عن الاصلاح الديني: نقد فكرة الدولة الدينية/ خالد زيادة
فكرة الإصلاح والتجديد هي جزء من التقليد الاسلامي، استنادًا إلى الحديث النبوي:” ان الله يبعث لهذه الأمة على رأس مائة سنة من يجدد لها دينها”. نشر عبد المتعال الصعيدي (1966-1894) كتابه ” المجددون في الاسلام”، فتناول فيه شخصيات على امتداد أربعة عشر قرنًا. ويذكر في المقدمة: “الاسلام ليس دين عبادة فقط. وإنما هو نهضة دينية ومدنية معًا، والإسلام من جهة هذه الغاية يتسع للتجديد في كل زمان، لأنه إذا كانت غايته النهوض العام بالانسانية، فوسائل هذا النهوض تسير في طريق الارتقاء، ولا تقف عند حد محدود لا تتعداه، وأمرها في هذا يخالف أمر العبادات، لأنها تعتمد على الارتقاء في العلم والعرفان”.
وكان السيد رشيد رضا في تصدير كتابه:” تاريخ الاستاذ الإمام محمد عبده”، قد ذكر:” إنما المجددون يبعثون بحسب الحاجة إلى التجديد لما أبلى الناس في لباس الدين، وهدموا في بنيان العدل بين الناس، فكان الامام عمر بن عبد العزيز وكان الامام أحمد بن حنبل…”. وحين يصل إلى الفترة الحديثة يذكر على التوالي محمد بن عبد الوهاب ومحمد علي باشا في مصر ومصطفى رشيد وفؤاد باشا في تركيا وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده المصري.
وعلى المنوال نفسه يسرد أحمد أمين في كتابه ” زعماء الاسلام في العصر الحديث” سير أعلام عشرة أمثال الأفغاني ومحمد عبده وعلي مبارك والسيد أمير علي والسيد أمير خان وغيرهم. وكما لدى السيد رشيد رضا كذلك لدى أحمد أمين ثمة جمع بين أشخاص من تيارات مختلفة ومتباينة. لقد كان ذلك العصر عصر التجديد والاصلاح، فلم يكن يأتي مصلح على رأس كل مائة سنة، بل يأتي العشرات في قرن واحد. يدمج كل من رشيد رضا وأحمد أمين بين شخصيات تنتمي إلى عصر التنظيمات (النهضة) وبين آخرين ينتمون إلى عصر الاصلاح. إنهما عصران متجاوران ومتعاقبان. فعصر التنظيمات هو عصر النهضة الأدبية والتحديثات الادارية والعسكرية والتعليمية، وكان أبرز رموزه في مصر الطهطاوي وعلي مبارك وخير الدين في تونس ومصطفى رشيد وفؤاد باشا في تركيا. كانت فكرة النهضة أو التنظيمات تقوم على أولوية الأخذ بالتقدم الأوروبي وصولاً إلى إقرار الدستور مع مدحت باشا في استامبول وشريف باشا في مصر. وقد عبر عن ضرورة التحديث خير الدين بعبارة:” ان التمدن الأوروباوي تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء الاّ استأصلته قوة تياره المتتابع، فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار الا اذا أخذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدينيوية فيمكن نجاتهم من الغرق”. لم يكن الطهطاوي يرى ولا خير الدين بأن الاسلام يعارض التحديث والتجديد، وخير الدين المالكي يرجع إلى أئمة المذهب ليقول بأن ما يبرر الأخذ بالمدينة الأوروبية هو مصلحة المسلمين.
تغيرت الأولويات مع الاصلاحيين، فقد رأى الأفغاني خطر أوروبا، فدعا إلى حشد المسلمين لمواجهة بريطانيا التي تريد فناء هذا الدين. وهذا ما تعبر عنه مقالات ” العروة الوثقى” ( باريس 1884)، التي كان يحررها الامام محمد عبده.
كان محمد عبده (1905-1850) قد تتلمذ على يد الأفغاني خلال إقامة الاخير في مصر، ونُفي بعد ثورة عرابي، فأقام في لبنان ودرّس في المقاصد حيث أملى كتابه “رسالة التوحيد”، ثم التحق بأستاذه الأفغاني في باريس حيث أصدرا ” العروة الوثقى”(1884) لشهور عدّة، فكان تأثيرها مدويًا بين المسلمين. إلاّ أن محمد عبده تحرر من تأثير أستاذه الأفغاني، وخصوصًا لجهة استخدام المسلمين والاسلام في مشروع سياسي. فعاد إلى التدريس والعمل على اصلاح الأزهر والدعوة إلى تحديد التفكير في الاسلام.
لا شك في أن محمد عبده هو رائد الاصلاحية الاسلامية الحديثة. وكان تأثيره المباشر أو غير المباشر كبيرًا جدًا في تلامذته وأبناء جيله وتلامذته والجيل اللاحق لوفاته. كان له تأثير على بعض الأزهريين أمثال الشيخ المراغي الذي أصبح شيخًا لجامع الأزهر. إلا أن الذين تأثروا به من غير الأزهريين كانوا كثرًا مثل قاسم أمين وسعد زغلول. كان قاسم أمين أول من دعا إلى تحرير المرأة، وكان سعد زغلول زعيم الوفد وزعيم مصر في ثورة 1919 التي افتتحت العصر الليبيرالي الذي شهدته مصر حتى انقلاب الضباط عام 1952.
كان محمد عبده أقرب إلى النهضويين، نشأ في عصر الطهطاوي وعلي مبارك وتحديثات الخديوي اسماعيل. وشهد نمو صحافة تستفيد من أجواء الحرية النسبية وتنشر أخبار العالم وآداب العرب. وهو مثل النهضويين رأى أن التربية وإصلاح التعليم السبيل إلى اصلاح المسلمين. وكان أثر محمد عبده في دعوته إلى رفض أي سلطة على المسلم في دينه أو حياته، وفي ارجاع مسائل الايمان إلى العقل.
وبهذا المعنى كان محمد عبده ليبراليًا في فهمه للدين، لم يتأثر بلوثر الذي دعا إلى العودة إلى النص المقدس في حرفيته وأصوليته. لقد دعا إلى فهم دعوة القرآن في تحرير الانسان من كل سلطة دينية أو غير دينية.
نشأت الاصلاحية الاسلامية في العصر الليبرالي كما يسميه ألبرت حوراني. وفيه ساهم اصلاحيون في الرجوع إلى تراث الاسلام الأدبي والحضاري، وأبرزوا عطاء الاسلام في تقدم الانسانية العلمي والفكري، وأسهموا في النهوض باللغة العربية عبر المجامع اللغوية. ولم يناهضوا اقامة المؤسسات الدستورية، ولم يعملوا على تسييس الدين، ولكنهم أسهموا في النضال الوطني ضد الاستعمار.
شهدنا خلال النصف الأول من القرن العشرين اسلامًا متحررًا، لم يقف أمام انخراط المرأة في الحياة العامة والتحصيل العلمي وخلع الحجاب، كما لم يقف أمام محاولات إقامة السياسة على مبادىء الديمقراطية وفصل السلطات.
كان تأثير المؤسسات الدينية يتراجع، ليس في عالم الاسلام ولكن في العالم أجمع. حاول الأزهر ان يلعب دور الرقابة في مناسبات عديدة خلال النصف الأول من القرن العشرين: طرد منصور فهمي من الجامعة (1886-1959) بسبب أطروحته عن “المرأة في الاسلام”، وحاكم علي عبد الرازق(1966-1888) على كتابه ” الاسلام وأصول الحكم 1925″ وطه حسين (1973-1889) على كتابه ” في الشعر الجاهلي”. بل أن الأزهر أخضع عبد المتعال الصعيدي نفسه للمحاكمة في موضوع الحدود 1937. لكن المؤسسة الدينية المحافظة لم تستطع أن تقف في وجه تبلور اسلام متحرر يجاري العصر ولا يقف عقبة أمام المسلمين.
لم يؤثر ظهور جماعة الاخوان المسلمين عام 1929 على بروز اسلام عصري يواكب الحداثة في الأفكار والمؤسسات والسياسة. كان الأخوان المسلمون يريدون أن يجعلوا من السلف مرشدًا للحياة والثقافة والسياسة. وفي زمن نشوء التنظيمات والايديولوجيات القومية والشيوعية، جعلوا من تنظيمهم التعبير عن ايديولوجية اسلامية تستمد طقوسها من التنظيمات الفاشية. ثم اندفع الاخوان في الأعمال الارهابية عام 1948، واغتيل مؤسس الجماعة عام 1949.
لقد بدأت بالانحسار الأفكار الليبرالية التي كانت التيار الواسع الذي نشأ فيه اسلام معتدل. وذلك بسبب بروز التيارات الايديولوجية من قومية وشيوعية واسلامية، والتي ترافقت مع صعود الخطابات الراديكالية. ولا شك في أن الانقلابات العسكرية في الخمسينات والستينات، وخصوصًا في مصر وسوريا والعراق، قد أوقفت المسار الديمقراطي، وألغت التعددية الحزبية، وحريات الصحافة والفكر. ادعت أنظمة الناصرية والبعثية تبنيّها العلمانية، إلا أنها كانت تريد استخدام الدين لأغراضها. وهي اصطدمت بالتيار الأخواني. وبسبب تنامي الاسلام السياسي في وجه الأنظمة الآحادية، انحسرت الاصلاحية المعتدلة. وهكذا انتهى زمن الاصلاحية الاسلامية التي نهضت مع بروز العصر الليبرالي وتلاشت مع زواله.
عقلنة الاسلام
في زمن نهوض الاصلاح الاسلامي برزت أسماء مفكرين وعلماء تأثروا بالعقلانية الأوروبية. كان أول هؤلاء طه حسين(1973-1889) الذي أراد، بعد إقامته في فرنسا للدراسة أن يطبق المنهج الديكارتي على التراث العربي (في الشعر الجاهلي) وتمت محاكمته كما هو معلوم. ثم محمد اقبال(1938-1877) الشاعر والمفكر الهندي الذي رأى في كتابه” تجديد الفكر في الاسلام” ، أن التأثير اليوناني قد حجب دعوة القرآن التجريبية. كما رأى بأن اصلاحات مصطفى كمال في تركيا هي نوع من الاجتهاد. وبالرغم من شهرته كشاعر ومتصوّف، إلا أن تأثيره في إقامة وطن لمسلمي الهند كانت أقوى من دعوته التجديدية. وعبدالله دراز الأزهري(1958-1894) الذي أمضى عشر سنوات في فرنسا، وحصل على دكتوراه عن دراسته: “دستور الأخلاق في الاسلام”، فقد تأثر فيه بالفيلسوف الألماني كانط. وهناك عشرات الأسماء لباحثين أكاديميين، محمد أركون(2010-19-28) الذي دعا إلى تطبيق المناهج الانتروبولوجية ونصر حامد أو زيد(2010-1943) الذي دعا إلى قراءة تاريخية للنص الديني.
تقوم جهود الأكاديميين على قراءة النص الديني وفق مناهج الاجتماعيات والانتروبولوجيا واللسانيات، وتغرق في التفسيرات اللغوية ( مثال صارخ للقراءة اللغوية نجدها لدى المهندس محمد شحرور).
وبالرغم من شهرة هذه الأسماء في الأوساط الكاديمية، وذيوع أعمالها بين القرّاء، إلا أن تأثير هذه القراءات بقي في الاطار الأكاديمي. بما في ذلك أعمال جورج طرابيشي وعزيز العظمة التي تتناسب عكسًا مع اتساع التطرف الديني وانتشار اسلام سلفي .
ما يمكن استنتاجه هو التالي: ان الدراسات التي تهدف إلى عقلنة الاسلام، أي ذات الطابع الاكاديمي المتخصص، لم يكن لها تأثير أو أن تأثيرها شبه معدوم. وذلك بالمقارنة مع أعمال الاصلاحيين التي كانت أفكارهم تصل إلى عامة الناس. فأعمال الأكاديميين أقرب إلى التمارين أو التطبيقات الدراسية. وفي النهاية لا يمكن عقلنة أو تحديث نص إلهي. أن الأزمة التي تعصف بعالم الاسلام اليوم لا ترجع إلى نقص في تفسير النصوص، وإنما ترجع إلى الافتقار إلى مناخ الحرية. هذا المناخ الذي سمح منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى خمسينات القرن العشرين بأن يتقدم المسلمون في تحديث مجتمعاتهم، من دون أن يقف النص الديني أمام تبلور الفردية وتحرر المرأة من الحجاب ودخولها سوق العمل. وهذه أمور تراجعت مع اتساع تأثير الحركات الأصولية وحركات الاسلام السياسي.
من هنا، فإن المطلوب هو استعادة تجربة النهضويين الاصلاحيين طوال قرن من الزمن امتد من ستينات القرن التاسع عشر حتى ستينات القرن العشرين. كانت وجهة نظر هؤلاء أن لا سبيل إلى تحرير الانسان إلا بأخذ أسباب الحداثة. ولم ير الطهطاوي أو خير الدين أن الدين يقف في وجه التقدم. وأضفى محمد عبده فهمًا جديدًا لدعوة القرآن تقوم على حرية الانسان وعدم خضوعه لأي سلطة.
لقد انتهى زمن الاصلاحية الاسلامية، ولا يمكن استعادته بالارادة، ولم تعد لأفكار التنوير قوة الاندفاعة التي كانت لها حتى منتصف القرن العشرين. لقد جرى نقد التنوير، وتراجع الأفكار الكبرى، ولا بد لنا إزاء الأزمة الفكرية والاجتماعية التي يعيشها المسلمون والعرب خاصة، من إعادة صياغة الأولويات انطلاقًا من القضايا التالية:
الفرد: لا بد من إعادة الاعتبار لمفهوم الفرد. لقد عملت الايديولوجيات الجماعية: الشيوعية، القومية، الاسلاموية، على تغييب الفرد واعتباره خاضعًا للجماعة وفكرها. إن اتساع موجة التكفير من جانب الاسلاميين تحمل في طياتها إلغاء لحرية الفرد في معتقده وحقوقه. لقد قامت الحداثة على أساس أن الفرد كائن مستقل في حقوقه وواجباته، بل أن أساس الحداثة عند ديكارت هو القول إن بإن العقل البشري أعدل الأشياء قسمة بين البشر. هذا المبدأ حرر الانسان من الاجماعات بما في ذلك الاجماعات القبلية والعشائرية والدينية والايديولوجية. كذلك فإن الفردية هي أساس المواطنة في المفهوم الديمقراطي.
المرأة: لقد كسبت المرأة العربية جزءًا من حرياتها وخصوصًا في المدن والمناطق التي أصابها التمدن. إلا أن المرأة مع انحسار المرحلة الليبرالية تخضع اليوم لإملاءات الجماعات الدينية التي حصرت الاخلاق الاسلامية في جسد المرأة، من هنا موجات التحجب والدعوات إلى عودة المرأة إلى المنزل.
إن حرية المرأة ومساواتها في المواطنة هي شرط الحداثة.
الآخر:إن تصاعد حركات التطرف جعلت المسلم معاديًا لكل آخر بوذي أو هندوس أو مسيحي أو يهودي. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر أصبح الغرب مصدرًا لكل الشرور والمؤمرات. وحل العداء مكان التفاهم. إن نقد نظرية المؤامرة وتجاوز العداء للآخر هما الاساس لإقامة علاقات موضوعية تقوم على إدراك المصالح وليس على أساس المواقف الايديولوجية المسبقة.
الدولة- السياسة: لا بد من نقد جذري لفكرة الدولة الدينية. وقبل ذلك لا بد من تحرير الدين من السياسة. لقد بدأ تسييس الدين مع اطلاق السلطان عبد الحميد فكرة الجامعة الاسلامية. كذلك فإن مقالات” العروة الوثقى” كانت أسست، ليس لتسييس الدين فقط، ولكن أيضًا للعداء الغرب. تحرير الدين من السياسة وإقامة السياسة على مبادىء العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. وليس على أساس الانتماء الديني والطائفي والمذهبي.
ضفة ثالثة