعا (حوران سابقا). وهو ابن خالة بشّار وكان شوكة في حلق غازي كنعان يأمر وينهى عن قناعة بأن سوريا كلها ملك لآل الأسد. فراح يؤسس الشركات التي كانت تشتري حاجيات الدولة، وألف مع رامي وحافظ مخلوف، وآصف شوكت كبريات الشركات التي كانت تبيح لنفسها استملاك البلد.
قد يفجأ ممن لا يتابعون الشأن السوري بأن رامي مخلوف ابن خال بشار، وعاطف نجيب ابن خالته كانا الفتيل الذي أشعل ثورة الشعب السوري ضد عائلة الأسد. ففي درعا استملك عاطف نجيب أخصب الأراضي بأبخس الأثمان. وحين انتقل لفترة إلى اللاذقية احتكر جبالها ليحولها إلى بحص وحجارة عبر كسَّارات أقامها فأحال الخضرة إلى رمادي. وفي جبل قاسيون المطل والحاضن لدمشق أراد رامي مخلوف بناء مشروع سياحي ضخم في قمة الجبل، وكان المشروع يستدعي شق طرقات وسط بيوت الناس في ركن الدين والمهاجرين والشيخ خالد، وهذه المناطق تعج بالأكراد مع أعداد من الشركس. أما في المهاجرين فالسكان سنَّة وشيعة. وشق الطرقات العريضة وتشجيرها كان يعني تهجير 10 آلاف عائلة، وكان الحكم القضائي بالإخلاء صدر محددا يوم 28-3-2011 للتنفيذ وأجَّلته الثورة.
يرى المؤلف أن تاريخ سوريا الأمني – العسكري – الاستبدادي يبدأ مع اللجنة العسكرية بقيادة الثلاثي محمد عمران، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، وبدايتها من القاهرة. وتاريخ استبداد آل الأسد يبدأ مع انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في هذه اللجنة واحدا بعد الآخر اعتبارا من 16-11-1970.
يشترك الثلاثي العلوي بصفات وخصال:
أولا: بدأوا السياسة في سن مبكرة، وانتسبوا إلى حزب البعث منذ أن كانوا طلابا في الثانوية.
ثانيا: جميعهم أتوا من الساحل السوري، من خلفية مذهبية واحدة، في وقت لم تعرف فيه سوريا الاختلاف المذهبي والطائفي.
ثالثا: تقدموا على سائر أقرأنهم، بالجد والمثابرة وإظهار الروح القيادية، والانضباط والانصياع لأوامر وتوجيهات حزب البعث.
رابعا: وعوا باكرا مشكلات الحزب ولا سيما بعد الاندماج بين البعث العربي والعربي الاشتراكي ليصبح حزب البعث العربي الاشتراكي حيث طفت على سطح الأحداث خلافات الأمزجة وتباين الرؤى، والنظرة إلى الأحزاب السورية وكيفية التعامل معها.
حتى كان تمرّد ثكنة «قطنا» جنوبي دمشق عام 1956 الذي ترك آثاره لسنوات طويلة، وشكل مدماك بداية هيمنة العسكر على حزب البعث وتداعيات ذلك على الحكمين في سوريا والعراق. قبل ذلك في انتخابات سبتمبر (أيلول) 1954 فاز حزب البعث بسبعة عشر مقعدا، لكن قوته الجماهيرية كانت أقوى بكثير من نسبة تمثيله في البرلمان.
انعكست هزيمة الجيش السوري (وجيشي مصر والأردن) في يونيو (حزيران) 1967 أمام إسرائيل صراعات داخلية حقيقية في أعلى قمم السلطة في مصر وسوريا.
فقد دبَّر قائد الجيش السابق عبد الحكيم عامر محاولة انقلابية ضد جمال عبد الناصر، كانت أخطر مراحلها تدبير محاولة إسقاط طائرة عبد الناصر أثناء توجهه إلى الخرطوم لحضور أول قمة عربية بعد النكسة أغسطس (آب) 1967. تم كشفها وإحباطها واعتقال قادتها وأبرزهم صلاح نصر رئيس جهاز الاستخبارات السابق ومجموعة كبيرة من أنصار عامر الذي انتحر في سبتمبر من العام نفسه.
في سوريا التي خسرت الجولان خلال هذه الحرب عقدت اجتماعات حزبية على أعلى المستويات جرت فيها نقاشات مستفيضة حمّل فيها المدنيون حافظ الأسد بصفته وزيرا للدفاع مسؤولية الهزيمة، بل وتسليم الجولان، خاصة بعد سريان خبر «فضيحة» إعلانه سقوط مدينة القنيطرة قبل سقوطها، وفي الوقت الذي كان هناك عدد كبير من جنود وضباط الجيش السوري ما زالوا في عمق الجولان يتصدون للعدو الإسرائيلي.
نقاشات الحزب الداخلية وعلى أعلى المستويات طالبت بإحالة الأسد إلى المحكمة العسكرية، التي لم تعقد، وظل الأمر في إطار النقاشات الحزبية دون قرارات لأنها مسؤولية المؤتمر القطري.
عقد المؤتمر القطري الذي دعا إليه أمين سر القيادة القطرية صلاح جديد لبحث أسباب هزيمة 1967 ونتائجها. كان هناك شبه إجماع داخل المؤتمر ضد حافظ الأسد بسبب مسؤوليته عن ضياع الجولان، وبسبب «القنبلة» التي فجرها عبد الكريم الجندي بأن حافظ الأسد عميل لأميركا وأنه يملك وثائق تثبت عمالة الأسد للاستخبارات الأميركية.
جرى التصويت ونال شبه إجماع، ونأى مؤيدو الأسد بأنفسهم عنه، ومن بينهم قائد اللواء المدرع في حمص العقيد مصطفى طلاس. وقد رفض الأسد قرارات المؤتمر وأرسل قوات تابعة له، واستخبارات بقيادة علي دوبا وقوات شقيقه، وقوات محمد عمران الذي نجح في جذبهم ضد الخصم المشترك صلاح جديد.
يروي المؤلف حقيقة انقلاب 16-11-1970 من وجهات نظر مختلفة، فقد رفض صلاح جديد النزول المسلح إلى شوارع سوريا قائلا للأسد إنّك لن تورطنا في قتال دموي بين القطعات العسكرية، فنحن سنستعيد السلطة بقوة الجماهير. وكان الأسد يحرض على «جديد» في كل المجالات، وكان معظم السوريين مستعدين لسماع كل ما يحط من شأن «جديد» بسبب قراراته المستفزة لمشاعرهم ومصالحهم الاقتصادية والمادية.
كانت حرب تشرين /أكتوبر 1973 جملة اعتراضية يحتاجها الأسد ليلتقط أنفاسه، فإسرائيل كان يستحيل أن تنسحب من الضفة الغربية، وحافظ الأسد كان سيخلصها من منظمة التحرير الفلسطينية. فأجَّج الأوضاع في لبنان إلى حد انفجار الحرب الأهلية، بعد مقدمات تسخين قادة الصاعقة وجماعات أحمد جبريل.
في مجال آخر، وبعد أن يروي المؤلف أحداثا لا تزال أسرارها طي الكتمان، أو لم تأخذ سبيلها الواضح للنشر, يعقد المؤلف فصلا لعلاقة حافظ الأسد مع أولاده فيقول: هذا الأسد القوي الجبار كانت نقطة ضعفه أولاده. هذا الديكتاتور الذي لا يرحم، لم يمانع في نفي شقيقه إلى الخارج، ولم يمانع في التخلص من رفاقه وأقرب المقربين إليه إذا شعر أو شك أو أعتقد أو ظن أن أحدا منهم يريد منه السلطة، أو حتى مشاركته فيها.
استبدل حافظ الأسد بالحزب، نظامه، وأمنه، وسلطته، وقبل كل هؤلاء أولاده. ربط بين النظام وبينهم، هو والسلطة، باسل والسلطة، يُقتل باسل فيصبح هو وبشار والسلطة، ولو ظل «مجد» حيا حتى لو كان مريضا لسلمه السلطة إذا ذهب بشار أو قتل ماهر.
بشرى كانت ذات شخصية قوية، وحيدة بين أربعة شبان هي كبراهم، كانت ذات دالة على أبيها، وستظهر ذلك بعد فرض زواجها بضابط متزوج ولديه عدة أولاد من زيجات سابقة.
صدمة عمر حافظ الأسد كانت في مصرع ابنه باسل، وكان يحمل كنيته (أبا باسل)، بعد أن كانت كنيته الحزبية أبا سليمان قبل تسلمه الرئاسة.
كان الجيش وأجهزة الأمن في عهد حافظ الأسد صندوقا مغلقا لا أحد يملك مفتاحه غيره. صحيح أن البداية في علوية المفاصل الأساسية في الجيش والأمن كتبت قبل تسلمه السلطة إثر انقلاب 1970، لكنه كان واحدا من الذين كتبوا البداية منذ عام 1963.
كان حافظ يملك الشكل والمضمون معا، أعطى السنة رئاسة المؤسسات كرئيس الحكومة ورئيس مجلس الشعب، ووزير الدفاع، ورئيس الأركان، فكان الشكل منسجما مع الواقع الاجتماعي والطائفي في سوريا. لكن أحدا من هؤلاء القادة لم يكن قادرا على نقل جندي من مكانه، لأن السلطة الفعلية كانت عند علي دوبا، وعلي حيدر، وإبراهيم صافي، ومحمد الخولي وكلهم علويون كانوا يحمون نظام حافظ من استعجال أخيه رفعت لوراثته.
لم يكن أحد من هؤلاء مؤهلا لحافظ، لكنهم نجحوا في أن ينفذوا «أوامر السيد الرئيس». أعدم حافظ الأسد سوريا سياسيا، فلا نخبة سياسية إلا ما يراها السوريون في الإعلام المحنط الناطق ببطاريات فارغة الشحن، ولا أحزاب، ولا نقابيون إلا الذين يبالغون في النفاق. كل السلطة للأسد، ولا سلطة لغير الأسد.
أصبح المهربون وأصحاب السوابق هم الشبيحة وكبرت مؤسسة شبيحة آل الأسد، فلم يعد هؤلاء يهتمون بأمرهم فتركوا هذه المهمة لضباط آخرين يشغلون هؤلاء الشبيحة معهم. أما كيف انتقل الأمر من التشبيح بالسيارات والمسروقات والتهريب إلى مستوى القتل في الشارع السوري ضد المواطنين، فإن هذا حصل مع انفجار الثورة الشعبية ضد بشار. وبعد أن أصبحت الشبيحة مؤسسة أمنية كبيرة على وزن «بلاك ووتر» بحصولها على أحدث الأسلحة والتنظيم والإدارة. وقد ظهر هذا الجيش الرديف عندما بدأت الثورة فاعتمد النظام على قوته الضاربة بلا عقل وبلا أخلاق، بهمجية ووحشية وارتزاق.
الشرق الأوسط