عندما ترسل امريكا للاسد اشارات لاستخدام المحرمات بحجة محاربة ‘القاعدة
سهيل حداد
دخلت الثورة السورية عامها الثالث في مسيرة حركة التاريخ الطبيعية بثبات راسخ وبزخم أشد قوة ودفعا عن انطلاقتها، انجازات نوعية وحقيقة مركبة أذهلت الأصدقاء والحلفاء قبل الخصوم والأعداء، مؤتمرات وندوات رفعت الشعارات الوطنية في الداخل والخارج (‘واحد، واحد، واحد.. الشعب السوري واحد’ ـ ‘سورية لا طائفية، وحدة.. وحدة وطنية’) بينما لا يزال النظام السوري المتهالك يعيث في الأرض فساداً وقتلاً وتدميراً، وما يزال جاثماً بثقله الاجرامي على صدور بقية الشعب الســــوري الأعزل، يعيش في ديجور ظلام وظلمات الماضي وأضغاث الأحلام وغياهب المجهول، يظن أن العودة قريبة وأن الثورة في طريقها إلى النهاية والزوال، يعبث في كل المحرمات والمقدسات الوطنية عله يستطيع تغيير المعادلات ‘من عبق رائحة الوطنية إلى إيقاد نار الطائفية والمذهبيـــة المقيــــتة ـ ومن سلمية الثورة البيضاء إلى الحلول الأمنية والعسكرية السوداء ـ ومن الحلول السياسية الداخلية والعربـــية إلى الحلول العسكرية الايرانية والروسية’، إن النظام القبيح في شكله ومضمونه لا يصدق ما يجري على الأرض وما يحدث من تطورات وانهزامات متسارعة وأحداث درامية تسير به نحو الهاوية تحت وطأة الصدمة، ينزف أنفاسه الأخيرة في غرفة الانعاش، يستجدي الأطباء الحلفاء على فراش الموت القادم عسى أن يبقى على قيد الحياة، يكابر على آلامه وجراحه العميقة التي تعفنت، ويعتمد على الفتاوى الشيطانية السوداء وهلوسات الاحتضار تهمس في أذنيه الكبيرتين، أنه ما زال قادراً على الثبات والوقوف وخوض معركة الحسم النهائي (‘الأسد أو لا أحد.. الأسد أو نحرق البلد’ ـ ‘شبيحة للأبد.. لأجل عيونك يا أسد’).
ـ يعاني النظام السوري المثخن بالجراح أشد أنواع المعاناة بمرارة الإذلال والانكسار وقرب الهزيمة والاستسلام ، يعاني الإحباط والخوف والحصار ويدرك أن النهاية قادمة، يصارع ويقاتل من أجل الوجود والبقاء وهي أخطر مراحل الصراع ، فقد الكثير والكثير من هيمنته وهيبته ونفوذه وسيطرته وقوته واستبداده وبطشه، ومع ذلك لا يزال مصمماً على متابعة الطرق الوعرة والحلول الأمنية القذرة حتى النهاية، واستخدام كافة الوسائل والأدوات العسكرية التقليدية وغير التقليدية ـ المألوفة وغير المألوفة في عالم الصراعات والثورات، حيث يقوم باستخدام أبشع وأفظع الطرق الاجرامية والوحشية المحرمة دولياً وغير المشروعة انسانيا وقانونيا، إيماناً منه بإمكانية إخماد الثورة السورية ـ اليتيمة المطالبة بأبسط حقوقها في المواطنة والمشاركة، والتمتع بمعاني ومفاهيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة التي تعيشها وتتمتع بها معظم الشعوب المتمدنة في العالم.
ـ لقد منحت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفائها النظام السوري الشرس كل الإشارات غير المباشرة والتأشيرات السياسية المباشرة، الواحدة تلو الأخرى، خلال الفترة السابقة في زيادة استخدام جرعات القتل والعنف وإمكانية التجاوز عن ارتكاب كل المحرمات وتجاوز جميع المقدسات وغض الطرف عن كل الخطايا والخطوط الحمراء، في اتباع الطرق المناسبة حتى إن كانت غير تقليدية، واستخدام الوسائل المختلفة الأشد وحشية والأكثر خطورة ودموية، بأدوات الموت الفتاكة التي لا تعرف الرحمة والشفقة، حتى إن كانت جديدة مجهولة غير معلومة بحجة محاربة ‘القاعدة’ والإرهاب، التي انتشرت في الساحة السورية مهما بلغت نسبة الخسائر والدمار والضحايا البشرية في صفوف الشعب السوري الأعزل.
ـ لقد استطاع الثوار السوريون وبإمكانياتهم الذاتية، على الرغم من جميع التقاطعات والتناقضات الداخلية المعقدة ‘طائفياً وعرقياً ومذهبياً’، وهشاشة وضعف دوائر وحلقات المجتمع المدني المفكك بفعل نهج النظام السوري خلال العقود السابقة، وكافة التداخلات والحسابات والصراعات السياسية ‘دولياً وإقليميا’، رغم كل التخاذل والخيانة الدولية بحق الثورة السورية، أن يفقدوا النظام السوري وعيه وأجزاء كبيرة من قوته وسيطرته وتوازنه عبر توجيه أشد الضربات الموجعة إليه في الأماكن الحساسة تحت الحزام، مما دفعه للتعامل مع الثورة السورية بشــــكل هستيري، واستخدامه كافة الأساليب والطرق الاجرامية والمجازر الجمـــاعية ـ الوحشية، وأن يتحرروا من الحاجز النفسي الذي جثم على أنفاسهم عشرات السنين وأن يكسروا جدار الخوف والموت ليحلقوا بعقيدة ثابتة في فضاء الحرية والسير بإيــــمان راسخ في طــــريق التحــــرير، وأن يحققوا الاعجاز والانجازات في الاندفاعات والاختراقات الامنية والعسكرية المهمة الواحدة تلو الأخرى في عمق العمـــود الفقري للنظام السوري، الذي بنى اسطـــورة أمنية ـ مخابراتية معقدة ومتشابكة على الصعـــيدين الداخلي والخـــارجي، وقوة عســكرية متداخلة ومتحالفة مع أطراف دولية وإقليمية خلال أربعة عقود متتالية، رسمت شكلاً مخيفاً في عقول الشرق والغرب على أنها قادرة في ارتكاب وممارسة كل المحظورات في الكون، من دون رادع أخلاقي أو قانوني أو انساني والتلون بجميع أنماط القوة والبطش والاستبداد والعنف السياسي والإجرامي والقدرة والكفاءة على التلاؤم والتكيف مع الظروف المختلفة وإمكانية التعاون المفتوح والمغلق والمقيد مع الآخر والاعتماد عليها في المهمات القذرة، وهيمنت على مخيلة الشعب العربي والسوري بصور التعذيب والقهر والتنكيل والقتل والدمار والظلم والخوف حتى من مجرد التفكير في امكانية الاقتراب أو التماس مع هذه الشبكة الأمنية السرطانية التي تفوح منها رائحة الموت في كل زوايا المجتمع وأرجاء الوطن، مهمتها ووظيفتها فقط حماية اّل الأسد وضمان بقائهم في السلطة مهما كانت الطرق والوسائل الوحشية.
ـ تعد انجازات الثوار السوريين العسكرية رغم كل المعاناة والآلام ابداعات حقيقية ومدرسة فنية في عالم الثورات، حيث الابتكارات الخلاقة في تطوير الاسلحة البسيطة والخفيفة واستخدامها بشكل مؤثر وفاعل في الصراع مع النظام السوري، وطريقة التخطيط والمناورة والدراسات العسكرية الميدانية في السيطرة على المواقع العسكرية والأمنية الحساسة في مفاصل جسد النظام المتهالك، اضافة إلى الاعتماد على الذات المستمدة من تاريخه وتراثه وحضارته الانسانية وأحقيته في النصر والبقاء والوجود، رغم كل مربعات القوة الصلبة التي تتناحر وتتصارع بعنف وشدة للسيطرة على سورية، اضافة إلى إدارة المناطق المحررة من مخالب النظام السوري بإمكانيات فقيرة وبسيطة تحت قصف المدافع والطيران الحربي والصواريخ الباليستية.
ـ لقد وقفت أمريكا وبعض القوى الدولية والإقليمية الفاعلة والمنغمسة في الساحة السورية مذهولة أمام الاختراقات والانجازات التي قام بها الثوار السوريون بإمكانياتهم الذاتية والدعم الإقليمي الذي لا يرتقى إلى مستوى الانجازات التي تم تحقيقها في ضرب أقوى الأنظمة الأمنية استبداداً وبطشاً، ليس في المنطقة وحسب وإنما في العالم، حيث انحسرت امتداداته وقضت على نفوذه وسيطرته وحصرته في زوايا ضيقة وحادة ومحدودة، مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى القلق والتردد والتراجع في دعم وتزويد الثوار السوريين بأي أسلحة نوعية مطلوبة، بل والضغط ومنع الدول المنادية في ضرورة تسليح المعارضة السورية، بريطانيا ـ فرنسا ـ السعودية ـ قطر ـ تركيا.. لحسم الصراع مع نظام الأسد.
ـ إن الثورة السورية تنادي كل الضمائر الحية من أبناء الشعب السوري بمختلف أطيافهم أن يرتفعوا ويرتقوا إلى حجم التضحيات الجسام التي دفعوها في سبيل الحرية والكرامة، وأن يطهروا صفوفهم من اختراقات الطابور الخامس وخفافيش الظلام وأن يحسموا أمرهم بسرعة في تمتين وحدتهم الوطنية ومواقفهم حول المبادئ الأساسية في بناء دولتهم المنشودة، والابتعاد عن الخلافات والمهاترات والتجاذبات العشوائية، والعلاقات القائمة على النظرية القبلية والعشائرية، وبذل كافة الجهود لفتح باب الحوار مع كافة أطياف الشعب السوري الذين ما يزالون في الضفة الأخرى ليساهموا مع أخوانهم في عملية التغيير المنشود.
ـ لقد حلقت الثورة السورية رغماً عن إرادة الولايات المتحدة الأمريكية ونفاقها وإجرام النظام السوري ووحشيته في أفق سماء الحرية، رغم كل المآسي والاضطهاد.. وأقسم الثوار الوطنيون أنهم ماضون من دون عودة، رغم كل الخيانات والتآمر الدولي في طريق تحرير وطنهم مهما بلغت التضحيات ‘الشهادة أو النصر’. وها هو الشعب السوري الصامد الرقم الأصعب في المعادلة الدولية والإقليمية والداخلية ينير الكون ببطولاته وتضحياته.. ويرفع أجمل الشعارات والرايات الوطنية ‘النصر قادم .. النصر قادم’ ليغمسها في عمق تاريخ الثورات ويعلقها فوق جبين الشمس..
‘ كاتب وباحث سوري في ألمانيا
القدس العربي