عن أي وطنٍ نتحدث/ رشا عمران
ما الذي يجعل من الاعتراف بفقدان الحنين، أو عدم الانتماء إلى الوطن، يشبه الاعتراف بالخيانة؟
كثيراً ما سألت نفسي: ما هو الوطن؟ هل هو الشعار الذي كنا نردّده في مدارسنا، من دون أي تحديد لمعناه؟ هل هو الذاكرة والتفاصيل الصغيرة التي عشناها؟ هل هو الكلمة التي دائما ما يردّدها كثيرون، كما يردّد الببغاء كلمة لا يفقه لها أي معنى؟ هل هو المفردة الموجودة في أدبيات الأحزاب الأيديولوجية؟ هل هو الأغنية التي غناها المطربون ذات يوم؟ في سورية/ الوطن، لم توجد ذات يوم أغنية سورية وطنية، أكثر من تسعين في المئة من الأغنيات التي غنيت عن سورية كانت من مطربين لبنانيين وعرب. المطربون السوريون غنّوا عن الرئيس السوري، الوطن/ سورية، كان، ومازال، يتماهى مع شخص الرئيس, لهذا، جرى تصنيف كل من عارض الرئيس خائنا للوطن.
دعوني أعود معكم إلى فكرة الوطن: أعيش حاليا في القاهرة، منذ خمس سنوات، وفي بيت مستأجر طبعا. وفي سورية، حيث يفترض أنها وطني، لم أعش يوما في بيتٍ أملكه. كل البيوت التي سكنتها كانت مستأجرة أيضا، عشت في عشرات البيوت، بين دمشق وطرطوس، كلها مستأجرة، سواء حين كنت مازلت أعيش مع عائلتي، أو حين تزوجت، ولاحقاً حين انفصلت عمّن كان زوجي وعشت مع ابنتي وحدنا. هذا التنقل المستمر من بيت إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، ومن حارة إلى حارة ثانية، كان كافيا لجعلي امرأة فاقدة إحساسها بالأمان. كانت فكرة العبور ومعناه تتملكني، لم أكن أكثر من امرأة عابرة، في مكانٍ يُفترض أنه وطنها. الوطن يمنح الأمان، وأنا لم أملكه يوما، الوطن يعزّز فكرة السلام النفسي والاستقرار والطمأنينة، أو هكذا يفترض بالأوطان أن تكون، وأنا فقدت السلام النفسي وفقدت الطمأنينة، أما الاستقرار فمفردةٌ لم أعرفها إلا أخيرا، حين عشت في القاهرة في بيت خمس سنوات متواصلة من دون إحساس بالخوف من أن ثمة من سيطالبني بإخلاء المنزل بعد يوم أو أسبوع أو شهر. هل السبب هنا أنني أعيش مع وضع مادي ودخل يحميني من الخوف؟ يقيناً نعم، في سورية/ وطني، كنت أعيش مع ابنتي من مرتبي الوظيفي الذي لم يكن يكفي إيجار البيت وتسديد بعض الفواتير، من أين سيأتي الأمان والطمأنينة والاستقرار في ظل وضعٍ مادي مزرٍ؟ في الوطن، وطنك، عليك أن تشعر بالأمان، الأوطان التي لا تعطي لمواطنيها سوى الخوف والقهر واليأس وفقدان الأمان ليست أوطانا، هي أمكنة عابرة، ومواطنوها ليسوا مواطنين، هم مجرد عابرين، والعابر في مكانٍ ما قد يشتاق له ذات حين، لكنه لن يعيش حياته في دائرة الحنين، بحيث يفقد قدرته على الاندماج والتأقلم في أمكنة أخرى جديدة.
ثمّة شيء آخر، لا يعرفه سوى من كان وضعهم يشبه وضعي، حين يكون انتماؤك البيولوجي من مدينةٍ ما، ثم تعيش في مدينة أخرى، ثم تعود إلى مدينتك الأولى، ثم تعود إلى المدينة الأخرى، من دون أن تفقد الصلة بين المدينتين، ومن دون أن يكون لك ذاكرة طويلة ممتدة عن مدينةٍ عشت فيها مراحل طويلة جدا من حياتك، فأنت ستفقد شعورك بالانتماء حتما، انتماؤك متعدّد الهويات، ومتعدد المفاصل، وذاكرتك عنه تعرضت للقطع والوصل، والوطن هو امتداد للذاكرة، امتداد طويل، يفترض أنه عصي على البتر أو على القطع والوصل. ذاكرتي الشخصية عن الوطن مبتورةٌ ومقطعة، لأي وطن سوف أشعر بالحنين إذا؟
حين بدأت الثورة السورية، حلمت، مثل ملايين غيري، أن الوطن سوف يصبح حقيقة قريبة، لا مجرد شعار هلامي لا حوافّ له، عشنا سنة كاملة سعداء بحلم اليقظة هذا، اكتشفنا لاحقا، أن أحلام اليقظة أصبحت كوابيس يومية، نحن ممنوع علينا حتى أن نحلم، ثمن أحلام السوريين بوطن حقيقي كان الدم. أما الوطن الذي حلمنا به فلم يعد له أي أثر.
العربي الجديد