صور الحرب الميتة/ روجيه عوطة
تؤكد الصور المتحركة، التي تلتقطها طائرات “التحالف الدولي”، أثناء توجيه ضرباتها إلى مواقع “الدولة الإسلامية”، أن حرب الجو ضد الأرض هي حرب ميتة. وهذا، لا يلغي عنفها، أو يخففه. على العكس تماماً، لكنه، وعلى أساس تلك التسجيلات، يجردها من نفسها. لا، لتستحيل، وكما هو معلوم، لعبة فيديوية فحسب، بل لتفقد معانيها، المتعلقة بتحديد العدو، وتحقيق الهدف، بالإضافة إلى شكل التدمير.
وبالفعل، الحرب، التي انطلقت من سماء “العالم” لتطيح بأرض “داعش”، لا يبدو أنها، حتى الساعة، تؤدي دوراً ما، سوى تأزيم الأوضاع في العراق والشام. فالإرهابيون لا يتوقفون عن التمدد، وبذلك، يهجرون، ويقتلون، من دون أن تردعهم الأسلحة “الدولية” على أنواعها، لدرجة الشك في إرادتها، أو في استطاعتها أن تحارب، لا أن تقصف فقط.
تصطاد الطائرات الداعشيين في مواقعهم، ملاحقةً إياهم أينما ركضوا، أو هرعوا، وفي بعض الأحيان تفاجئهم. أو هذا ما يخيل للمُشاهد في حال رغب في النزول بالصورة من سمائها إلى مستواها الأرضي. إلا أنه، وعلى الرغم من التفرج المتخيل، لا يمكن الجزم حول ما يحصل فعلياً لحظة تلقي الصاروخ، أو انهمار الرصاص. ذلك، أن عناصر “الدولة” يظهروا كبقع بيضاء، تتحرك بسرعة، كي لا ترصدها أسهم المربع، الذي تحتويه صور الغارات. كما لو أن ثمة سباقا بين الداعشي، الهارع إلى مخبئه، ومربع الرادار، الذي يحاول تثبيته في مكان محدد، من أجل استهدافه، والتخلص منه بضربة واحدة. فالأرض، على اتساعها، تصبح ضعيفة أمام المربع الجوي، الذي يتعامل معها كميدانٍ، الحرب داخله، سهلة، وسريعة. ذلك، على الرغم من كون هذه الحرب الدولية ستستمر لسنوات على ما يصرح مسؤولون كثيرون عنها.
ومن الناحية نفسها، لا يختزل المربع، وأسهمه، الأرض، بل يتعدى فعله هذا إلى الحرب نفسها، التي لا قتال فيها، ولا معارك، ولا حتى محاربين.مجرد صورة سوداء، تظّهر الجغرافيا، التي تلتقطها كمساحة شبه منبسطة، بلا مرتفعات أو منخفضات، فما تكترث إليه الطائرات هو توقيف أي حركة عليها، ولهذا السبب، توجه ضرباتها إلى كل جسم متنقل، بوصفه عدواً، هو، على الشاشة، كتلة ضوئية، مغايرة للون الأرض من حوله، وسرعان ما يُقصف، أو يُطلق الرصاص عليه. إلى ذلك، يُضاف أن الإنبساط الجغرافي في الفيديوات الجوية، والذي يتدرج أسوده من الليلي إلى الرمادي، لا يبيّن إلا تضريس الطريق، وملمح الإنفجار، أو دخانه على وجه التحديد.
تكاد الصور المسجلة تتمحور حول خطوط المواصلات، التي تكشف المتحرك فوقها، أو إلى جوانبها، بسبب لونها الفاتح مقارنةً بالعناصر الحاضرة من حولها. مثلما لا تتعرض ملامح الأرض السوداء للتغير سوى عندما تنزل الصواريخ عليها، تاركةً وراءها سحابات من الدخان الأبيض، الذي يخفي الدمار ويغطيه، كما لو أن المُستهدف قد تبخر. ولفعله هذا، صلة بموقعه داخل صورة الحرب، بحيث هو حاضر داخلها، لكنه غير موجود، وذلك، انطلاقاً من حركته أولاً، أي خلال ترصده، ومن تبخره، أو تغليفه بالدخان ثانياً، أي عند قصفه.
ولذلك، العدو حين يُقتل، لا يكون إرهابي “الدولة الإسلامية” فحسب، بل أنه المتحرك، والمتنقل، والذي يمكن للطائرة أن تدخله في مجال ضربها، أو في صورة غارتها، وتالياً، تحوله إلى هدف، لا بد من الإنتهاء منه. وربما، في هذا السياق، يُفهم أن الحرب الدولية تقتل، بالإضافة إلى الداعشيين، فئة تمتهن التنقل، وتبرع فيه، أي البدو ورعاة الأغنام، الذين لا يتعاملون مع الأرض، كمساحة للبقاء والتمدد، على طريقة جهاديي “الدولة”، أو كميدان أسود، مقتول الملامح، على طريقة التصوير الجوي العسكري، بل كمعابر، ومسارات، وطرق كثيرة، وكثيفة، يسيرون عليها، ويطوفون فيها. فالتجوال، في هذا السياق، يشكل خطراً على البقاء، و”دولته”، والإستهداف ومربعه، على حد سواء، ولذا، يتعرض وجوده للنفي من الطرفين، ولا أحد يثير الحديث عنه.
تنقل صور القصف الجوي على مواقع “داعش” حرباً ميتة إلى المُشاهدين، لا إشارة فيها إلى القتال والتعارك. فهي مجرد غارات من السماء على أرض سوداء، تضاريسها ممحية، والأعداء فيها أهداف على شاشة. وعند عطف ذلك على موقع “داعش” في الأرض، يمكن القول إن مربع القصف، وأسهمه، يثبتان بقاء “الدولة” في الجغرافيا، التي تنظر إليها خالية، قبل أن تظّهرها الطائرات منبسطة، كما لو أن هناك علاقة بين الخلاء والإنبساط. فالغارات تُمدد الخالي، تُشرحه، وهذا ما يستوي على تقاطع مع تمدد “الدولة” نفسها. فالحرب الدولية الميتة تضاعف البقاء تحت كاميرات طائراتها الحربية، وعندما تضرب صواريخها، تتيح المجال، بتصويرها العسكري، للتمدد، الذي يؤلف الأرض على مستوى واحد.
بعبارات أخرى، حين تعلن الحرب الميتة على “دولة الموت”، يتضاعف هذا الأخير، ويتمتن أكثر فأكثر، فقد يزول الداعشيون، وتُمحى مواقعهم، لكنهم، يُقتلون كأهداف، ككتل بيضاء متحركة، أما أرضهم، فستشتد، وتزداد حدّة انبساطها، ما يُرجح رجوعهم، أو ظهورهم من جديد.
ماذا تريد الحرب الدولية ارتكازاً على صورها الجوية؟ محو تضاريس الموت، وتدمير مواقعه، وتبخير “الباقين” داخله، من أجل مضاعفته، وإرساءه كأبد من جديد، أي إعادته إلى النظام العالمي…إنها الحرب الميتة، أو “اللاحرب”، على قول بودريار في كلامه عن الحروب اللاحقة على الحرب الساخنة والباردة، وما تصويراتها سوى تسجيل لإستدخال الأرض السوداء في أرض أوسع، تحددها بمربعاتها وأسهمها العسكرية، كأنها، هي الأخرى، تريد أن تكون داعشية من ناحية الرسوخ وإعدام الجغرافيا.
المدن