عن أي ثورة ندافع إذاً؟/ عمر قدور
من العار حقاً أن نصل إلى إدانة اعتقال ناشطي مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، على يد جهة مسلحة تنشط في “دوما المحررة”. لكن من العار أيضاً أن ندفن رؤوسنا في الرمل ونحسب ما جرى انتهاكاً عارضاً، فتجاوزات بعض المجموعات المسلحة لم تعد في إطار الأخطاء التي تحدث في الحروب؛ هي طعنات في ظهورنا جميعاً، وبالدرجة الأولى هي طعنات موجهة للثورة التي قامت أصلاً على الضد من مصادرة الحريات. من العار أن نستذكر، في لحظة اعتقال رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل وناظم حمادي، اعتقالَ الأب باولو وفراس الحاج صالح خارج سجون النظام، وأن نستذكر اعتقال المناضل فائق المير من قبل النظام ضمن ما أشيع عن صفقة بين الأخير وإحدى المجموعات التي طعنته بالظهر وأوقعت به. العار يكبر عندما ننوه بأن ناشطي مركز توثيق الانتهاكات وقبلهم فائق المير كانوا طوال الوقت يمنحون الأمل للآخرين؛ يمنحونه من خلال وجودهم في قلب الثورة وإيمانهم بها على الرغم من كل عوامل اليأس، وأهم من ذلك أنهم كانوا مصدراً لا يعوّض للمعلومات الحقيقية وصوتاً لأولئك الذين لا تُسمع أصواتهم في وسائل الإعلام.
الثورة ليست بخير عندما تُعتقل سميرة ورزان والآخرين في غوطة دمشق، في الوقت الذي تنسحب فيه الكتائب المسيطرة في “دوما” من معركة “النبك” وتتركها لشبيحة النظام وشبيحة حلفائه القادمين من العراق ولبنان. الثورة ليست بخير عندما يَعتقل أولئك الناشطين السلميين من يُفترض أنهم حملوا السلاح حماية لهم، وعندما لا تتحرك سريعاً أية جهة معارضة للكشف عن مصيرهم، وحتى لا تصدر إدانة قوية ضد الجهات المختطِفة. لن يكون مهماً فقط أن يُفرج عن المعتقلات والمعتقلين، هذا أقل ما يُطالب به اليوم، فالأهم ألا ترى نفسها أية جهة وريثة للنظام بأسوأ ما فيه وبأسوأ انتهاكاته التي كان يرصدها مركز التوثيق، الأهم أن يشعر أبناء المناطق المحررة والقاطنون فيها بأن تضحياتهم تحت القصف والحصار هي من أجل مستقبل مختلف ومن أجل كرامة حقيقية.
قبل أيام صرّح رئيس النظام مزهواً، أمام وفد نقابي أردني، بأن له رجالاً يقاتلون في صفوف المعارضة! مع ذلك ليس ضرورياً التحري عن الصلات المباشرة التي تجمع بعض أمراء الحرب بالنظام، فالممارسات التي لا تخدم أحداً سوى النظام كفيلة بالدلالة على تلك الجهات. في أكثر من جبهة حدثت مقايضات وبيعت انتصارات للنظام لم يكن ليقدر عليها لولا أمراء الحرب، وفي تلك المرات كانت حماية المدنيين هي آخر ما يكترث به أمراء الحرب، إذ كان معلوماً أن دخول الشبيحة سيكرر المجازر التي حدثت سابقاً. ثمة صلات فُضحت سابقاً بين النظام وبعض المجموعات التي سيطرت على آبار النفط، فالأخيرة تبيع النفط للأول نقداً ولم تطالب بأية مكاسب سياسية أو إنسانية لسكان المناطق المحاصرة. ثمة كتائب رابطت على بعض الجبهات، ولم تحاول التقدم قيد أنملة، ويعلم الكثيرون أن وجودها بات أشبه بجدار عازل أمام الحاميات العسكرية والأمنية للنظام، وأن هناك تفاهمات ضمنية بين الجانبين تقضي بعدم فتح أية معركة جدية. لقد أشرنا مبكراً إلى نوعين من المجموعات المسلحة، وإلى أن قسماً منها يقاتل النظام حقاً، بينما ينهمك القسم الآخر في جني المكاسب في المناطق المحررة مستغلاً عدم قدرة القسم الأول على فتح جبهتين معاً؛ ذلك يعني تفريغ التحرير من مضمونه وهذه أكبر خدمة تُقدم للنظام المنسحب.
الثورة السورية ليست الأولى التي تعاني من ظاهرة أمراء الحرب، غير أن طول الأمد وانسداد الأفق جراء الصمت الدولي جعلاها فريسة لشتى العلل التي يمكن أن تعاني منها ثورة. لا ننسى الذراع الأمنية للنظام التي تحكمت بالبلاد لمدة نصف قرن، والتي لها خبرة وصلات مشهودتين في التعامل مع المجموعات المتطرفة، بدءاً من تشجيع إنشائها مروراً بإنعاشها، وانتهاء بالقضاء عليها بعد قيامها بالمهمة المناطة بها. نستذكر هنا تصريح أحد الإسلاميين السابقين بأن ضابط الأمن الذي استجوبه أولاً هو نفسه الذي جنده من أجل قتال الأمريكيين في العراق، وهو نفسه الذي عاد واستجوبه ثم اعتقله على خلفية ذهابه إلى العراق. لذا ليس مستغرباً أن تختار كتائب السرقة أسماء إسلامية، وليس من المصادفة أن تكرس جهدها للتضييق على أبناء المناطق المحررة والمحاصرة، وليس مستغرباً بالدرجة الأولى ألا تستهدف قوات النظام تلك الكتائب في الوقت الذي لا تتوقف فيه عن استهداف أبناء الثورة الفعليين.
الثورة في جزء معتبر منها صارت معتقلة أو منفية؛ نحن هنا نتحدث عن مئات الآلاف من المعتقلين في سجون النظام، ونتحدث عن أرقام مضاعفة من الذين اضطروا لمغادرة البلاد، وهناك أرقام لا تخضع للإحصاء عن الباقين تحت تهديد الاعتقال من قبل النظام أو من قبل مجموعات تُعطى أكثر مما تستحق عندما توصف بالمتطرفة. الأقرب إلى الواقع أن نقول إن الثورة تحت تهديد الشبيحة من مختلف الأصناف، فأمراء تلك المجموعات ليسوا متطرفين بالمعنى العقائدي الذي قد يتبادر إلى الذهن فوراً، وقسم كبير منهم يتمتع بأمية ثقافية لا تخفى على أحد، وغالبيتهم بلا مرجعية أصولية واضحة، إلا إذا اعتبرنا الارتجال وإعدام الناس بحجة الدين وحيث لا ينص على ذلك فعلاً، تطرفاً دينياً. بعض أمراء الحرب “المتأسلمين” من أصحاب السوابق الجنائية، ولم يُعرف عنه يوماً اشتغاله في السياسة أو اكتراثه بالدين إلا عندما أصبحت السياسة تجارة رابحة وصار الدين غطاء مناسباً لها؛ ثم يأتي من يريد أن يحسب أولئك على الثورة، سواء بحسن نية ممن يتوخون القضاء على النظام بأي ثمن، أو أولئك الذين يريدون الإساءة إلى الثورة مستغلين الأعداء الوهميين للنظام.
نعم، مع اعتقال سميرة ورزان وغيرهما تأتي الشماتة من جهات عديدة داخلية وخارجية وقد واتت الفرصة أصحابها ليخدموا النظام مواربة. هؤلاء لا يقلون “شأناً” عن أمراء الحرب الذين يطعنون في الثورة؛ إنهم الاحتياطي الثقافي للنظام، ولو كانوا انتسبوا إلى مفاهيم الحرية في حدها الأدنى لخجلوا من شماتتهم، ولرأوا في اعتقال الناشطين من أي جانب أتى انتهاكاً لا يجوز السكوت عنه. هم أمراء حرب أيضاً، يستكملون ما يفعله أمراء السلاح، ويستخدمون أخطاء الثورة لتبرير خطايا النظام، ذلك بعد أن يلصقوا بها كل الموبقات التي لا تنتمي إليها وإلى مفاهيمها.
قد يقول قائل: عن أي ثورة تدافعون إذاً، ما دامت قد انتهكت من داخلها وخارجها؟ هذا قول غير منزّه عن انتهاك الثورة بدوره، لأنه يتجاهل معاناة السوريين خلال نصف قرن، ويتجاهل تضحيات مئات الآلاف منهم من أجل الحرية، تلك التضحيات التي لم يقدّمها أمراء الحرب، بل قدمها أناس سلميون، وآخرون حملوا السلاح دفاعاً عن كرامتهم لا طمعاً بسلطة أو مال.
تكالب الخارج والداخل على الثورة لا يطعن بأحقية السوريين بحريتهم وكرامتهم، ولم يحدث من قبل إلا لأعداء الحرية أن طعنوا في استحقاق الآخرين لها. نعم، وبكل صراحة، السفلة وحدهم يستطيعون الشماتة الآن، ويستطيعون الرقص على الجثث ولو رمزياً؛ السفلة الذين لا يجدون عذراً لسفالتهم إلا بوضاعة الآخرين.
المستقبل