عن الطابع العفوي للثورة السورية
أكرم البني *
ثمة انطباع لدى الكثيرين بأن الثورة السورية لا تزال في وجهها الرئيس عفوية، ولم ترق حتى الآن إلى حالة منظمة لها عقل مدبر يقودها وخطة مسّبقة تسيرها، ودليلهم تشتت مواقفها وصعوبة معرفة صاحب القرار أو قراءة الخطوات القادمة وما قد يليها، ثم الانتشار الواسع لقيادات ميدانية مختلفة المنابت والرؤى لا تخضع لجهة واحدة وإن كان يجمعها هدف مشترك هو توظيف الاحتقانات والرفض الشعبي لتعزيز خيار التمرد والاستمرار في الثورة. انطباع هؤلاء ربما يعود في أحد أسبابه إلى المسارات العشوائية التي وسمت تطور الحراك الشعبي في بدايته، وإلى طابع الكتلة الرئيسة التي بادرت واجتهدت لتوفير شروط الاستمرار والمكونة من شباب متمرد ليس عنده ما يخسره مع انسداد الأفق أمامه وتعاظم شعوره بالظلم وغياب العدالة، استعان بما فرزته تجربة تونس ومصر من خبرات لرسم طريقه الخاص في رفض الواقع القائم والدفاع عن مصالحه، وبخاصة استثمار فضاء المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت، لخلق مساحة من التفاعل وروابط شبه تنظيمية ظهرت على السطح تدريجاً ولعبت دوراً مهماً ولا تزال في وضع الشعارات وتوجيه التظاهرات.
ولعل ما زاد البعد العفوي وضوحاً التغيرات التي حصلت في تكوين هذه الروابط، حيث طاول القتل والاعتقال والتهجير عدداً غير قليل من كوادر تمتلك خبرة ورؤية سياسية، وتقدمت الصفوف عناصر أقل عمراً وتجربة، وأكثر حماسة وخضوعاً للمزاجية وردود الأفعال. وأيضاً يصح إرجاع هذا الانطباع إلى غياب قيادة سياسية واضحة الأهداف وتحظى بثقة الناس، ويبدو كما تفاجأت السلطة بالحراك الثوري وقدرته على التوسع والاستمرار تفاجأت به المعارضة أيضاً، وصار موضع سخرية واستهجان من يتجرأ من أطرافها على التبجح والادعاء بأنه قادر على التأثير بهذه التحركات وتوجيهها!.
هو أمر غير مألوف في التاريخ السوري، الذي يعرف بأنه تاريخ أحزاب سياسية، تلك المسافة التي رسمها حراك الناس مع قوى المعارضة، وكيف بدت هذه الأخيرة كما لو أنها تركض لاهثة لتلحق بنبض الشارع، وإذا كان أمراً مفهوماً أن تتدارك المعارضة هذه النقيصة وتسارع لاستحضار دور سياسي نشط يتفاعل مع مطالب الناس وهمومهم، وهو ما حصل بأشكال متنوعة في تونس ومصر واليمن وغيرها، فإن ما ليس مفهوماً أن تستمر هذه المفارقة في الحالة السورية وبعد أكثر من عام ونصف على بدء الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية وفداحة ما قدم من دماء وتضحيات، زاد الطين بلة شعور الناس بعد أن منحوا ثقتهم لأهم أطرافها، بأن المعارضة على كثرتها وتنوعها لم تقدم لهم شيئاً إلى الآن وتبدو كمن تدور في حلقة مفرغة، أمام حاجة ملحة لسد فراغ سياسي حيوي ومد التحركات الشعبية بأسباب الدعم، ما أشاع حالة من الشك حول مواقفها ومدى جديتها في قيادة التغيير، وبأن بعضها يحاول ركوب الموجة، ليبيع ويشتري، على حساب دماء الناس وتضحياتهم!.
وربما كرست هذا الانطباع طرائق انتقال الثورة إلى العمل العسكري، والتي اتسمت بمعظم السمات العفوية التي عرفها الحراك الشعبي، ففكرة حمل السلاح بدأت تلقائية مع الانشقاقات الأولى في صفوف الجيش وكرد فعل ضد القمع والعنف وإطلاق الرصاص على المحتجين العزل، وتنامت تحت ضغط الحاجة كشكل من أشكال الدفاع الذاتي عن النفس وحماية المتظاهرين بما يتوافر من أسلحة بسيطة، والواضح أن تطور العسكرة شهد مساراً تجريبياً، حاكى تجربة الروابط الميدانية والتنسيقيات، عبر تشكيل وحدات محلية منفصلة عن بعضها، أخذت أسماء كتائب أو ألوية، ثم خلق هياكل مناطقية كالمجالس العسكرية في المحافظات والمدن، واستظلت تحت مظلة عامة هي الجيش السوري الحر، الذي بات يضم تشكيلة متنوعة المنابت والأهداف، من منشقين عسكريين ومن مدنيين متطوعين ومن سلفيين وجهاديين وحتى بعض الخارجين عن القانون، لا تحكم هؤلاء قواعد أخلاقية واحدة أو مرجعية واحدة أو خطة عمل مشتركة، بل هم أقرب إلى جماعات وكتائب شبه منظمة تقود المقاومة العسكرية على نمط حرب الشوارع، ما يفسر تواجد عدة فصائل متمايزة في منطقة واحدة تحت اسم الجيش الحر، وغالباً من دون تنسيق جدي بينها أو هو في أضعف حالاته، وأيضاً ظهور أسماء لمجالس عسكرية تتنافس على قيادة هذه الظاهرة.
والأهم أن الكتائب التي تتكاثر اليوم لا ترتبط بحركة سياسية إذ ليس هناك رؤية مسبقة لدى المعارضة بأن المعركة ستخاض عسكرياً مع النظام، بل كانت البرامج والخطط المرسومة تركز على السلمية والتدرجية في إحداث التغيير الديموقراطي، والمعنى أن ليس ثمة طرف معارض فكر مسبقاً ببناء ما يمكن اعتباره الجناح أو الذراع العسكرية كما هي العادة في الحركات التي جمعت بين النضالين السياسي والعسكري، زاد الأمر تعقيداً تبوؤ السلاح والمكون العسكري الدور المقرر والحاسم في أهم المحطات الساخنة.
للعفوية سلبيات تزداد طرداً مع طول فترة المخاض، ويبدو للآسف أن الائتلافات المعارضة لم تتمكن، إلى الآن، من خلق التمفصل الصائب مع المكونين المدني والعسكري لضمان أفضل أداء وأقل الأخطاء والخسائر، ولنقل أخفقت في تنسيق نشاطاتها وتجاوز تشتتها لقيادة نضال منسق كفيل بتبديل المشهد والتوازنات القائمة.
صحيح أن الثورة السورية خرقت كل الحسابات والتوقعات، واستمرت على رغم شدة الفتك والتنكيل، من دون قوى سياسية عريقة تقودها أو شخصيات تاريخية تتصدر صفوفها، وصحيح أن ثمة مبادرات لتنظيم الصفوف وتوحيد الرؤى والمواقف تتوالد ولا بد أن يكتب لها النجاح تحت ضغط الحاجة وحجم التضحيات، لكن ربما صحيح أيضاً تندر البعض، بأنه من حسن حظ الثورة السورية أنها نشأت عفوية واستمرت من دون رأس واضح يديرها أو مخطط يحكمها، وإلا لكان النظام بآلته التدميرية الهائلة قد قطع رأسها ودمر مخططاتها منذ زمن بعيد.
* كاتب سوري
الحياة