عندما ينقلب السحر على الساحر في سوريا
عمر عبد العزيز
معطيات الحال في الفاجعة التراجيدية السورية لم تعد شأناً محلياً بالضرورة، بل إن آفاق البُعدين الإقليمي والدولي في هذا الحدث الزلزالي يكاد يكون أكثر وضوحاً، قياساً بكامل المُعطيات التي جرت سابقاً في العالم العربي المنخرط في ما سُمِّي بالربيع العربي. فعلى قدر الحضورين الإقليمي والدولي في الحالات التونسية والمصرية واليمنية والليبية، إلا أنه يكتسي الآن طابعاً صاعداً في عمقه وجذريته.
بل إن المسألة السورية جعلت الساحتين الإقليمية والدولية في حالة التباس عضوي بالشأن الداخلي السوري، حتى أن بعض المُراقبين يذهبون إلى أن الحرب المدمرة التي تجري الآن في سوريا، تكشف تماماً عن انخراط أطراف مختلفة فيها.
وكأن السوريين الذين يدفعون ثمن هذه الحرب البشعة، ينتقلون تباعاً نحو حرب موازية بالوكالة، تُترجم ضمناً مرئيات ونظرات واستراتيجيات الخلافات الدولية، التي تطل برأسها لتعيد إنتاج نموذج جديد لحرب باردة كونية، قد تنزلق إلى ما هو أبعد من توازن القطبين العالميين السابقين (أميركا والاتحاد السوفييتي).
هنا يسخر القدر من الحالة الداخلية السورية المُجيّرة على منطق النظام في إدارة الحروب؛ فقد درج النظام السوري على التفنُّن في إدارة الحروب بالوكالة، وكان يتباعد دوماً عن مرمى النيران الحامية، ليضع فرقاء الإقليم في أتون تلك الحروب، منتظراً النتائج، التي وللحق كانت تأتي لصالحه.
واليوم ينقلب السحر على الساحر، فتدور حروب إقليمية ودولية مؤكدة في الساحة السورية، ليصبح النظام العتيد طرفاً مباشراً فيها، بل وليدفع الثمن الأكبر في هذه الحرب الشاملة الخطيرة، التي طالما راهن على إدارتها خارج حدوده ومناطق نفوذه. كامل الاصطفافات المُعلنة والمَخْفية في الشأن السوري تؤكد هذه الحقيقة.
ويصب الموقف العربي في العنوان العريض القائل بدعم الانتقال السلمي للسلطة، على قاعدة الاتفاق بين البعث السوري والمعارضات التي تشرْعَنتْ بقوة الأمر الواقع. وهذا يذكرنا بذات البروفة اليمنية التي جاءت عطفاً على الإجماع الخليجي والدولي.
وعلى خط مُتّصل تنال المبادرة العربية تأييداً كاسحا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فيما تتكسّر أمام الفيتو الروسي الصيني في مجلس الأمن الدولي، وفي سابقة لا نظير لها. مما يؤشر إلى انخراط نسيجي، لروسيا أولاً، ثم الصين في أُفق ما، في تأكيد مُتجدد على الشرخ الدولي الكبير في مقاربة المسألة السورية.
ولا يخفى على أي لبيب أن هذا الشرخ يتمدد على مستويات شاملة في المنطقة “الأورو آسيوية” المحيطة بكامل روسيا الكبيرة، بالإضافة إلى الحرب التجارية المعلنة ضد الصين الفتيّة من طرف دول الغرب (الأورو أميركية)، وهو الأمر الذي جعل التنين الصيني يتنازل عن مرئيات الحكيم “صن تسو”، القائلة بكيفية الانتصار في الحرب دون خوضها البتة!..
مع بداية تكليف “كوفي أنان” بالملف السوري، توافق الأميركان والروس على مبدأ الانتقال السلمي للسلطة، وقد فسّرها المراقبون، وعلى رأسهم المُكلّف “كوفي عنان”، بوصفها انتقالا نحو حكومة تشارك وتوافق، وتغيير آليات الدولة السورية القائمة، وتنحّي الرئيس بشار الأسد عن السلطة.
ذلك كان هو المفهوم الذي ترسّخ في أذهان المُفسرين المباشرين لمعنى الانتقال السلمي للسلطة؛ لكن المسألة سرعان ما تغيّرت، فتراجع “عنان” إلى الظل، وما زالت الإدارة الأميركية ومعها الأوروبيون يبحثون عن صيغة تُرضي روسيا، على أمل أن تقبل بقاعدة التغيير المتدرج للنظام السوري، ولكن هيهات أن يقبل القيصر “بوتين” بأقل مما يرى، وهو الملدوغ مراراً وتكراراً من قبل الإدارات اليمينية الأميركية المتعاقبة.
لكن هذ المشهد السياسي على أهميته وتنامي حضوره الدولي الخطير، لا يجعلنا نغفل ما يجري عملياً على الأرض، فالمعارك المُحتدمة في أكبر مدينتين سوريتين (دمشق وحلب)، والاستقطابات السياسية المتعددة التي تتم وفق قاعدة التمدد الأُفقي للمعارضة، مقابل الانشقاقات عن النظام السوري، والمتاعب الاقتصادية القاتلة التي يواجهها النظام، عطفاً على اقتصاد الحرب الداخلية الذي ينفلت من أي حسابات وتوقعات محددة.. كل هذه الأمور تقدم الوجه الآخر للمشهد.
حالة الانسداد السياسي المقرون بانسداد التفاهم بين اللاعبين الدوليين الكبار، تجعل من سوريا أخطر بروفة لإدارة حرب باردة جديدة يدفع ثمنها في المدى المنظور الشعب السوري، وربما تمددت الحالة إقليمياً في المدى المتوسط. لكن الكبار الذين يعتقدون أنهم بمنأى من بلايا هذه الحرب وأنهم سيديرونها بالإشراف عن بُعد، عليهم أن يراجعوا مقدمات الحربين الكونيتين، ليعلموا حقاً وصدقاً أن الشرارة الصغيرة قد تحرق سهلاً بكامله.
البيان