صلاح الدين واسباب الثورة
فداء عيتاني – حلب:
“الله اكبر” يصرخ الشبان المقاتلون في الريف، ويردد صيحاتهم الريفيون وابناء مدينة حلب من الثوار، “تكبير” يطلق احدهم صرخة كل فينة، فيرتفع التكبير مجددا، انها سوريا الثورة، التي تشد فيها مظاهر الاسلمة انظار الاعلام الغربي خاصة، ويتبناها الاعلام العربي سواء ذي الصبغة السنية المؤيد لثورة اسلامية تكرر مجازر العراق، او المؤيد للنظام السوري الذي يعتبر ان اسلمة الثورة السورية تسهل له مهمة ضربها اعلاميا واتهامها بالارهاب.
الغرب يتهم القاعدة بالارهاب، والمؤيدون للنظام السوري يتهمون الثورة السورية بالاسلمة والارهاب ايضا. اما الثورة السورية فشأن اكثر تعقيدا بكثير.
في اللحظات الاولى مع الثوار لا بد للزائر ان يلاحظ الصبغة الدينية، واحيانا الطائفية.
حين ترفع الصلاة يتجه البعض الى المساجد، واخرون يقيمون الصلاة في اماكنهم جماعة، الا انه ومع بداية شهر رمضان كان يمكن ملاحظة العديد من المجموعات المفطرة، مجموعات كاملة، او اجزاء كبيرة من مجموعات قتالية، ابناء العديد من القرى السنية، مناطق في مدينة حلب، او مدن اخرى، لا تلتزم بالصيام، ولكنها تخفي افطارها تأدبا، وتأدية شبانها للصلاة رهن بالعامل الاجتماعي الذي اوجدهم مع ابناء قرى اخرى اكثر تدينا، فراحوا يصلون الى جانبهم، بغير التزام بمواقيت الصلاة بشكل دائم.
هي العادات الاجتماعية، وهو الاسلام الوسطي، الذي بات يتحول الى التشدد مع كل دعاية يطلقها مؤيدو النظام السوري حول التشدد الديني، ولكن لم يعد احد في ريف حلب وادلب يقيم الكثير من الوزن للشيخ عدنان العرعور (على سبيل المثال)، لقد تخطاه الزمن، اليوم اصبحت الثورة مختلفة، والنقيب نمر الذي استشهد في وقت سابق من شهر اب كان يقول “نترك لحانا لاننا لا نملك من الوقت ولا المال ما يكفي لنهتم بها”، النقيب نمر كان وهو يخرج من مدينته عندان يطلق من سيارته اغاني الثورة السورية، من سميح شقير (يا حيف) الى ابراهيم قاشوش.
الحديث الطائفي ممر الزامي: الظلم الذي تعرض له اهل السنة من النظام العلوي البعثي، الاولويات التي تعطى لابناء الطائفة العلوية في التوظيفات، القمع والجلافة التي يتعامل بها الضباط العلويون مع المجندين السنة، الخ الخ.
وحين تسأل عن الشبيحة الذين يرعبون القرى، او يداهمون الناس وهم نيام، يقولون لك انهم من مدينة حلب، او من قرية سنية في محيط مدينة حلب. اي من الطائفة السنية. فينتهي الممر الالزامي، وتذهب اليافطة الطائفية المرفوعة ليظهر تحتها اسباب اشد عمقا للصراع ولانفجار الثورة في سوريا.
حين تدخل الى مناطق كصلاح الدين او السكري تكتشف عالما اخرا، عالما من الفقر ومن الحياة السفلية الممزوجة بمحاولات الموظفين عيش حياة لائقة، كل الخدمات الرئيسية مؤمنة للمواطن السوري قبل الثورة، ولكن نوعية الخدمات التي نتحدث عنها متدنية الى حدود مذهلة: الدراسة، الطبابة، وصولا الى نوعية البنزين والمازوت، كل شيء منخور بالفساد، وها هنا في صلاح الدين وفي السكري وغيرها من مناطق الفقر المحيطة بمدنية حلب تنتشر مباني لم يهتم بانوها باكمالها من الخارج فبقيت الجدران تظهر الاحجار الاسمنتية التي شيدت منها. وحين كانت الدبابات تقصف المباني بمدفعيتها كان يتطاير بدل الاحجار غبار اسمنتي يملاء الشوارع، حتى احجار الاسمنت لم تصنع وفق المواصفات هنا.
مباني انشئت اغلبها بطرق مخالفة للقوانين، تم دفع مبلغ من المال للشرطة وللبلدية، ورشوة قبضايات الحي، الذين سيتحولون الى شبيحة، او ينضمون الى الثورة مع اشتداد عود الثوار، وقام اصحاب المباني بالعمار ليلا، غرف لا تتجاوز اكبرها 3 امتار بـ 3 امتار، جدرانها الداخلية متعرجة، لم يشرف على البناء مهندسون، وانما بناوؤن ذوي خبرة، تماما كما اغلب منازل الريف، وتم صب الاسقف ليلا، وكل ليلة سقف جديد حتى اكتملت الطوابق الاربعة، وقبل ان تكتمل الجدران تبدأ العائلات بسكن هذه المباني، بمبالغ فلكية بالنسبة للمداخيل التي قد لا تتجاوز 15000 ليرة سورية شهريا (300 دولار قبل الثورة و210 دولار اليوم).
تتوزع المناطق الريفية السكن في احزمة البوؤس حول مدينة حلب، اغلب ابناء دار تعزة يقطنون في منطقة الكلاسة، اهالي قبتان الجبل يفضلون السكن في منطقة صلاح الدين، وهكذا تنتشر القرى وابنائها في المدينة، ويعيشون اختلاطا واسعا مع محيطهم بحكم اعمالهم، وحياتهم اليومية، الا انهم يبقون في دائرة فقر مدقع، هم يرونه الى امس قريب مقبول، الا ان زيادة الضغط وارتفاع مستوى الحياة حولهم دفعهم الى تلمس حدود الظلم، التقديمات الاجتماعية التي كانوا يحصلون عليها من النظام السوري تتقلص وتتراجع وهي مهددة في كل لحظة، غض النظر عن البناء العشوائي يكاد ينتهي مع صدور قانون تنظيم البناء (الذي يبدو ان النظام عاد وتراجع عنه) بات يهدد 40 بالمئة من كل المباني في سوريا وبالتالي يلغي قدرة الشباب على الزواج، كما يهدد بتشريد الملايين، المازوت المادة الاكثر حيوية في سوريا ترتفع اسعارها، يبحث المواطن بقلق (قبل الثورة) عما اذا كانت الدولة السورية ستدعم الاسعار قبل موسم الشتاء ام لا.
الشوارع الضيقة المغبرة في صلاح الدين تضم مئات الاف القاطنين، حين تمكن الثوار من حسم النزاع في الريف واتجهوا الى المدينة، نزلت مجموعات من ابناء صلاح الدين وغيرها من المناطق لتضرب مخافر الدرك في مناطقها، وتعلن نهاية وجود النظام، اردف الى هذه المجموعات بضع مئات من القرى، استقبلوا استقبال الابطال حين كانوا يتوافدون ليلا الى الاحياء الفقيرة ويتمركزون في المدارس والمراكز العامة والمساجد، ثم اصبح العدد حوالي الفين مقاتل، وبدأ الثوار بالتمدد بمساعدة سكان المناطق الى احياء اخرى، فراحت نواحي الفقر تحتفي بالثوار بينما كان النظام والقوات العسكرية للثوار تستعد للمعركة المقبلة لا محالة.
العامل الاول الذي اطلق الثورة والذي تسمعه خلال سهرات الثوار هو حال الفقر، الذي يمكنك ان تشاهده في ازقة صلاح الدين، وحين تسأل صيدلي عن دواء للرئة تجد لديه مخزونا كبيرا من هذه الادوية، ومن مشابهاتها المخصصة للاطفال، الناس في صلاح الدين مرضى من شوارعهم، ومن عشوائية حياتهم.
في السهرات سيخبرك عمال المقالع عن عدد الرشى التي يتوجب عليهم دفعها اذا ما حصلوا على ترخيص بالعمل، وهو لا يقل عن 3 الى اربع اجهزة امنية تلاحقهم للحصول على الرشى، اما اذا لم يحصلوا على تراخيص العمل فان الدفعات الشهرية ستزيد وعدد من يلاحقهم سيرتفع، ولا تأنف اجهزة الامن العسكرية عن ملاحقة العمال في الكسارات، فلدى هؤلاء متفجرات يستخدموها لتفجير الصخور وبالتالي فان اعمالهم تمس بالامن القومي.
يقول شاب انهى دراسة الحقوق وعاد ليعمل مع عائلته في اقتلاع الصخور: لم نعد نستخدم المتفجرات الا نادرا، صرنا نقتلع الصخر بصحتنا، ومع ذلك لا يمكننا ان نحصل على رفاهية تناول الطعام كما نرغب.
اما سائقو سيارات الفان ونقل الركاب فيحدثونك عن ارتفاع اسعار المحروقات وكلفة ميكانيك السيارات السنوية الباهظة، ومشاركة ضباط الشرطة لهم في رزقهم مع الاتاوة اليومية التي يضطرون الى دفعها.
هي لقمة الطعام التي كان يأمل هؤلاء المواطنون بالحصول عليها، الا انهم يعتقدون ان رامي مخلوف وبشار الاسد وكل شركائهم في نهب سوريا يحرمونهم من الطعام، من القدرة على شراء ما يرغبون فيه من اكل. ويسببون في تراجع التقديمات الاجتماعية السابقة على عهدهم، كما ان التقديمات التي لا تزال متوافرة بقيت على قدمها، ولم يطلها اي تحديث او تطوير.
وعلى الرغم من الحديث عن مذهبية الثورة، وهي حالات موجودة في مناطق معينة وفي بعض القرى او لدى بعض المجموعات، فان ما يمكن ان تسمعه من اي شاب مقاتل، تسمعه ايضا من ابو علي، ضابط الشرطة العلوي الذي انشق وانضم الى الثوار في احدى قرى ريف غرب حلب: القمع الامني.
بعيد الاتفاق بين الولايات المتحدة وسوريا على ضبط الحدود مع العراق، وبدء عملية تجفيف منابع تنظيم القاعدة في العراق واطلاق الصحوات (العام 2007 -2008) اشتدت القبضة الامنية للنظام السوري في الداخل على مواطنيه، وبعد ان كان النظام يغض نظر عن عبور الاف المقاتلين الاجانب الى العراق، وعن تطوع عشرات الاف السوريين للقتال في العراق ضد الاميركيين، بات يقتل من يحاول عبور الحدود ويعتقل من يحاول اقتناء السلاح، وصارت القرى تشهد مداهمات ليلية ونهارية تقوم بها دوريات مشتركة بين الجيش واجهزة المخابرات للبحث عن اسلحة وذخائر واسلاميين واجانب، هذا الحصار الامني استمر حتى لحظات بداية الثورة السورية، واستفز كل ابناء القرى، ولكن جدار الخوف كان اقوى.
وحين شاهد السوريون سهولة اسقاط نظامي تونس ومصر اعتبروا ان ما يمكن ان يحصل في مصر يمكن ان يحصل في سوريا، فبدأت كرة الثلج بالتدحرج، حتى وصلت الى ما وصلت اليه اليوم. لحسن حظ السوريين او لسوء حظهم ان الثورات بدأت في تونس ومصر ولم تبدأ في ليبيا، حينها ربما لم يكن الشعب السوري لينتفض ولم يكن جدار الخوف لينكسر.