عن الثورة المستمرة/ عزيز تبسي
ما من ثورة تستمر إلى أبد الآبدين، بقوة دفعها الذاتي. إما أن تدرك في زمن معلوم أهدافها التامة، أو، الناقصة عبر تسوية مع السلطة السياسية التي ناضلت ضدها، وإما أن تفشل وتعود القهقرى ليجري التنكيل بأهلها، وإجتثاث آثارها. وما من ثورة تستمر، بغياب قوة ثورية أو بتغييبها عن مركز القيادة فيها، وتعجز عن إنتاج ذاتها وحمايته في سيرورة الصراع السياسي، لتساعدها على تبصر وتحديد أهدافها وخطط عملها، والقدرة على تصويب المسار الثوري الواقعي، وتمكينها من عزل المتخاذلين والخونة. تقتضي الضرورة ،وحتى إكمال السرد في وصف الحركة الثورية وممكناتها، السؤال عن قوى الثورة، التي إنبثقت من التنسيقيات المناضلة ومن غبطة العفوية وهديرها لا من سواهما، وكيف عبّرت عن وزنها الحقيقي، وأداؤها خلال ما يقارب عن ثلاث سنوات، وعلى أي من العناصر تأسس خطابها، وكيف صاغت تحالفاتها، والخطط التي إجترحتها لتحقيق أهدافها، أو رهاناتها. وهل تمكنت من تأسيس أدواتها التنظيمية المستقلة، أم أسلمت أمرها للمعارضة التقليدية في تعبيراتها الرجعية المختلفة، لتقودها وتحتكر الكلام بإسمها، إلى حيث شاء ممولّوها، والقابضون على مصيرها، بعد أن فر معظمهم من الأشهر الأولى إلى الخارج، مبقين الثوار في أتون المحارق والخطف والقتل والسجون والتحجب. معارضة، ساهمت برهاناتها المتجددة على تدخل عسكري-أطلسي، وعملت على إخلاء ساحة الصراع السياسي، وتغرير مجموعات كبيرة من المناضلين الميدانيين، ودفعهم نحو المنظمات التي تدعمها وتمولها الإستخبارات الأمريكية والبريطانية….وسواهما، التي تتحجب بتعاويذ المجتمع المدني وحقوق الإنسان والدفاع عن الأقليات…الخ من تلك السردية السطحية التي لم تكف عن إنتاجها المراكز الأيديولوجية الإمبريالية ،المتممة وظيفياً لمهام وزارة الدفاع والإستخبارات، القوتين الأكثر وضوحاً وجهرية في التعبير عن مصالحها، في أشكالها الأكثر حربية وعدوانية وعنصرية. بات من العبث الإسترسال خلف عبارات الكفاح السلمي، وإظهار الرغبة الإرادوية في إسترداده، بعد وصول الإنتفاضة الشعبية إلى ما بعد العسكرة التامة، أي، نحو هيمنة الخطاب الإسلامي التكفيري على فعلها، والإختراقات التي وصلت إلى أعماقها من جهات إستخباراتية متعددة، عبر آليات التمويل والتسليح وتحديد الأهداف والمهام المرحلية والبعيدة، وتبلور المعطى غير العسكري في سلطات متممة، كالمحاكم الشرعية ومجالس المدن التي تهيمن عليها وتقرر سياساتها الجماعات الإسلامية المتطرفة. وهل القوى التي خاضت الكفاح السلمي، ودفعت نحو العسكرة الجزئية الوقائية، كمخرج إجرائي لحماية نفسها ومناضليها من القتل والخطف والتنكيل….،هي عينها التي دفعت نحو توسع الخيار العسكري ،الذي تفلّت رويداً رويداً من قبضتها وقناعاتها، وباتت أسيرته، وضحية من ضحاياه. وماذا عن الرهان الحربي ،الذي عملت الطغمة العسكرية وبعض من المعارضة الخسيسة على إيقاع الإنتفاضة الشعبية به من الأسابيع الأولى ، بعد تيقنها من تفاوت القوة النارية بينها وبين القوات الحربية للسلطة، والغياب الكلي لسلاح الطيران عن إمكاناتها، وعجزها عن تحييده بقواها الخاصة، أو، الدفع نحو قرار دولي للحظر الجوي، تفرضه قوة عسكرية خارجية، هي على الأرجح تحالف إمبرياليات حلف شمال الأطلسي. إستمرار “الثورة” بهذه القيادات السياسية والجماعات المقاتلة ورهاناتهما، لم يعد سوى شكلاً من التدمير المنهجي للمجتمع وإستنزاف قواه، ورميه في حالة إستثنائية باتت الثورة وأهدافها ومستقبلها خارجها منذ زمن، سواء بالأهداف أو بالنتائج المتوقعة…لكون العسكرة عملاً “نخبوياً-إنعزالياً” ساهم موضوعياً بتهميش دور الكتلة الشعبية المنتفضة وكفاحها، ليأتي مع الزمن على إقصائها وتدميرها بشكل كلي. من الممكن أن تتجدد الثورة بعد حين من الزمن، لكن ليس بالبساطة المأمولة(إستغرق تجدد الثورة الإسبانية1936التي حطمها تحالف الفاشية والملكية والكنيسة حتى عام 1975لتعاود الحركة الديموقراطية إنطلاقتها بمناظير مختلفة تميل بعمومها إلى التسوية والمهادنة، وإستغرقت الإنتفاضة الشعبية الفلسطينية 1987حتى 1991لتعاود تجددها وبأدوات مختلفة سياسياً وأيديولوجياً، والثورتين الألمانية 1919، والثورة الشعبية اللبنانية1975لم تتجددا حتى الآن ……..)،……أن تتجدد، فقط لأن الأسباب العميقة لإنطلاقتها، لمّا تزل ثابتة في مكانها، دون أي مقاربة لإجتراح حلول من جهة الطغمة العسكرية، تأخذ بها لضفة الإصلاحات، بمدخل حتمي يبدأ من الركن السياسي-الحقوقي، الذي تقهقر في السنوات الثلاثة الأخيرة، إلى حضيض أشد كارثية، تجاوز المعنى المفترض معالجته من تلك الحزمة التي تبدأ بإلغاء الأحكام العرفية والمحاكم الميدانية والإستثنائية، وإطلاق سراح المعتقلين، وإطلاق حرية الصحافة والعمل النقابي ……الخ للعمل على تأسيس تجربة ديموقراطية وحمايتها، بعد وصول فعل الطغمة العسكرية إلى التهجير القسري والإبادة الجماعية، وتبني الكتائب المقاتلة لعقائد الإمارات الإسلامية، المؤسسة بصلابة على “الحقوق التاريخية” التي يمنحها الإستبداد الآسيوي: السجود أمام أقدام أولي الأمر. وتجاوزت كذلك الخيارات التنموية التي كان يجري الدفع الثوري نحو تبنيها، بعد الإجهاز على البنية الصناعية والزراعية والخدمية…ووصولهما إلى حدود التدمير والعطالة، وهجرات كبيرة لأصحاب الرساميل والخبرات الصناعية، والكفاءات العلمية والتقنية…..الخ لن تتجدد الثورة جزئياً أو كلياً، إلا بالمراجعة القاعدية، لخطط وبرامج الحركة الثورية والمقاربات التي تمخضت عنها، ولن يتحقق أي من الآثار الإيجابية لهذه المراجعة الحاسمة، إلا بعزل المعارضة التقليدية، ومحاسبتها والتشهير بها، كمقدمة لتصفية آثارها الرجعية في الوعي الثوري. أما الإحتجاجات التي إنطلقت في فجر الثامن عشر من آذار وتوسعت وتعمقت لتصير إنتفاضة شعبية ثورية، فقد جرى تطويقها وإستنزافها وعزلها، كمقدمة للإجهاز على ما تبقى منها حياً، مترافقاً مع التحولات العميقة التي حصلت داخلها بعد العسكرة التامة، التي إنعكست جهراً في تفضيلات عقائدية وسياسية….. رغم ذلك، من الإستحالة العودة إلى ما قبل هذا التاريخ، ومن الإستحالة إنجاز مهام ثورية بعد التحولات التي غيرت مساره، ليغدو شكلاً دموياً للصراع على السلطة السياسية، يُغيّب عنه فعل الكتلة الشعبية المنتفضة، التي لا تكف عن الحضور في مأساته المستمرة.
عزيز تبسي حلب كانون الثاني 2014