عصر الارتياب/ بول شاوول
هل صار كل شيء في القرنين العشرين والحادي والعشرين الـ«ما بعد». كلمة أخرى تسبق كل النعوت والأسماء. جنازة طويلة لم يسلم شيء ولا أحد من بخورها ورثائها وصلواتها.
حتى نسي الناس «ما قبل» هذا «الما بعد». بل كأن «القَبْل» طوى أوراقه وناسه وملفّاته وتاريخه وذهب بلا رجعة. نسمع منذ زمن ليس بالقريب «ما بعد الحداثة»، و«ما بعد المسرح»، و«ما بعد الكرة الأرضية» و«ما بعد الإنسان»، و«ما بعد الغرب»، و«ما بعد الشرق» و«ما بعد الحقيقة» (آخر الابتكارات اللفظية القديمة)، و«ما بعد أوروبا»، و«ما بعد الولايات المتحدة»، وقبل ذلك «ما بعد الماركسية والشيوعية»، و«ما بعد الكائنات الحيوانية والنباتية»، من دون أن ننسى «ما بعد النظام الرئاسي»، و«ما بعدالبرلمانات»، الى «ما بعد سيادة الدول»… وصولاً الى «ما بعد العولمة»… وإلى «ما بعد الديموقراطية»، و«ما بعد الصحافة»، و«ما بعد الدولة»… و«ما بعد الأحزاب»… و«ما بعد القيادات» و«ما بعد الكِتاب»، و«ما بعد الفردية»، وإلى «ما بعد المجتمعيات الكلية»،.. فإلى «ما بعد التنوير»…كل ما عشنا عليه، وكوّننا، وصنع أفكارنا ومآلاتنا وحتى مشاعرنا وطرق حياتنا وهواجسنا وذاكرتنا وحتى آمالنا صار في «الما بعد». الى أين؟ الله أعلم! من أين! اضرب بالمندل واقرأ فنجان القهوة. جنازات حامية هنا وباردة هناك… ضوضائية أو صامتة… نعم العالم: كأنّ الدنيا تحولت غابات من الأهداف الجوفاء ترن بخوائها وأقدارها وعبثيّتها ولا جدواها.
تابعوا التصريحات الطازحة كالخبز اليومي، اليوم، في الصراعات السياسية، والانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو البلدية، تجدوا أطرافاً كثيرة من هذا «الما بعد»: نهاية النظام الرئاسي!، نهاية الأنظمة القائمة، نهاية إرادة الشعب، نهاية المؤسسات التاريخية «الوحدة الأوروبية» (بل يُقال نهاية أوروبا)، البريكست من هنا، والمطالبة بالانفصالات هناك (الأكراد، أسكتلندا، إيرلندا، وغداً نيويورك، هناك من يطالب بانفصال نيويورك عن الولايات المتحدة).
] عصر الارتياب
إنه عصر الارتياب بامتياز. عصر زعزعة الإيمان بكل القيم والظواهر، وأسماها وأثمنها الديموقراطية. يقول الباحث كوين كراوتس في كتابه الجديد «ما بعد الديموقراطية» (صدر بالفرنسية عن دار ديافان بباريس 2017) «إن الديموقراطية الغربية لم تعد موجودة!». هكذا بجرّة قلم أو برجاحة «لسان»، أو باختبارات «عقل». فإذا قيل إن الغرب كله انتهى، فلم لا يُقال «إن ديموقراطيته لم تعد موجودة». وإذا خفف هذا الباحث من حسمه فيقول «إذا كان بعضها ما زال متبقياً، فهو في طريق التلاشي شيئاً فشيئاً». والفيلسوف الألماني الكبير هابرماس يتساءل في هذا الإطار: وهل المؤسسات الكبرى التي تتحكم بالمصائر هي ديموقراطية؟ فالاتحاد الأوروبي تتحكم به دولتان كُبريان هما ألمانيا وفرنسا.. وتمارسان «سطوة» على الأعضاء الآخرين الأضعف اقتصادياً! أوليست هذه «ديموقراطية الأقوى». والغريب أنه قبل عشرة أعوام… ونيف بدأ العديد من المثقفين والسياسيين يتساءلون حول شروط تحقيق ديموقراطية على المستوى الأوروبي كله، «استناداً الى الإرث الثقافي المشترك، وكذلك الهوية الإثنية، والدين والتاريخ القومي»… أما اليوم فيتساءل كثير من المعنيين: هل ما زالت الديموقراطية الأوروبية ممكنة؟ فإنها لحظة التيتانيك على حافة الغرق!
وماذا عن مجلس الأمن مثلاً، الهيئة المُفترض أنها ترعى حقوق الإنسان، وقيمه، وتنحاز الى حق الشعوب في تقرير مصيرها: أهي ديموقراطية بوجود حق الفيتو في يد بعض الدول الكبرى كروسيا والصين وأميركا! أما زالت وسط هذا البعبع المسلط عليها؟ لا! إنها دكتاتورية الكبار تتلاعب بمصائر الصغار: من القضية الفلسطينية (وفيتو أميركا)، الى القضية السورية (وفيتو روسيا)؟ كل قرار مهدد بالتعطيل، حتى في قرارات إيصال مساعدات إنسانية الى منكوبي سوريا، أو مسألة النازحين من العراق ومن المدن التي تتعرض للقصف. حتى أنّ هذا «المجلس»، لم يستطع اتخاذ قرار بإدانة بشار الأسد لاستعماله أسلحة محرّمة دولياً، كالأسلحة الكيميائية، والبراميل المتفجرة، أو الإعدامات الجماعية… فأي مجلس أمنٍ هذا وماذا تبقّى منه ليكون ديموقراطياً؟ ذكرنا المؤسستين الكبيرتين «الاتحاد الأوروبي» و«مجلس الأمن» (الأمم المتحدة). فما بالك بالظواهر الأخرى؟ فقرارات مثل التخلي عن استخدام الفحم لحماية البيئة.. ها هو ترامب يكسرها أو يسعى الى ذلك بالفيتو طبعاً! العالم الحيواني والنباتي والكرة الأرضية نفسها مهددة، ولا أحد، لا في «الأمم المتحدة» ولا مجلس الأمن ولا البرلمانات ولا الحكومات، ولا الحركات الشعبية، قادر على حمايتها؟!
لكن ما دور هذه البرلمانات التي تطنطن عالياً بديموقراطياتها «العريقة» ؟ البرلمان الأوروبي في خبر كان. أما البرلمانات المحليّة والقوميّة في العالم فماذا تفعل ديموقراطيتها لمعالجة القضايا؟ قد تكون في وضع أقل «خطورة» من سواها، لكن في العمق، باتت «كأصداف فارغة» كما يقول العديدون اليوم… فإذا لم تصل الى حدود «التلاشي» فهي في الطريق إليه (كما يقول كولين كراوتس): الانتخابات الايطالية تمت بشكل «ديموقراطي» فأنجبت سيلفيو برلسكوني، عال! والسلطة؟ أين؟ في قبضة أقليّة. لكي لا نقول في قبضة شخص واحد! فالانتخابات التي تجري بغطاء ديموقراطي شيء، وممارسة الديموقراطية شيء آخر.
فالديموقراطيات الغربية ما زالت تنظّم الانتخابات والحملات والشعارات، والاستطلاعات، و«إرادة الناس»، والفائز بصناديق الاقتراع يحكم! كل هذا رائع! لكن إذا عدنا الى جوهر الموضوع، وبحثنا في سياقات تلك العمليات الانتخابية (رئاسية أو برلمانية)، نجد أنّ المواضيع والقضايا السياسية المطروحة في تلك الحملات لم يعد المواطنون المعنيون هم الذين يحددونها، وإنما يختارها ويرسم تعابيرها ونبراتها وألوانها «خبراء» مختصون بالاتصالات، وبالإعلام، والدعايات: «هؤلاء هم الذين يسيطرون على السجالات!» ولكن أي مسائل يختارونها لجذب الناس؟، إنها القضايا التي تستطيع الأحزاب أن «تحلها»!، لكنها ليست القضايا الأساسية التي تهم الناس.
] الفراغ
أوليس هذا ما نشهده اليوم في الانتخابات الرئاسية الفرنسية: فراغاً في البرامج، وخواء في الأفكار، وبعداً عن المسائل الحساسة، وتجاوزاً للقضايا المحورية. وكبديل من هذه الشعارات، انتقل معظم المرشحين الى الطرق المواربة لتغطية الهشاشة والتعمية، التي يمارسونها: إنها الشعبوية بالذات «البديل» الجاهز.
أكثر: كأنهم يثيرون «اختلافات وأزمات بينهم» كما يقول كراوتس أم مرغمون على ذلك، لكي «تكتسي الانتخابات مصداقية»، والهدف «ربح رخيص» للأصوات وبأبشع الطرق، لتوفير مقاعد لهم في السلطة. هذا ما فعله ترامب. وهذا ما حدث في إنكلترا وخروجها الدراماتيكي من الاتحاد الأوروبي. وهذا ما يتكرر على ألسنة اليمين المتطرف في فرنسا، وكذلك اليسار الشعبوي: من فيون الى لوبان الى ميلانشون… فإلى أوربان (المجر)، وقبلهم تشافيز (الشعبوي الجماهيري)، من دون أن ننسى بوتين… فإذا كانت الديموقراطية بممارستها مشوشة الى هذا الحد، ومغدوراً بها الى هذا الحد، فمن الطبيعي أن يأنف منها الناس، ومن اسمها، وتاريخها… ويكنون حقداً على نُخبها (كما قال الروائي هولبيك).
هذا ما يُقال في الحدود الممكنة للديموقراطية؛ لكن، وفي خضمّ التحوّلات، واتّساع الكوارث والمشاكل، وعودة «خصومها» كيف يمكن أن تبقى لها حدودها البعيدة «عابرة الدول والمشاعات والشعوب».
] تصدير الديموقراطية
هنا المسألة «المستحيلة». فهل يصبح تصدير الديموقراطية أو الأحرى هل ينجح؟ هناك من ينفي ذلك. فالديموقراطيات هي شأن محلي أو قومي مرتبط بالأرض والحدود والناس المعنيين. وما يجري أو جرى في أميركا… لا يصلح في الهند أو في سوريا، أو في مصر أو بلغاريا! يقول كراوتس «إن الديموقراطية لا تعمل إلا في الإطار القومي» (وسواه قال ذلك)، وكل محاولة لإدخالها في سلم عالمي ما لحلّ مسائل دولية… تبوء بالفشل (وهذا ما سبق أن أشرنا الى بعضه)، ويصطدم بعقبات كبيرة. وهذه ضربة أخرى توجّه إليها: حصرها في بيئة، أو في حدود؛ لكن هذا الرأي ينفي آثار كل فلسفات التنوير، والحرية، والديموقراطية، وعالمية القيم، بل وينكر كل ما قدّمته أفكار التنوير الى العالم! (أين باتت هذه الأفكار؟).
لكن هناك ما يمكن تحديده ولو تقريبياً: فإذا كانت هذه الأنظمة الديموقراطية تعطلت فاعليتها، وطوابعها، وأسسها الفكرية، والسياسية، وصارت مقتصرة على التفاصيل، فيعني أن العوامل والشروط نفسها، التي صنعتها في القرن العشرين وازدهرت ما بين الحربين العالميتين، قد تبدلت. فإذا كانت الأحزاب باتت غير فعالة، وكذلك القادة أنفسهم، بإيديولوجياتها، وخططها، وطريقة اتصالها بالجماهير، فيعني أنّ هذه الأحزاب التي يُفترض أنّها تجسّد القيم الطليعية، قد سقطت، وسقط معها الكثير الكثير من الديموقراطية… فكأنّ هذه الأخيرة صارت أصغر من أن تستوعب التغيرات الاقتصادية (والتكنولوجية)، والأزمات الداخلية، والعالمية. أصغر؟ بل صارت إما وسيلة لتبرير عجزها، أو أداة مشلولة، لا حول لها ولا قوّة. فالقضايا الأساسية تجاوزت ما هو سياسي وفكري وإداري الى ما هو اقتصادي.
إنه الانتقال «السحري» من الممارسة العادية الى طغيان المسائل الاقتصادية التي باتت في موقع «خارج المفهوم الديموقراطي». (كما يقول هابرماس): وهذه دلالة دامغة أن النظام السياسي في فرنسا، أو حتى أميركا أو اليونان أو إسبانيا… بات عاجزاً عن تلبية آمال الناس في هذا المضمار. فالعولمة الاقتصادية غول التهم كل ما حوله: الأحزاب، والكيانات، والحاجات، والمساواة، والتقاليد، وخصوصية الشعوب. فأي نظام قادر على مواجهة الأزمات الاقتصادية بديموقراطيته التي تنتجها العولمة التي افترست سيادة الدول، وحلّ مشاكلها الداخلية، والتحكم بخططها وبرامجها حتى المالية. فهل بات يستطيع أي نظام أن يعالج أموره حتى الداخلية بمعزل عن المؤسسات الاقتصادية العالمية: في بروكسل، أو نيويورك، أو وول ستريت، أو دول الثماني الكبرى؟ لا!.
فهل تحولت الديموقراطية في بعض بقاياها في بعض المجالس الدولية مجرد ذريعة، يفرضها كبارها، للادعاء باسترجاع واستعادة الديموقراطية أحياناً، كما في العراق أيام بوش الإبن، واليوم، عبر التدمير والقتل؟ فأي ديموقراطية هذه تُبنى بالعنف ولو مشروعاً، على أيدي «الدول الديموقراطية». هذا هو الفرق، وهذه هي سوريا، وقبلهما أفغانستان. (والشيشان)؛ كل ما تستطيع فعله بقايا الديموقراطية في الغرب والشرق، أن تستثمر، لفرض ديموقراطية (أحياناً) مزعومة بالقوة.
لكن هناك من يقول: إن بلداناً كثيرة انضمت الى خانة الديموقراطية، وتزايدت أعدادها بحسب «منظمة بيت الحرية»: من 66 دولة (عام 1969)، الى 121 دولة اليوم!
أوليست هذه دلالة على انتشار الديموقراطية؟ ربما، لكن أوليس هناك فارق بين الديموقراطيات الحقيقية وبين الديموقراطيات الشكلية؟ الحقيقة التي يحددها المجتمع المدني القوي، وإرادة الناس…؟. والطريف الطريف أنّ روسيا واردة في لائحة الـ121!.
وأخيراً السؤال الملُح: إذا باتت الشعبوية العالمية، هي الظاهرة الأقوى في الجسم الانتخابي، فكيف تكون الأنظمة والهيئات التي انتخبتها ديموقراطية؟ كما حدث في أميركا مؤخراً، وكما يحدث في فرنسا حالياً، وكما سبق أن حدث في «البريكست»، وفي اليونان… وفي المجرّ! أترى بات العالم يحمل ديموقراطية شبيهة بديموقراطيات الطغاة في العالم الثالث!
وأعود هنا الى المُنظّر السوسيولوجي الكبير ماكس فيبر الذي قال باكراً عام 1908: «إن مفاهيم مثل «إرادة الشعب» و«إرادة الشعب الحقيقية كفت منذ زمن بعيد في نظري عن الوجود». إنها فبركة خيال. فكل الأفكار التي تهدف الى محو هيمنة الإنسان على الإنسان هي مجرد يوتوبيا».
أهل هذا ما وصلنا إليه اليوم بعد أكثر من قرن؟
المستقبل