صورة الطفل الذبيح في بانياس
ياسين الحاج صالح
شيء ما يستوقف النظر في صورة الطفل الذبيح، يجتذب العين إليها ويبقيها قريبة في الذاكرة. عند التأمل في الصورة يبدو أن أشياء كثيرة هي ما تأسر النظر وتشده إليها، بل نسيج من التعارضات تتشكل منه.
أولها التعارض بين الطفولة والذبح. تقرن الطفولة عادة بالبراءة وباللعب.ولأن الأطفال لا يستطيعون الأذى، فإن ذبح طفل يبدو شيئا سخيفا ولا لزوم له، أكثر حتى مما هو شرير، بل هو شرير شرا مطلقا، لأنه سخيف ومجاني، ولا أحد مضطر له.
شيء آخر يجتذبنا إلى الصورة دون أن يكون ظاهرا أو كامنا فيها: أن الطفل ذبح، لم يقتل برصاصة، أو بشظية طائشة أصابته في الشارع، أو من جراء قصف منزل ذويه، أن قتله اقتضى جهدا خاصا من القاتل، أن الطفل اعتبر فردا كامل الأهلية، جديرا بذبح خاص. خصه القاتل بتكريم فردي يعادل ما خص به آخرين بالغين لم نرهم. أو ربما كرمه أكثر منهم. لعله اعتبره حاملا لجرثومة شر فتية وواعدة بالكثير، خلافا للكبار الذين لا بد أن شرهم محدود ما داموا لم يستيطعوا منعه من قتل طفلهم، وما دام قتلهم وهم كبار مثله. لعل القاتل أراد أن يقول إن الصغير كبير، أو ربما إن الصغير هو الكبير.
في المقام الثاني يصدم التعارض بين هشاشة الطفل وانكشافه وبين ما اقتضاه حز عنقه وصعود السكين نحو زاوية فمه اليسرى من عناء خاص من طرف القاتل، بين الهول والصغير. لقد أهدر القاتل طاقة كان يمكن أن يوفرها لمهمات أخرى، لكنه إذ فعل فلا بد أن هناك حكمة وراء الأمر أو مقصدا خاصا: إما سخاء القتل وفيض طاقته، أو خطورة المقتول وأذاه المستقبلي.
على أن ما سبق يمكن أن ينطبق على قتل أي طفل، ولا يخص هذا الطفل بالذات.
في هذه الصورة يواجهنا التعارض الجذاب بين الموت الذي هو حال لا تنعكس وبين الدم القاني الذي لا يزال يسيل، ويغري بإعادة الزمن قليلا إلى الوراء. قبل لحظات كان الولد هنا، قبل لحظات حتى أنه لم يلحق أن يشعر بالرعب، أن تتكدر نظرته أو تتشنج عضلات شفتيه. يبدو مستلقيا على كنبة يتابع شيئا على التلفزيون. بضع دقائق إلى الوراء ويعود بيننا، يعود الدم إلى مستودعاته في القلب والعروق، ويعود الولد إلى متابعة برنامجه. ونعود نحن إلى أماننا وسكينة أنفسنا، فلا زلزلة ولا ارتعاد ولا هول.
على أن أكثر ما يخص هذا الطفل وهذه الصورة بالذات هو التعارض بين الذبح الذي يزلزل الناظر وبين وسامة الطفل وهدوء ملامحه وصفاء عينيه، بين الرهيب والرائق. بفعل هذه التعارض يكاد يصح وصف الصورة بأنها جميلة. أليس جميلا الدم الأحمر الذي يلون الوجه الغض كأنما هو شوكولاته أو بوظة؟ أيكون الذبح شقاوة من شقاوات هذا العفريت، لعبة جديدة بتسلى بها؟ توبخه أمه على وسخه وتغسل الدم عن وجهه، قبل أن تعود إلى طلب المستحيل العريق: روح إلعب، بس لا توسخ حالك وتبهدل تيابك!
غير سخافة ذبح الطفل وعبثيته المطلقة، وغير الانجذاب “الجمالي” إلى صورته ذبيحا، لعل هناك جاذبا “وجوديا” إلى الصورة. حين نرى طفلا مذبوحا نشعر أن لا أحد منا بأمان، هذا يُسمِّرنا إلى الصورة بانتظار أن نستوعب ونتخذ قرارا. لا أحد آمن في طرفنا من الصراع، هذه رسالة القاتل لنا؛ وفي عالم يذبح فيه طفل على هذا النحو، لا أحد من البشر آمن من الذبح على أنحاء كثيرة؛ فماذا يكون القرار؟
المدن