صفحات العالم

حرب سوريا: يربح التفاوض مَن يربح الجغرافيا


بعدما أُوصدت أبواب التسوية، باتت المواجهة خياراً وحيداً يتبادله نظام الرئيس بشّار الأسد والمعارضة المسلحة. يستقر توازن القوى بينهما من دون ارتسام خطوط تماس، أو سيطرة أحدهما الكاملة، على جغرافيا نهائية

نقولا ناصيف

لا يزال نظام الرئيس بشّار الأسد، في ظلّ دوّامة العنف، يُمسك بالمدن الرئيسية في سوريا ويتحرّك بفاعلية في الأرياف. فيما أخفقت المعارضة المسلحة في الإستيلاء على أي من تلك المدن، وإغلاقها في وجه الجيش وتكريس سيطرتها عليها. إلا أنها نجحت في التوسّع إلى الأرياف وتحريضها على النظام، واحتفظت بمقدرة المناورة في مهاجمة أحياء ثم الفرار منها. كانت تلك، تباعاً، حال مدن درعا وحماه وإدلب وحمص، وصولاً إلى دمشق، والآن حلب. في كل منها انتهى المطاف بسيطرة الجيش، من دون أن يحول دون مهاجمة المسلحين مواقعه واستهداف جنوده واستنزافهم .

أضحى الوجه الفعلي لما يجري في سوريا هو حرب الجغرافيا. يربح التفاوض مَن يربح فيها. وقد تكون أبرز دلالاتها:

1 ـ عندما قرّرت المعارضة المسلحة خوض معركة دمشق، عشية تفجير مقرّ مكتب الأمن القومي في 18 تموز، وضعت في الحسبان انتشاراً مفاجئاً يشطر المدينة إلى أكثر من جزء. خططت للسيطرة على ضواحيها القريبة المؤدية إلى طريق المطار والإستيلاء عليه، والتمدّد في وسط العاصمة بغية عزل مناطقها بعضها عن بعض. سرعان ما اكتشف الجيش الخطة واستبق المسلحين في 13 تموز بمهاجمة الأماكن التي انتشروا فيها، خصوصاً في منطقة البساتين التي توغّلوا فيها، فدكّهم بدباباته. استعجلت المعارضة الإفصاح عن خطتها قبل مباشرة تطبيقها. أول المتحدّثين، والمتسببين بفضحها، قائد الجيش السوري الحرّ العقيد رياض الأسعد الذي أعلن ساعة الصفر وتأهب لـ«تحرير دمشق».

بالتزامن مع تفجير 18 تموز، كانت السيطرة على دمشق كفيلة بإعلان انهيار نظام الأسد تماماً. توقع مدبّرو التفجير انضمام الرجلين المعنيين بحماية دمشق إلى اجتماع الضبّاط الأربعة الذين قضوا، وهما قائد الحرس الجمهوري اللواء حافظ مخلوف إبن خال الرئيس وشقيقه قائد أحد ألوية الفرقة الرابعة العميد ماهر الأسد. وهما في الغالب لا يحضران هذا الاجتماع، وليسا عضوين في «خلية إدارة الأزمة». أضف أن من شأن المباغتة ضعضعة مقدرة الفرقة الرابعة التي يقودها العميد أوس أصلان، نجل الرئيس السابق للأركان العماد علي أصلان، في الدفاع عن العاصمة رغم تطويقها إياها بقطر 30 كلم.

مثّل تزامن التغلغل المسلح في قلب دمشق ومفترقاتها الرئيسية والإطباق عليها من ضواحيها، واغتيال الضبّاط الأربعة الكبار، لحظة الذروة في مواجهة نظام الأسد بضرب بنيته الأمنية وبثّ الذعر في العاصمة والسيطرة عليها. خططت المعارضة لمهاجمة العاصمة في أول أيام رمضان (20 تموز ) وإعلان الإستيلاء عليها في اليوم الخامس منه (25 تموز).

2 ـ لم تكن مهاجمة حلب في صلب خطة الإستيلاء على دمشق، إلا أنها أضحت، بعد الإخفاق، معركة ملزمة للمعارضة المسلحة. قيلت أسباب كثيرة في اندلاعها. تردّد أن العميد مناف طلاس نصح بخوضها. قيل كذلك إن رئيس فرع استخبارات المدينة العميد محمد مفلح الذي نيط به، قبل شهرين، فرع استخبارات حلب والإتصال بعشائر ريفها ومحاولة تحييدهم عن النزاع، تخلى عن مهمته وفرّ إلى تركيا معلناً انشقاقه، بعدما سهّل تسلّل مسلحي المعارضة إلى أحيائها الجنوبية وخصوصاً الأحياء الثلاثة التي شهدت أعتى المواجهات، وهي صلاح الدين وباب الحديد والسكري. قيل أيضاً إن مفلح فرّ بأموال وضعها النظام بين يديه لتسهيل تعاون عشائر الريف معه.

بيد أن معركة حلب انطوت على مبرّرات إضافية لإشعالها، أبرزها ظهرُها المكشوف لتركيا، إذ لا تبعد عنها أكثر من 45 كلم كافية لتحوّلها ـ في حال نجح المسلحون في السيطرة عليها ـ منطقة عازلة تربط المدينة بعد إخراج النظام منها بريفها. ومن ثم توصلها بالحدود التركية. ثم تتمدّد إلى ريف إدلب، أخطر الأرياف المناوئة للنظام يليه ريف حمص. بذلك، لأول مرة منذ انفجار الأزمة السورية قبل 16 شهراً، تقبض المعارضة المسلحة على منطقة تستقل بها وتعلنها تحت سيطرتها، وتعدّها منطلقاً لتوسّعها. تحظى عندئذ بغطاء جوّي تركي لحمايتها من مهاجمة الجيش السوري لها، وتتبرأ أنقرة من مسؤولية إنشائها ما دامت من صنع المعارضة المسلحة. لم تكفّ تركيا مذ ذاك عن التهديد بمنطقة عازلة تحميها عند حدودها، من دون إقرانها بأي إجراء يضعها موضع التنفيذ. اكتفت بتسليح المعارضين وتدريبهم وإكسابهم خبرات، وتسهيل تسلّلهم إلى مناطق انتشار الجيش، وإنشاء غرفة عمليات لقيادة لأسعد والجيش السوري الحرّ، وأقامت مخيّمات للاجئين.

3 ـ لا تزال المعارضة المسلحة، إلى الآن، في حاجة إلى انتصار عسكري كبير تترجمه مكسباً سياسياً يربك نظام الأسد. إلا أنها أخفقت باستمرار في الحصول عليه. كسرت الهيبة الأمنية للنظام مرتين على الأقل: عندما دخلت في حرب مفتوحة معه في معظم سوريا وألحقت به خسائر، وبثّت الفوضى والإضطراب في البلاد ووضعت الرئيس في مواجهة المجتمع الدولي. وعندما نجحت في قتل رؤوس كبيرة في النظام الأمني في عمل استخباري بالغ التعقيد قطفت المعارضة في الظاهر ـ التي لم تصنعه حتماً ـ ثماره.

في المقابل، في ظلّ عدم تكافوء عسكري يملك كل منهما عصا موجعة للآخر: مقدرة الجيش على الفتك بمسلحي المعارضة ودكّ قراهم على رؤوسهم، ومقدرة المعارضة المسلحة على تنفيذ هجمات أمنية تقترب يوماً تلو آخر من الإحتراف وتراكم الخبرة بالتفجير والإغتيال واصطياد الضبّاط والجنود.

4 ـ لا يعني ارتفاع وتيرة العنف سوى أن كلا من الطرفين لم يعدّ يسلّم بتسوية سياسية للأزمة تقوم على انتقال للسلطة. لا الرئيس يتصرّف على أنه موافق على انتقال للسلطة وهو يبدو أكثر تمسّكاً بها، ولا المعارضة تطلب جزءاً من السلطة بل كلها دفعة واحدة. الأمر الذي برّره، ولا يزال، عنفاً غير المسبوق يتبادله الطرفان في الإقتتال. الواقع أن مَن يفقد السيطرة على الأرض يخسر تماماً كرسيه إلى التفاوض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى