عادل إمام بمواجهة سلفية المجتمع
دلال البزري
أصبحت نغمة معهودة، قد تتحول الى كلاسيكية: نتبهج لـ”وسطية” وجه من وجوه الاسلامية السياسية، او نص من نصوصها، نمتدح “براغماتية” قادتها المقْبلين على مسؤوليات رجالات الدولة، ثم نفاجأ، ببراءة الأطفال، أمام واحدة، أو أكثر، من تصريحاتهم، أو مبادراتهم، أو مواقفهم، وكلها تكشف مكنوناتهم الاصولية.
هذا ما حصل بالضبط مع قضية النجم الكوميدي المصري عادل امام، بعدما ان رفع ضده محام سلفي دعوى التجديف بالدين في أربعة من افلامه السابقة (“الارهاب والكباب”، “طيور الظلام”، “مرجان أحمد مرجان”، و”عمارة يعقوبيان”). القضية اثارت الاستغراب والاستنكار وحركت الفنانين في إعتصامات وتظاهرات وندوات ومؤتمرات صحافية. وهي قضت في البداية بحبس إمام مدة ثلاثة اشهر مع غرامة، تلاها استئناف، ثم تبرئة.
طبعاٍ، هذا لا يعني بأن القضاء ختم الحرب العلنية التي يخوضها السلفيون تحديدا ضد السينما المصرية وإرثها. ولكن قضية إمام حظيت بالضجة الاعلامية في مصر وخارجها، بسبب شهرته الواسعة، وربما ايضا بسبب مواقفه السياسية المعروفة المؤيدة لنظام مبارك، وسلبيته المعلنة تجاه ثورة 25 يناير. ففي خضم هذه الضجة كان نواب سلفيون يباشرون إجراءات قانونية لحذف كل القبل و”أحضان الحبايب” من جميع الافلام المصرية السابقة على الثورة، الممتدة على قرن من الزمن.
نفاجأ بهذه الاشياء التي تشغلنا عما نعتقده الأهم، بغضب وسخط، يساويان بحجمهما حماستنا للـ”وسطية”، و”البراغماتية” الإسلامية المزعومتين. مع إن كل المؤشرات، في ما يخص السينما تحديدا، كانت تنبىء بالقادم من الايام.
خلال العقد الأخير السابق على الثورة، كانت السينما المصرية تزخر بمؤشرات كاشفة: “الفنانات التائبات”، اللواتي قررن الاعتزال بعد عمر أمضينه بممارسة ما بات “حرام” و”ضد الدين”. ثم الفنانات المحجبات، وأشهرهن حنان الترك، صاحبة التعريف الشهير عن نفسها: “أنا صوفية القلب، سلفية العقل، إخوانية الاتجاه”. لا يرغبن بترك الاضواء، ولا بالتوقف عن “العطاء الفني”… فالتمثيل بالحجاب، وإن في غرفة النوم (سهير رمزي، صابرين…).
في هذه الاثناء، كانت الرقابة الفنية، من خلف الاسوار، تقوم تشذيب سيناريوهات الأفلام من المشاهد “الساخنة”، استجابة لمناخات “التحريم”… فطلع علينا مصطلح “السينما النظيفة”، الخالي من الالفاظ والمشاهد “الخادشة للدين وللحياء”. فساد في العقد الاخير ظاهرة رديفة اسمها الفنانات اللبنانيات اللواتي يكشفن عن بعض مفاتنهن على البحر أو السرير، في أدوار دائما ثانوية، فيما صاحبة الدور الاول المصرية تحافظ على لغتها وجسدها، طمعا بمزيد من حب الجمهور لها.
ضعفت السينما المصرية في تلك الاوان، تراجعت أمام التلفزيون، الدراما خصوصا؛ وهذه الاخيرة هي الاكثر شعبية والأبعد عن الخدش بالاخلاق، وبالتالي الأقل حرية. لم تعد الحشود تجتمع في السينما كما في العهد الذهبي للسينما المصرية. صارت تتفرق خلف الشاشة الصغيرة وتلتقي في المساجد. اما “الافيهات” السينمائية اللاذعة، فبقي منها تلك الموروثة عن سينما الأبيض والأسود (“بلدي أوي يا حسين!”، أو “يا ما مَحْلى عيشة الفلاح!”، أو “المقابلة انتهت”، أي الطرد…)؛ ولم تعد تحفظ من الدراما التلفزيونية غير كلمتي وداع يتبادلها ممثلان: الاول: “لا اله الا الله”، الثاني: “محمد رسول الله”.
تلك كانت حالة السينما عشية الثورة، يحتضنها إلتباس شديد، بين دولة تضخّ على المجتمع افيون تنازلاتها الاسلامية الثقافية، ومجتمع يطلب المزيد، ونخبة فنية وثقافية تحتمي بوزير ثقافة “تنويري”، تقدم تنازلات اخرى من حريتها، مقابل حماية الوزير الملتبسة المتذبذبة؛ وهي حماية ترسم حدودها طبيعة اللعبة المزدوجة التي يقوم بها النظام بين الاعتقال والسجون للاسلامية الحزبية، والمزيد من الترويج للاسلامية الثقافية.
مقارنة سريعة بين هذه الديناميكية السابقة على ثورة 25 يناير، وبين الديناميكية السابقة على ثورة الضباط الاحرار، خير من مزيد من الوصف: وثبة الضباط الأحرار كانت تقدمية، ترنو إلى الأمام، إلى الأمل. كان هذا حال المجتمع المصري قبل الثورة. وهذه الاخيرة تلقفت الوثبة واعطتها زخما في الغناء والموسيقى، والسينما والادب. ازدهار دام حتى امتحانه الاقصى، حزيران 1967، ومن وقتها ضُربت الوثبة وأخذ المجتمع طريقا معبداً نحو الأسْلمة. الآن الدورة معكوسة: الزخم السابق على ثورة 25 يناير، ومؤشراته كانت جاهزة، هو زخم اصولي ظلامي، آتٍ من بطن المجتمع، يرنو الى السلف.
حتى مرشحو الرئاسة لم يسلموا منها من سيطرة السلفية على عقل المجتمع. نقول “مرشحو رئاسة”، حتى “مفاجأة” جديدة، حتى إشعار آخر. طبعا لا حاجة الى الملاحظة بأن مرشحا واحدا للرئاسة لم يشترك في حملات الاحتجاج على الدعوى المقامة ضد إمام. والمرشحان الأوفر حظاً اكتفيا بإصدرا “مواقف”: الأول، عبد المنعم أبو الفتوح، المرشح الاسلامي “الوسطي” كتب على “التويتر”: “الاسلام أعزّ من أن يتم ازدراؤه على يد أي شخص كان أياً من كان، ومجابهة الرأي حتى لو اختلفنا معه تكون بالحوار المجتمعي لا بسلطة الحكم، ولنجعل القضاء آخر السبل”. اما الثاني، عمرو موسى، فصرح: “انني احيي الفنان الكبير عادل امام، وأؤكد على مبدأ حرية الرأي والتعبير سواء إتفقنا معه أم لم نتفق”. في مكان آخر، أعلن ابو الفتوح في برنامج تلفزيوني عن إنه لا يحرّم الموسيقى على الاطلاق، ويفضل موسيقى أم كلثوم وفيروز ومحمد عبد الوهاب. فكان تعليق في مجلة “آخر ساعة”: ان “إعلان ابو الفتوح عن إعجابه بأم كلثوم وفيروز هو تصريح جريء يشهد لانحيازه للفن الحقيقي”… مع ملاحظة “تصريح جرئ”، لا تتفاجأ بعد ذلك من مفاجأة المجلة نفسها على تعديل هذا الاعلان أو التلاعب به أو مجرد الغائه…. انها النغمة الكلاسيكية لعهد ما بعد الثورات.
المهم أن مرشحيَّ الرئاسة الأوفر حظاً، بمعرفتهما باشواق ناخبيهما وميولهم القوية، رفعا العتب بتصريحين، يخاطبان بهما الاصوات المطلوبة لإعتلائهما الكرسي الأعلى: ابو الفتوح كان فاترا، لأن قاعدته لا تتحمس لهكذا قضية، بل هي على الأرجح مع رمي إمام بمزيد من الحجارة. وأبو الفتوح، فوق ذلك، كان وقت اعلانه هذا يتفاوض مع تنظيمات وأحزاب سلفية لتجيير الاصوات لصالحه؛ وقد نالها. اما عمرو موسى، ففيه الكثير من “الفلول”، أو الناخبين الكارهين لما آلت اليه الثورة. وقضية مثل قضية إمام تأخذ الطريق الى قلوبهم من طرف شفاه، كما فعل موسى، مع انه الشهير بصاحب النبرة القوية الخطابية ضد إسرائيل…
في عهد مبارك ازدهرت الاسلامية السياسية وهيمنت فكرياً على المجتمع؛ وكانت الدولة تستجيب لها بقدر افتقارها الى الشرعية. وقتها تنازلت الدولة واعطت لقانون الحسبة مجالا للتطبيق، فكانت دعاوى الحسبة ونجومها يوسف البدري ونبيه الوحش، وضحاياها من نوال السعداوي ونصر حامد او زبد، وفتاوى لا حدود لغرابتها. اما الآن، فالاسلامية مقبلة على الدولة، ولم تعد تحتاج الى الحسبة، بل مجرد لجوء الى القضاء. وهكذا، الدعوى ضد إمام لن تكون الأخيرة، ولا الفتاوى ولا القوانين ولا التوجهات.
حرية التفكير والتعبير والتخيّل هي واحدة من أهداف الاسلامية الصاعدة. مثلها مثل قضية النساء والاقليات. لم يعد مفيدا اتخاذ وضعية المتفاجىء الساخط المستنكر إزاء حماسة الاسلامية السياسية، خصوصا في هذه الاوقات، للإنقضاض على نقاط سُجِّلت لصالح تقدم ما في هذه القضايا. المفيد الآن هو الانكباب على ما يعزز القبضة الاسلامية على الدولة بعدما نالت من المجتمع.
أمامنا الآن أسئلة عما يقف خلف هذه العداوات المعلنة الثلاث: لماذا الابداع بالذات؟ مع ان الخيال لا ينقصهم عندما يصدرون الفتاوي العجيبة الغريبة، مثل مضاجعة الزوجة الميتة او إرضاع الكبير، او شرب بول الرسول… فلماذا يكره الاسلاميون الخيال؟ او لنقل، ما هو يا ترى نوع الخيال الذي يحبذون، بعدما اعلنوا صراحة عن كراهيتهم للخيال الآخر؟ هل هم مجرد مقلدين لما رسخ في ذهنهم عن سنة الرسول وصحابته؟ ام انهم نسخة طبق الأصل؟أم هي قراءتهم الحرفية للنص الديني؟ أم هو اعلائهم الفقهاء الى مرتبة القداسة الدينية؟
هل يصل بهم الأمر ما بلغته الفنون الشيوعية “الواقعية”، التي أنتجت طوال عقود هيمنتها فنا ايديولوجياً صارماً، هبط بالذوات الاشتراكية الى الدرك؟ كيف يتفاعل المجتمع المتأسلم مع هكذا توجه؟ ماذا سيمنحه؟ وهل يتلقفه بدرجة الحماسة نفسها التي تلقف بها عادل إمام في عزّ مجده، ثم يعود وينقلب على هيمنته كما انقلب على الهيمنة الناصرية منذ أربعة عقود؟
المستقبل