صناعة العدو إعلامياً
روجيه عوطة
قبل أن “يحضر” الإسرائيليون في القصير، كانوا في حمص، تواجدوا في درعا، وتسللوا إلى المناطق الأمنية في دمشق. هم لا يتركون مكاناً سورياً، معارضاً لنظام البعث، إلا ويحضرون فيه. هذا دليل على أن تهديدات رامي مخلوف لا تخيفهم: “لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا”. كما أنه إشارة إلى أن دخولهم الأراضي السورية لم يجرِ من جهة الحدود، بل من جهة أخرى، من الإعلام التلفزيوني، الذي يصنعهم وينتج قصصهم وصورهم، ناشراً إياها بين المشاهدين. هؤلاء الذين طُلب منهم تصديق سردية “المؤامرة”، وفُرض عليهم الاقتناع بأحداثها، بلا أن يشككوا في عمالة هذا المعارض، أو خيانة هذه الضحية.
الإعلام “الممانع” يصنع العدو، كي يبرر قتل السوريين. هذه المعادلة باتت واضحة، ولا يمكن لأحد أن ينكرها. ففي بداية الأحداث، التي أطلقت عليها بعض الصفحات الموالية لبشار الأسد في “فايسبوك” تسمية “الثورة الصهيونية”، نُشر فيديو يظهر فيه أطفال يتظاهرون، ويحرقون علم البعث. أحد الموالين علّق على هذه المشاهد، مؤكداً أن الأولاد يحرقون علم فلسطين معلنين ولاءهم للعدو الإسرائيلي.
بعد فترة، صوّر التلفزيون السوري مقابلة مع شاب فلسطيني من مخيم اليرموك، جلس أمام الكاميرا، واعترف بأنه يعمل لصالح “الموساد”. إذ شارك في التنسيق مع الثوار، وتعاون معهم في استهداف “مقومات الدولة”. في سياق حديثه، اعترف الشاب بأنه شارك في عملية اغتيال عماد مغنية، المسؤول العسكري في حزب الله. مع العلم، أن “العميل” لم يكن مرتبكاً، ولا مذعوراً، ولا حتى متلعثماً، بل كان مطمئناً وطليق اللسان. إذ سرد قصته بوتيرة واحدة، كأن القناة التلفزيونية لا تصور اعترافه بالخيانة، بل تستضيفه في برنامج عن السياحة السورية!
وعندما وقف عدد من المتظاهرين في إحدى الساحات الباريسية، ملوحين بعلم الثورة السورية، انتشرت صورة في الإنترنت، يظهر فيها أحدهم ملوحاً بعلم إسرائيل. وذلك قبل ساعات من انتشار الصورة الأصلية، التي تدحض هذه الإشاعة. أما اليوم، وبعدما أصبح تدخل حزب الله العسكري في سوريا علنياً، ها هو إعلام “الممانعة” يستمر في سرد “المؤامرة” وفي صناعة العدو. لكن، هذه المرة، وصلت إسرائيل إلى القصير في آلية عسكرية لا تصلح سوى للعرض في أحد المتاحف أو للبيع كقطعة خردة.
هكذا، صوّرت قناة “الميادين” الآلية، وأخبرت مشاهديها بأن الجيش البعثي وجدها في إحدى النواحي داخل القصير. هذا يعني أن العدو قد بلغ المكان، ولا بد لـ”المقاومة الإسلامية” أن تتدخل لطرده. فحزب الله بمشاركته في قتل السوريين، يقاوم الإسرائيليين، ولا شك في أنه يجد في ذلك “واجباً جهادياً”، عليه أن يؤديه، شاء من شاء، وأبى من أبى.
لا داعي للقول بأن صورة العدو، كما يصنعها الإعلام الموالي لنظام بشار الأسد، هي صورة ضعيفة للغاية. فلا يمكن للمشاهد أن يصدق كذبة الآلية – الخردة التي “تدخل” بها العدو في القصير. وفي حال صدّق هذه الصورة، فهذا يشير إلى عطل شديد الخطورة أصاب وعيه. فهو لا يستمد حضوره إلا من صورة عدوه، ولا يحصل على القوة إلا من مرآته، التي ما أن يشيح بنظره عنها حتى يفقد توازنه ويغيب. فلطالما كان هذا المشاهد محكوماً بمقولة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وبمقولة “الأولوية للمقاومة”، وها هو الآن يستسلم لخدعة “لا صورة تعلو فوق صورة العدو”، كما أنه يخضع لخرافة “الدفاع عنك بقتلك”. فوحدها الجريمة المستمرة في حق السوريين، تثبت أن العدو في كل مكان.
والحال إن العدو المصنوع إعلامياً، أكثر حضوراً في المكان الذي يغيب عنه. وذلك على الطريقة البولندية، إذ كلما انخفض عدد اليهود، ارتفعت درجة اللاسامية. بالاستناد إلى هذه المعادلة، كلما غاب العدو في سوريا، ارتفعت درجة “مقاومته”، وما ارتفاعها سوى استمرار في المذبحة. ثم إن النظام البعثي لا يحتاج إلى صورة العدو كي يبرر قتله فقط، بل كي يبقى على قيد التاريخ، فقد بنى كل منظومته الإيديولوجية على أساس “المقاومة”، ولا يمكنه أن يؤدي وظيفته الإستبدادية إلا إذا حضر العدو دائماً.
العدو في خدمة الديكتاتورية إذاً، كما هو الأمر في الواقع من ناحية العلاقة بين الإحتلال الإسرائيلي ونظام بشار الأسد، بحيث أن العداء بينهما يحمي حدودهما الدموية. إضافة إلى أن الأسد، كي يحمي حدوده الداخلية، لا يستعين سوى بعدوّه، صانعاً صورته كما يريد، وفي أي مكان يختاره. إذ يستعرض تلفزيونه الرسمي قوة إسرائيل في الاستخبار والاغتيال والقتل، كي يمضي في القتل والإبادة والذبح. وبالتالي، ليست صورة العدو إلا صورة النظام نفسه.
لذا، من الممكن الجزم بأن صورة الآلية الإسرائيلية في القصير لم تُصنع ليسكنها العدو وحده، بل “المقاومة” أيضاً. هكذا، تجلس الأخيرة بالقرب من عدوها في الآلية – الخردة، ويتجهان نحو المجزرة… نحو متحف النهاية.
المدن