عندما لقي الطبيبان حتفهما.. قررت مغادرة الرقة
أدار الطبيب بركات، البالغ من العمر 28 عاماً، عيادة سرية في مدينة الرقة شمالي سوريا، عندما كانت تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”. أمّا حالياً، فهو يعمل في عيادة منظمة “أطبّاء بلا حدود” في حزيمة شمالي الرقة.
يقول بركات: “غادرت زوجتي برفقة طفلَي الرقة في وقت مبكر، (بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية عليها)، إلا أن المدينة افتقرت إلى الأطبّاء والممرضات، ولهذا السبب بقيت فيها عوضاً من مرافقة عائلتي”. ويتابع: “كنت أعمل كطبيب في المستشفى الوطني، ولكن عناصر تنظيم الدولة الإسلامية سيطروا عليه، وبالرغم من معالجتهم لمرضى من عامة الناس، إلا أنهم أعطوا الأولوية إلى مناصريهم ومقاتليهم. وهذا ما دفعني إلى مغادرة المستشفى وافتتاح عيادتي الخاصة”.
وتمكن بركات من شراء الإمدادات والمعدات الطبية والحصول على الأدوية من صديق له يعمل صيدلانياً. ولكن عندما تصاعدت حدة الوضع وفُرض الحصار، اضطر إلى إغلاق العيادة، قبل أن يفتتح وصديقه الصيدلاني عيادة سرية في منزله، لتوفير العلاج الطبي المجاني للجرحى المدنيين. وانضمّ إليهم ثلاثة أطبّاء وصيدلاني، وتولى كل منهم تغطية منطقة محددة.
يقول بركات: “في كل شهر كنا نعالج 200 جريح حرب على الأقل، أُصيب معظمهم نتيجة الألغام الأرضية أو الأجهزة المتفجرة اليدوية الصنع. للأسف، عجزنا عن معالجة الكثير من المرضى – مثل الحالات الطارئة الحرجة- بما أننا افتقرنا إلى المعدات اللازمة أو الأدوية أو أدوات التعقيم، ولكننا حاولنا إنقاذ حياة أكبر عدد ممكن من المرضى”.
أمّا التحدّي الرئيسي، فكان التنقل بسبب الغارات الجوية والألغام على الطرقات. يتابع بركات: “لم يستطع المرضى الوصول إلينا والعكس صحيح. ولذلك، فقد الكثير من المدنيين حياتهم لأننا لم نتمكن من الوصول إليهم. كانت الحياة هناك شاقة فعلًا. لم يتوفر الطعام ولا الكهرباء أو المياه – بالرغم من أننا تمكنا في بعض الأحيان من الحصول على المياه من البئر”.
يقول بركات: “عشتُ يومَين لن أنساهما في حياتي. في غضون 48 ساعة، شُنَّت نحو 1,000 غارة جوية على الرقة. في اليوم الأول، عالجنا 17 مريضاً؛ وفي اليوم الثاني عالجنا 18 مريضاً، أصابتهم الشظايا. ثم لقي طبيبان وصيدلاني من مجموعتنا حتفهم نتيجة غارات جوية. كنا كالأخوة، وقطعنا وعداً على بعضنا البعض أنه بالرغم من الصعوبات والتحديات، سنبقى في الرقة”.
بذل الأطباء ما في وسعهم، وحاولوا جاهدين تقديم كل ما أمكن إلى المدنيين، ولكن في تلك المرحلة، عند ارتفاع حدة الغارات الجوية ومقتل الطبيبَين، “بات من الصعب جداً أن نبقى في مكاننا. عندها اتّخذت قرار المغادرة. أنا حزين لأنني فقدت الكثير منهم، ولكنني ممتن من جهةٍ أخرى لأنني بقيت على قيد الحياة”.
لكن المغادرة لم تكن سهلة. فقد استخدم عناصر “الدولة الإسلامية” الناس كدروع بشرية. وحتى في الأيام الأخيرة من المعركة، “منعنا العناصر من مغادرة المدينة. حاولنا مغادرة الرقة المرة الأولى في منتصف شهر أغسطس/آب من هذا العام. كنت مع مجموعةٍ من 102 شخص أرادوا مغادرة المدينة المحاصرة. وبينما كنا نتقدّم، راح عناصر تنظيم الدولة الإسلامية يطلقون النار علينا. وبدأ الناس يمشون بوتيرةٍ أسرع ويركضون. وما إن باشروا الجري حتى انفجر لغم. فتوفي تسعة أشخاص، من بينهم ابن عمي وزوجته. أمّا ابنهما البالغ من العمر ستة أعوام، فأصيب بجروح، وكان من واجبي الاعتناء به، بما أنه لم يتبقَ له سواي، واضطررت إلى إعادته إلى الرقة لتلقي العلاج الطبي”.
بعد مرور شهر واحد، حاول بركات المغادرة مجدداً، برفقة 76 شخصاً، واصطحب معه نجل ابن عمه المصاب لأنه فقد والدَيه، وما من أحد آخر ليعتني به.
يقول بركات: “غادرنا الساعة 3.30 فجراً، عابرين طريقاً على طول شارع تل الأبيض. ونجحت هذه المرة محاولتنا الثانية. ما إن أدركنا نقطة مستقرة، حتى تمكنت من تغيير ضمادات الطفل وتابعنا بعدئذٍ تقدمنا، ووصلنا أخيراً إلى حزيمة. سعيت بعدها إلى إرسال الطفل إلى عائلة والدته في دمشق حيث يمكنها الاعتناء به على أن يحظى بعلاج طبي أفضل”.
عندما تردد إلى مسامع الطبيب أن منظمة “أطبّاء بلا حدود” ستفتتح عيادة في حزيمة، تقدم مباشرةً بطلب عمل. وهو يعيش الآن مع عائلته في مزرعة على مقربة من حزيمة، كان قد ابتاعها قبل بضع سنوات عندما عرف أن الوضع سيزداد سوءاً.
وبعد توقف المعارك في الرقة، “قصدتها في زيارة سريعة خلال الاحتفالات ورأيت كيف أضحى منزلي المؤلف سابقاً من أربعة طوابق مجرد ركام. لا يمكننا العودة الآن إلى الرقة حتى يتم تطهير المدينة من الألغام الأرضية كافة ومخلفات الحرب، إلاَّ أني أرغب فعلاً بذلك، أريد العودة إلى مدينتي، وإعادة بناء منزلي وافتتاح عيادة جديدة”.
لكن مخاطر الألغام تعيق عودة الأهالي إلى الرقة، فخلال الأسبوع الأول من العام 2018، عالجت طواقم منظمة “أطباء بلا حدود” الطبية في مدينة الرقة 33 مريضاً يعانون من إصابات ناجمة عن التفجيرات، من بينهم 13 طفلاً ما دون سن الثامنة عشرة. وقد أصيب معظمهم خلال عودتهم إلى بيوتهم وأحيائهم في مدينة تملؤها مخلفات الحرب غير المنفجرة، ما يشكل خطراً هائلاً يهدد سكان الرقة. ومن المتوقع استمرار وقوع أعداد كبيرة من ضحايا التفجيرات من بينهم الأطفال في الأشهر المقبلة، في حال لم تُنفَّذ أنشطة نزع الألغام.
في عيادة منظّمة “أطبّاء بلا حدود” أو في الشوارع، يلتقي بركات أفراداً يتذكرونه ويتذكرون أنه عالجتهم في الرقة. “يتوجهون دائماً إليّ بكلمات الشكر، وأشعر بالفخر لأنني تمكنت من القيام بشيء ما من أجل شعبي. لا أصدق فعلًا أنني غادرت الرقة وأنني تمكنت من الخروج سالمًا من هذه الحرب”.
في نهاية المطاف، ومهما حاول بركات، كما يقول: “سأعجز تماماً عن وصف ما اختبرناه بالكلمات. فعلنا كل ما في وسعنا، والأكثر أهمية هو عدم اضطرارنا إلى اختبار أي من هذه المآسي من جديد”.
المدن