عن «الحزب» النووي… والبعثي/ حازم الامين
في دفاعه عن نفسه أمام قاضي التحقيق اللبناني، قال المُتهم المُفرج عنه ميشال سماحة أن المتفجرات التي كانت في حوزته كانت مُعدة لتفخيخ الحدود اللبنانية – السورية منعاً لعبور الإرهابيين من لبنان وإليه!
علينا أن لا نُستدرج إلى الضحك، ذاك أن 25 عبوة ناسفة كانت ستحمي حدوداً يبلغ طولها نحو مئتي كيلومتر! ثم إن «حزب الله» كان سبق ميشال سماحة إلى القول أنه ذاهب للقتال في سورية ليستبق وصول الإرهابيين إلى لبنان. وهو قول لم تقطعه حقيقة استدراج قتال الحزب في سورية، عشرات التفجيرات في لبنان.
نعم، ما أشهره سماحة في وجه قاضي التحقيق ليس قرينة ركيكة من ذلك النوع الذي يُشهره متهمون مُدانون ومقبوض عليهم بالجرم المشهود. ما أشهره هو جوهر أيديولوجي يعتقد بأن الرواية مُحكمة البناء ولا يمكن دحضها! أليس الهدف النهائي حماية نظام «البعث» في سورية؟ إذاً، كل ما يقال ليعزز هذه المهمة صحيح. غازي كنعان انتحر، ورستم غزالي مرض ومات، و «حزب الله» يقاتل في سورية ليحمي لبنان، وميشال سماحة نقل عبوات ناسفة في سيارته ليحمي بها الحدود اللبنانية. هذا هو تماماً معنى أن تكون بعثياً. أن تُصدق ما قاله سماحة لقاضي التحقيق، وربما أن لا تصدق ولكنْ أن تؤمن بما لا تُصدقه، أو أن لا تؤمن به، ولكن أن تقول أنك مؤمن به. أي أن تملك وعياً نافياً المنطق والواقع من دون أن يكون خيالاً جامحاً، هو وعي الخاضع وغير المؤمن.
هذا الوعي هو تماماً ما جعل المُصفّقين لكشف الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله قدرات الحزب النووية، يصفقون له من دون أن يُخضعوا كلامه لميزان الممكن وغير الممكن. «حزب الله» يمكنه أن يُحدِث تفجيراً شبه نووي في حيفا… فلنصفق ولنعلن الخبر محذوفاً منه تعبير «شبه» ليصبح «حزب الله النووي»!
ليس جنون عظمة ما أصاب هؤلاء، إنما هذيان الأشقياء. ولا شك في أن نصر الله حين أشهر سيفه «النووي» لم يكن يُلوح به في وجه إسرائيل، إنما أراد مخاطبة الجموح الشعوري للمأخوذين بهذا الكلام، وهذا ما عنيناه بالوعي البعثي حين يتولى إزاحة العقل وإحلال الخرافة مكانه. فميشال سماحة ليس كاذباً، إنما تُبيح الأيديولوجيا (وهي هنا حماية النظام) رواية ركيكة يجب أن تُصدق.
وإذا كان لرواية سماحة، بعد أن ننزع عنها قشرتها «الأيديولوجية الرثة»، بعد كوميدي، فإن قصة «حزب الله» النووي لا تخلو أيضاً من مفارقات تساعد في ترشيق الخيال. فالحزب النووي جزء من بلد عاجز عن معالجة نفاياته وعن انتخاب رئيس! البلد قادر على إنتاج حزب نووي وعاجز عن القيام بالمهمات البديهية التي تتولاها الدول حيال مجتمعاتها وجماعاتها! ثم إن الحزب النووي أعلن أنه نووي، وهو ما لم تفعله القوى التي تُصبح عادة نووية. كشف أهدافه للعدو. مصانع الأمونيوم قرب مدينة حيفا، ما دفع رئيس بلدية حيفا إلى شكره على كشف أهدافه. وحدد عدد القتلى، وهناك تفصيل صغير لم ينتبه إليه، وهو ربما يُعالجه في الخطاب اللاحق، وهو أن بين القتلى الثمانمئة ألف المحتملين، حوالى 35 ألف عربي، والأرجح أن هؤلاء سيكونون من الفرقة الناجية.
وفي سياق ترشيق الخيال، ما الذي يمنع واحدنا من دعوة الحزب النووي إلى حصار السراي الحكومية في لحظة انعقاد إحدى جلسات مجلس الوزراء، وأن يفرض حلاً لقضية النفايات؟ القاضي الذي أفرج عن ميشال سماحة سيجد في فعلة الحزب مخرجاً منطقياً، والصحيفة التي رأت في عبارة نصر الله، «انفجاراً شبه نووي»، كشفاً عن قدرات الحزب النووية، ستجد في خطوة من نوع محاصرة الحزب مجلس النواب لمنع انتخاب رئيس، خطوة لحماية السلم الأهلي.
هذا هو معنى أن تكون جزءاً من مجتمع بعثي. فالبعث هنا ليس أفكاره، على رثاثتها طبعاً، إنما تلك التجربة التي حكم فيها آل الأسد سورية مدة نصف قرن تقريباً. أي أن لا تنكر المدينة والجماعة على الدولة أفعالها الهذيانية، لا بل أن ينتظم المجتمع في هذه الأفعال وأن يجعلها جزءاً من المقبول، وغير باعثة على الذهول.
لقد سبق إعلان سماحة أن متفجراته تهدف إلى حماية الحدود واقعة ممهدة لقبولنا إعلانه هذا، هي واقعة الإقراج عنه. ذاك أن الإفراج انطوى على تكذيب ما رأيناه في الفيديو وما سمعناه يقوله لعميله حينذاك. الكذبة أقوى مما عاينته أعيننا، وليس مهماً أن نُصدقها، بل المهم أن نقبلها ونُمارسها. البعث بهذا المعنى يتعدى الرطانة العفلقية إلى وظائف إفسادية نفسية. وهو أيضاً يتعدى الدولة التي أنشأها ليصبح نموذجاً في العلاقة بين السلطة ومحكوميها وبين السلطة وعبيدها. إنها العلاقة بين الصحيفة وخطاب نصر الله النووي، وبين سماحة والقاضي الذي أفرج عنه.
اليوم لدينا في لبنان نموذج خضوع جديد للسلطة. إنه الفراغ في رئاسة الجمهورية. مرشحان قريبان من «حزب الله»، والأخير «لا يريد الفراغ» لكنه لا يريد أن يتوجه إلى مجلس النواب لينتخب أحد حليفيه! علينا أن نُصدق أن «حزب الله» لا يريد الفراغ، وعلينا أن نُصدق أن ميشال سماحة أراد حماية الحدود، وأن نصدق أن الحزب صار حزباً نووياً، كما صدقنا أن غازي كنعان انتحر ورستم غزالي أتاه مرض نادر وغريب.
هذا هو الطريق الصحيح لأن يكتمل البعث فينا.
الحياة