صفحات الثقافة

كاتب.. أم شاعر بلاط ؟


عناية جابر

يختلف بعض السياسيين والمهتمين والمعلقين بالتأكيد، في مقارباتهم السياسية حول أحداث متلاحقة تجري هنا وهناك في هذا الوطن العربي، منهم من هو أكثر ضبطاً وكثافة وإيحاء، ومنهم من يملك رؤية بؤرية وحساً هائلاً ناحية ربط التاريخ وقراءته.. الى آخرين يملكون قوة كبيرة على الموازنة بين الحدث وبين ما سبقه، في كتابة أقرب الى أيقونة صغيرة من إكتنازها الفكري ومفارقاتها الذكية وقدرتها الإشارية والإيحائية العالية وأيضاً فكاهتها الخفيفة وشكيتها ونقديتها الجذرية وطاقتها الإستخلاصية.

غير أننا نلاحظ أيضاً في قراءتنا للبعض، خفة في متابعة المجريات، كما لو هي هوية غامضة حضرت حديثاً الى متون الكتابة السياسية وتتحول الى ثغرة في التسلسل المادي للكتابة، كما هو النقصان الفادح في التسلسل الروحي والأخلاقي الذي يعاني منه بعض الكتّاب المأجورين، أجل مأجورين حتى لتفوح رائحة العمالة من نصوصهم ومقارباتهم ومقالاتهم وطلاّتهم التلفزيونية والإعلامية عموماً.

كتابات مُراوغة لاتصل حدّ الإحتجاج على الظلم في أية بؤرة عربية مشتعلة، بل تطفح بالمحاباة والتباين، وليس الظلم ايّا من همومها .

لايستفزّني الحُكّام الظُلاّم فالظلم بعض من طبائعهم. تستفزّني كتابات البعض في كاريكاتورات لكتّابنا الصغار السطحيين، وأثريائنا المتسولين وصحافيينا في الرخص الذي يسم كتابتهم، ونصوصهم التي بمثابة نعي لكل ماهو جميل بالمعنى الأخلاقي. لا نطالب بالحدس حدّ النبوءة ولكن بمقاربات لأحوال عربية واخرى لبنانية، سياسية وأمنية وطائفية في المرتع اللبناني، تترك هذه الأقلام حلّها للأيام، وهي تُساهم بشكل مباشر أو غير مدرك في أحسن الأحوال والنوايا، في تأجيجها وتأجيل حلّها.

أقلام ذات رؤوس لاعداد لها، وإفتتاحيات وزوايا كمربعات الشطرنج تتأرجح ما بين رئيس قبيلة ورئيس عشيرة ورئيس برلمان ورئيس عصابة وكل هؤلاء وما بينهم .

الكُتّاب اليوم فصحاء لدى فريق، وضعفاء خُرس لدى فريق آخر، لكن حقدهم طافح، وبغضهم مايجعلهم يصلحون لكل زمان وأوان في توصيف واقعنا العربي واللبناني الآن، فما أشقانا وما أقلّ ما تغيرّت أحوالنا بربيع عربي أو من دونه .

إفتتاحيات لكتّاب وصحافيين كبار هي مجرد لمحات ونثرات لاتشّكل سياقاً متكاملاً كما أنها تبقى غالباً على الأطراف ولا تصيب في العمق، والأمر غير عائد لعجز في سيولة الأقلام، بل هو عجز المجاهرة وبلوغ الداء .

كتابة هي لحظات من التعب من الذات أو جلد الذات. ينعي بعض الكتّاب على الرئيس أو الحاكم إستبداده وبطشه، لكنه وهذا غريب يتجنب تماماً الخوض في النظام السياسي، وعنده تلك الخشية من مقاربة السياسة مباشرة ،عن وعي خبيث لنفسه ولمصالحه الراهنة ومراهناته المستقبلية. والمفارقة هنا هي في بقاء الإحتجاج سؤالا دون بلوغه الدعوة كما عليها ان تكون، و في البراءة من السياسي ومن التسميات ن مقابل التورط فحسب في الإجتماعي الذي لايُدين .

كتابات مُربكة وغير واضحة بالضبط، خصوصاً بالنسبة لكتّاب معروف تاريخهم، او تاريخ كتاباتهم بالمنهجية والصدق. ليست منهجيتهم بادية راهناً، وليس الغضب في أحسن الأحوال .. منهجية، ولا التمرّد المشكوك فيه او الدعوة إليه، بل هي كتابة لاتعدو ان تكون تأتأة وكلاما على ضفاف الأحداث .. وتجريد .. منتهى التجريد الذي لايفعل سوى رفع المسؤولية عن مواقفهم وأقلامهم، ومحاولة ذر الرماد في عيون قارئهم .

أمّا لماذا أختار هؤلاء هذا المسلك المهتّز والملتبس والضيّق فالأرجح أن أطماعهم ضاعت بين حسابات شتى، حسابات الربح المادي وحسابات منطق العصرنفسه .

لقد أقرّ بعض الكتبة على نفسهم كما يفعل جائع مزمن بالطعام. ايّ أقروا على أنفسهم بالضعف البشري على حساب المبادىء والقيم، لكن من يقرأ لهم لن يغفر تأتأتهم ولا الإقرار ولا الغواية والعمالة والضعف البشري والشيطاني .

القضايا المبدئية من البداية هي هذا الإمتحان للكتابة، الكتابة التي في جوهرها الفضح والمفارقة الساخرة الهادفة والتناول النقدي القاسي ونعني هنا تحديداً الكتابة السياسية .على الكاتب أن يكون صامداً لا متنازلاً، واثقاً لا محتاراً، ممتنعاً لا مغتراً، مهاجماً لا متراجعاً، كما معرّضاً نفسه بسبب الحق وحده الى أسوأ الإحتمالات لا ناجياً بها، وما نقرأه للأسف اليوم يبين ان بعض الكتّاب ينتهي بسبب من كتاباته المتزلفة، وينتهي خاسراً لنفسه وغير رابح لها .

الكتبة يحدثوننا عما يريد علنا هذا الطرف او ذاك كأننا لا نتابع الاحداث مثلهم تماما. يحكون عن انسداد السياسة وانفتاحها الموعود وعن حريات سننعم بها قريبا وانتخابات ستجعلنا اسياد أنفسنا وامام ناظرينا وفي جميع البلاد العربية التي مر الربيع عليها حروب لا تريد ان تنتهي ومشاريع دول مفتتة كسيحة. ولا ينبت المحلل الكبير ببنت شفة .

نريد ككل الشعوب ان نعرف شكل مستقبلنا، شكل اقتصادنا المقبل، شكل علاقاتنا مع جيراننا الاخوة كما الاعداء، نريد ان نعرف رؤية الثوار في بطالة شبابنا وهجرتهم القسرية الممنهجة، في معضلات السكن والعشوائيات، في الصحة والشيخوخة، في وضعية المرأة، في البيئة وفي الكهرباء والماء، في قيامة المواطن الفرد، في مصدر التشريع، في مكانة الدين من التشريع والسلطة. اصغر انتخابات في العالم تجري بين قوى تعرض للناس رؤياها وبرامجها لتفاصيل الحياة، حياة الناس العاديين، فيما الثورات عندنا تسير غامضة مغمضة. والكتبة يرضخون او يهللون. لا يسألون ولا يتساءلون. يركضون وراء الحدث ووراء القوى الساعية الى السلطة بدون رؤية واضحة او برامج مستقلبية. اين الرؤية النقدية عند الكتبة لهذه القوى؟ هل تحول الكاتب الى شاعر بلاطات يمجدها على عماها؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى