عام السقوط… سقوط القادة الكارزمات
بقلم: صبر درويش
اليوم ليس الأمس، والتاريخ لا يكرر نفسه حتى لو اشتهى البعض هذا التكرار. وللتاريخ صيرورة، تنبني من صراع الأضداد، يتحدد من خلالها التطور اللاحق للبنية الاجتماعية. وحتى إن تقنّعت هذه الصراعات بأشكال شتّى، وأوهمت بجمود الحركة؛ فتحت السطح، يقبع عالم يضجّ بالتناقضات، التي لا تتجلّى وفق أمزجتنا، بل وفق حركة الفاعلين الاجتماعيين في سياق علاقتهم مع التاريخ ذاته.
في الأمس –أي منذ عدة عقود- استولت النظم الحاكمة في المنطقة العربية على السلطة السياسية، وطرحت نفسها نظماً تقدّمية، تهجس في مشروع للتنمية، يجعل من مجتمعاتها، بكل تكويناته الطبقية، في قلب التاريخ، وتدفع بمشروع التحرر حتى نهايته المأمولة، واحتجنا نحن القابعين في هذه التجربة، إلى عدة عقود كي ندرك أن المشروع الذي كان النظام العربيّ، وما زال، معنيّا بإنجازه لا يعدو تأمين تأبيد سيطرته السياسية على المجتمع، وضمان ديمومة هذه السيطرة.
وكان لا بدّ للنجاح في ذلك، من تمزيق المجتمعات العربية، والنيل منها بكلّ الوسائل المتاحة، فكان لا بدّ من خصي المجتمع من فاعليته حتى يتمّ الأمر، وهو ما حدث فعلاً.
في تلك الأثناء كان المجتمع يضجّ بالحياة، وكان الحصول على مشروعية النظام السياسية يمرّ عبر قبول الجماهير الشعبية لهذا النظام، وإيمانهم بقدرته على الإنجاز، وفي سبيل ذلك كان لا بدّ من صياغة خطاب متماسك قادر على ضمان مشروعيته الاجتماعية؛ من هنا انبنى خطاب النظام، في قسمه الموجّه إلى الداخل، على ثلاث ركائز أساسية؛ تقول الأولى بضرورة المواجهة والتصدّي للعدوّ الخارجي، و”النضال” في سبيل استعادة الأرض والكرامة….. إذاً هو مستوى يمسّ البعد الوطني، أمّا الركيزة الثانية، فتقول بمباشرة مشروع تنمويّ يقضي تدريجياً على الفقر والتخلّف في آن، وكان المشروع يكنّى في حينه بالاشتراكية. وأخيراً الركيزة الثالثة والتي تداعب الشعور القوميّ لدى الفرد، فتمّ الحديث مطوّلاً عن القومية العربية والوحدة التي ستعيد المجد لنا نحن العرب.
وكان الخطاب في كلّ لحظات تكوّنه خطاباً ركيكاً، فالشكل الذي راح يتجلّى عبره لم يعد كونه شكلاً واهياً ركيكاً بدوره، فلا الأرض عادت ولا الكرامة، بينما التنمية ستكتفي بالتحوّل إلى مجرّد شعار يطيب للبعض ترديده في المناسبات الوطنية.
لقد كان على الأمور أن تصل حتى نهاياتها، هزيمة كاملة المواصفات، وكان على المهزوم أن يعي بأنه مهزوم، وربما لزمه من يجرؤ على تعليمه النظر بأم عينه إلى الهزيمة، من يجرؤ على إفهامه أن على الإنسان كي ينهض أن يتقبّل أوّلا ً أنه ملقى أرضاً، إذ ذاك يبدأ فعل التحرير، تحرير التاريخ من سخريته وإطلاق المعنى فيه، فلا تاريخ بلا معنى. وما كان ما يجري في بعض البلدان العربية، كان كافياً للوعي بحجم الخراب المحيط بنا، وكي نعلم نحن القابعين في بؤس التجربة، بأننا لسنا شعوبا على ما يرام، وأنّ لحظة الوعي هذه، هي نقطة الانطلاق في مشروع التغيير المنشود.
وفي هذه اللحظات التي تنفجر فيها شرايين الأمة، وشوارعها في الآن ذاته، يجد البعض متّسعاً من الحديث، عن “مؤامرة”، وعن دور “للخارج” يأبى إلا أن يكون مشاركاً في صياغة هذه اللحظة الحاسمة من تشكل تاريخنا الحديث، إذّاك تصادر أحكام القيمة المترقّبة، قدرة العقل على التفكير، فتستدعي عبر مصادراتها، مناخاً مريضاً، تتسلل عبره اللغة الركيكة، المبنيّة على أحكام قيمة ركيكة بدورها. فتطفو على السطح مقولة العمالة، بكل ما للكلمة من اتساع، مدعّمة بقوّة البداهة، وقوة الإرث البدويّ في تحديد محتوى المفاهيم، فيصبح الداخل هو الهوية، والخارج هو كلّ من خرج عن النسق البدويّ للتعريف والمتآمر على الهوية أو مغتصبها.
ولكن ما الهوية؟ يبدو السؤال نافلاً في ظلّ الخطاب الركيك للأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة : رسالة خالدة أم أنظمة خالدة، وقهر وتمييع للحظة الراهنة- الخالدة؟ سؤال نمسّ من خلاله عصب المقدّس، فينقبض حراس الكلمة المقدسة، بكل ما أوتوا من حزم للدفاع عن الهوية المقدّسة بدورها. فيمرض الحوار المسكون بالوجع أصلاً وينكسر. بيد أنّ اللحظة الراهنة، تفرض نفسها علينا نحن المزكومين بالشأن العامّ، كما تفرض نفسها على التحليل ذاته، فتطالب بصياغة إجابات، ترتقي لمستوى التحدي. بيد أن العقل الكسول يكتفي بصياغة إجابات سهلة، فيكتفي بالحديث عن مؤامرة خارجية، عن أمن الدولة، وعن فوضى الفوضويين، وينسى في هذا السياق أن يولي التاريخ ومن يحاول أن يصنع هذا التاريخ القليل من الاهتمام، فتضيع اللحظة الراهنة ويضيَع الفكر على نفسه قدرته على التقاط التناقضات الراهنة والشكل الذي تعبر فيه هذه التناقضات عن نفسها؛ ويستبدل في هذا السياق التحليل العلمي، بالتحليل الركيك للمرحلة الركيكة. إن ما يجري من حولنا ليس إلا عالما ينهض، ويفتح أفقاً، كان من الصعب تخيّله قبل هذه اللحظة. لقد أعادت هذه الثورات التي تدور من حولنا، المعنى والمصداقية، لمفاهيم كاد الخطاب السائد أن يسقطها من مفردات اللغة. ورغم كلّ الزخم الشعبيّ الذي يفجر هذه الثورات –والتي لا أجد لها اسما آخر- أقول إنّ البعض ما زال يفكّر بعقلية المؤامرة، والداخل والخارج وإلى آخره. وينسى بأن ما نراه هو شعوب سحقت حتى التخمة، وكبلت بالقهر والذل عبر عقود، وأن عدوها في كل ذلك كان الأنظمة العربية المتحالفة مع أميركا وإسرائيل. وأن الشرط التاريخي الذي يشير إلى التمفصل بين شدّة الفقر والقهر الاجتماعي من جهة وغياب الحرية من جهة أخرى، هو الذي ولَد هذا الانفجار المدعوّ ثورة.
***
لا شيء نملكه نحن سكّان هذا المكان لنخسره. هي لحظات يستيقظ من خلالها شبق الإنسان العربي للوجود، حيث ينفتح أفق التغيير، يتحرّر الحلم، وتتحرّر معه الممارسة التاريخية للفاعلين الاجتماعيين، ينكشف الواقع على إمكانات مذهلة، ويتضاءل حجم القمع، ما إن تتحرر الروح المقاتلة لدى الفرد؛ من حق الشعوب المقهورة أن تقرر ما تراه مصيراً لها، ومن واجب المصير أن يستجيب. فلم يفعل من كان في سدّة القرار سوى مسخ هذه الشعوب ومصيرها.
يقول فتىً تونسي في الستينات من عمره : “لقد هرمنا.. هرمنا ونحن في انتظار هذه اللحظة التاريخية” وتسقط دمعة على الرغم من الكبرياء. لقد هرمنا حتى نحن الذين في مقتبل العمر وكفرنا، فإن أخطر ما استنزف في سنوات القهر، كان الزمن. والزمن لم يكن يوماً عنصراً حيادياً في تاريخ الشعوب، كان حاسماً في عملية البناء واللحاق بالركب العالمي. “بيد أن من لا يتقدم يتراجع، ومن