عن الذي «ينتصر» على الشعب
زين الشامي
من الطبيعي أن يكون هناك اختلافات في الرأي والمواقف السياسية بين أفراد المجتمع الواحد من دون أن يفسد هذا الاختلاف للود قضية، ومن الطبيعي أن تكون هناك أحزاب سياسية متخاصمة، وممثلون عنهم في البرلمان يتصارعون ويختلفون وينقسمون ويصرخون وأحياناً يتضاربون، هذا طبيعي جداً في الحياة السياسية العادية والطبيعية طالما أنه يحصل تحت سقف الديموقرطية والحياة السياسية. وقد كان يحصل شيء من ذلك في سورية في الأربعينات والخمسينات، وقد أخبرني مرة الروائي السوري الراحل عبد السلام العجيلي قبل أعوام عدة بينما كنا نحتسي فنجاناً من القهوة في فندق «الشام» في دمشق كيف أن النواب في البرلمان السوري من مختلف الأحزاب والكتل السياسية كانوا يخرجون إلى مقهى الروضة القريب من بناء المجلس في حي الصالحية ويكملون صخبهم وصراخهم بعد أن تنفض جلسة المجلس، أخبرني الراحل كيف كان يحصل ذلك بكل ود وأخوية واحترام وأخلاق.
مناسبة هذا الكلام تتعلق بغياب الأخلاق تماماً عند الذين حكموا سورية منذ عام 1963 وما زالوا يحكمونها حتى اليوم، اقصد «حزب البعث» والنظام العائلي الحالي الممتد من عام 1971 وحتى اليوم. فما يجري منذ خمسة أشهر في سورية من احتجاجات شعبية عارمة ضد نظام الاستبداد، وما تسوقه السلطة وإعلامها والأبواق المتحدثة باسمها من تبريرات وذرائع عن قمع وقتل المتظاهرين السلميين يندى له الجبين، ويشعر المستمع والمتلقي والقارئ بمستوى الدرك والانحدار الأخلاقي الذي وصلوا إليه، خصوصا حين محاولتهم نفي وجود تظاهرات سلمية، وحين نفيهم أن قوات الأمن والجيش تقتل الابرياء وتنهتك الأعراض وتنهب البيوت وتعتقل الأطفال والنساء من أجل ابتزاز المتظاهرين الملاحقين واجبارهم على تسليم أنفسهم. أما قمة الانحدار الأخلاقي والقيمي فقد تمثل أخيراً بالكذب على العالم أجمع وتصوير ما حصل من اقتحامات للجيش لغالبية المحافظات السورية ومن ثم المجازر التي ارتكبت هناك، مثل درعا وحماة ودير الزور وادلب وجسر الشغور وتلكلخ وبانياس، على أنها «حملة أمنية استهدفت العصابات المسلحة» وقد «أتت بعد طلب من الأهالي للسلطات تحثها على إدخال الجيش من أجل تخليصهم من تلك العصابات».
للأسف، فإن ما شاهده الأهالي في شهري مارس وابريل حين دخلت قوات الجيش والشبيحة إلى قرية البيضة قرب بانياس وتلكلخ في حمص، ثم بانياس لاحقاً، جعلهم يعلنون ويترجون السلطات بألا ترسل قوات الجيش، لا بل اننا شاهدنا صوراً بثتها مواقع التواصل الاجتماعي مثل «اليوتيوب» للمتظاهرين في بانياس وقد كتبوا على إحدى السيارات المحطمة بعد دخول الجيش اليها وقتل الكثير من أبنائها «هذه بانياس وليست تل أبيب»، كذلك قرأنا بالخط العريض على أحد شوارع جسر الشغور عبارة «لا نريد دخول الجيش». هذا يدل أن الشعب السوري لم يكن يرغب في دخول الجيش وأنه كان خائفاً من العمليات العسكرية التي ينفذها. لقد روى لي شهود عيان من درعا ماذا فعلت عناصر الجيش والشبيحة بحق الأهالي؟، هناك تفاصيل مؤلمة عن انتهاك الأعراض والسرقة والقتل، لم يرتكبها أي جيش في التاريخ، ربما فقط التتار والمغول حين استباحوا بغداد.
غياب الأخلاق والقيم عن الجيش السوري اليوم، ليس خصلة متجذرة، على العكس تماماً، هذا الجيش ضرب أروع الأمثلة عن الاخلاص منذ تأسيسه، وفي العشرينات ضرب وزير الحربية وقتذاك يوسف العظمة، الذي استشهد في ميسلون قرب دمشق فيما كان يحاول مع قلة من الجنود منع قوات الجنرال غورو من دخول سورية واحتلالها، أروع الأمثلة عن تضحية الجيش من أجل الشعب والوطن.
الشيء نفسه حصل في حرب 1973 حين كلف صعود جبل الشيخ ورفع العلم السوري على قمته نحو ثلاثة آلاف جندي سوري استشهدوا بسبب قصف الطائرات لهم من الجو، لكنهم رغم ذلك استمروا ولم يتراجعوا.
لكن للأسف وبعد نحو أربعين عاماً من نظام الاستبداد تبدلت وتغيرت أحوال هذا الجيش الوطني وأصبح جيشاً خاضعاً للشخص أو الديكتاتور، حتى أن ترقية الضباط ومواقعهم والمناصب والمسؤوليات التي يشغلونها باتت مرهونة بمدى ولائهم للديكتاتور.
آخر انحدار أخلاقي لهذا الجيش تمثل في إعلان بعض وسائل الإعلام السوري عن انتصاره الذي حققه في المدن السورية التي اقتحمها أخيراً، مثل حماة ودير الزور وادلب. وسائل الإعلام تلك قالت ان قوات الجيش نفذت حملة أمنية ضد العصابات المسلحة في تلك المدن وأن الأهالي شكروها، غير أن الحقيقة لم تكن كذلك أبداً، فالدبابات التي قصفت تلك المدن لم تكن الغاية من وجودها وقصفها إلقاء القبض على عصابات مسلحة هي غير موجود أصلاً، لأن العصابات أو المجموعات الإرهابية لا يتم التعامل معها من خلال الدبابات، بل من خلال التحري الدقيق وجمع المعلومات وبالتالي إلقاء القبض عليها من خلال عمليات أمنية محكمة. وهذا ما عودتنا عليه أجهزة المخابرات السورية على مدار العقود الماضية.
ما يدحض كل هذه «الانتصارات» أن تصريحات المسؤولين السوريين ومن بينهم وزير الخارجية وليد المعلم على سبيل المثال وذلك في أعقاب استقباله وفوداً من جنوب افريقيا والهند والبرازيل، أنه وعد بإصلاحات كبيرة وعملية تحول ديموقراطية كبيرة مع بداية العام المقبل. إن مثل هذه التصريحات توضح أن النظام السوري لم يكن يتعامل مع «عصابات مسلحة» بل مع متظاهرين سلميين، فالعصابات المسلحة والجماعات الإرهابية لا تتظاهر عادة من أجل الديموقراطية ولا تطالب بإسقاط النظام بل تنفذ جرائم إرهابية وتروع الناس. ثم من ناحية ثانية وإذا ما كانت مشكلة النظام هي مع «عصابات مسلحة»، لم تم عقد مؤتمر الحوار الوطني برعاية نائب وزير الخارجية فاروق الشرع؟، ولماذا أصدر الرئيس بشار الأسد مراسيم جديدة تسمح بتأسيس أحزاب وتنظيم انتخابات وتسمح بالتظاهر، ألا يعكس ذلك أن ما يواجهه النظام هو ثورة حقيقية من أجل الديموقراطية والحرية وليس «عصابات مسلحة»؟
انتصار الجيش المزعوم على الشعب السوري روجت له فقط وسائل الإعلام الحكومية وبعض المواقع الإلكترونية التي تدور في فلك الأجهزة الأمنية، وكم كان مضحكاً أن هذا الإعلام عمل على تدعيم روايته من خلال اجرائه مقابلات مع وسائل إعلام دول صديقة وحليفة مثل «قونغ شن شي» مدير مكتب وكالة أنباء الصين الجديدة شينخوا في دمشق و«حسين مرتضى» مراسل قناة العالم و«عصام الهلالي» مراسل التلفزيون الإيراني!
لقد كانت مؤلمة جداً تلك الصور التي بثها التلفزيون السوري للحافلات والدبابات التي تحمل جنوداً سوريين وهم عائدون من تلك المدن وهم يرفعون إشارة النصر كما لو أنهم كانوا عائدين منتصرين من معركة مع عدو خارجي، أو كما لو أنهم حرروا أرضاً محتلة.
هذه المشاهد المؤلمة الصارخة في عدم أخلاقيتها، ذكرتني بالاحتفالات الصاخبة التي رعتها السلطات السورية في ساحة العباسيين وشارك فيها المطرب جورج وسوف وغيره من المطربين السوريين واللبنانيين حين عبروا فيها عن «محبتهم» للرئيس بشار الأسد، ما كان مؤلماً ليس الحفل بحد ذاته بل توقيته حيث أقيم في اليوم الثاني لمقتل نحو خمسة عشر شاباً على أيدي قوات الأمن والشبيحة في حي القابون في دمشق، يومها كان جزء كبير من السوريين يدفنون أبناءهم، فيما التلفزيون السوري ينقل الحفل على الهواء مباشرة، حفل التعبير عن الولاء!
ليس غريباً كل ذلك، فبعد مقتل المئات من السوريين في درعا، خرج علينا رئيس الجمهورية في خطبته الأولى في مجلس الشعب ضاحكاً وكأن شيئاً لم يحصل.
جزء كبير من شعبنا يثور لأن الصف الآخر يسجد من ثقل قلة الأخلاق وانعدام الضمير…
كاتب سوري
الراي