عن الطوائف والطائفية: جدالٌ في سياقِ سوريّ/ ثائر ديب
مُضحكٌ ومؤسٍ في آنٍ معاً منظر بعض الكتبة العلمانيين السوريين في موضوع الطائفية، وهم يعرجون بين منطقٍ طائفي في النظر إلى هذا الأمر، ومحاولاتٍ فاشلة للفرار منه أو تمويهه. ويزيد المفارقة في هذا المجال أنَّ معظم هؤلاء من ذوي الماضي «اليساري» والحاضر «الليبرالي» الذين تتوقّع أن يكونوا قد قطعوا مع كلّ منطق طائفي. غير أنّ الأمر ليس كذلك في الحقيقة. والانزلاق إلى المنطق الطائفي متواصل بلا انقطاع، كأنَّ من طبيعة الليبرالية في عالم متخلّف أن تكون متخلّفة مثله، وطائفية.
ما يجمع هؤلاء قاطبةً في المنطق الطائفي هو اعتبارهم «الطائفة» جماعة من البشر حدودها حدود الانتماء إلى المذهب الديني المعنيّ. يقول أحدهم: «ينفتح العلويون السوريون على الاتجاهات الفكرية الحديثة ويتحمسون لها لأنها تنقذهم من أقلويتهم». ويتساءل آخر «متى نخلص من خوف السنّة من العلمانية وخوف العلويين من الديموقراطية؟». هكذا تُصَوَّر جماعة بشرية برمّتها على أنّها مندفعة صوب الفكر الحديث أو خائفة من الثورة والديموقراطية. ويُصوَّر الدافع وراء ذلك على أنّه «علويّتها»، شأنه شأن «سنيّة» تلك الجماعة التي تُصَوَّر على أنّها تخاف العلمانية، ما يجعل هذا الدافع تفسيراً لسلوك كلّ فرد من أفرادها، فإذا ما خرج بعضهم على هذا الإجماع، كانوا استثناءً بسيطاً قليل العدد يُثبت القاعدة ولا ينفيها.
والمنطق الطائفي منطق عنصري قائم على البداهة وطرح أسئلة معطوبة: «أليس العلويون خارج الثورة؟ ما نسبتهم بين المؤيدين للحراك؟!» وأقصى ما يُمكن أن يبلغه من «علم» هو الربط بين المذهب الديني وحوادث تاريخية وأوضاع مجتمعية تجعل من هذه المجموعة أو تلك مجموعةً «لها تمايز ثقافي واجتماعي معيّن»، كالعلويين الذين جمعهم، بحسب هذا المنطق، «تاريخ الاضطهاد، والسكن في الأرياف، والثقافة المشتركة الدينية والاجتماعية، ونظرة المحيط كتحديد خارجي مؤثّر، وقيام دولة لهم في السابق على مدى 13 عاماً». وبهذا يتزيّا المنطق الطائفي بزيّ العلم، مموّهاً على أساسه المعطوب الذي يبقى هو ذاته: ثمّة جماعة بأكملها، حدودها حدود المذهب الديني، تطالها هذه الحوادث وتُحْدِثُ لديها ردّة فعل جماعية واحدة، لا يخرج منها إلا ما كان استثناءً أو مصادفة عابرة. وبهذا أيضاً لا تكون حوادث التاريخ أكثر من زينة سطحية لا تغيّر شيئاً من أمر أنّ جماعةً بأسرها ستسلك سلوكاً موحّداً تجاه حوادث التاريخ هذه.
حتى حين يلتقط بعض هؤلاء الوجهة الصحيحة ويرون أنّ «عالم الطوائف يقع بعيداً عن عالم الأديان والمعتقدات»، لا يلبثوا أن ينكصوا إلى رؤية مفادها أنّ «الجماعات الدينية والمذهبية تحوز مقادير متفاوتة من الرأسمال الاجتماعي… هذه هي الطائفية». ولا يكتفي هذا المنطق بردّ الأفراد إلى طوائفهم، بل يتعدّى ذلك إلى ردّ المجتمع الديموقراطي ذاته إلى جماعاته المذهبية: «المبدأ الأساس في تجاوز السلطانيّة هو المساواة بين الجماعات الاعتقادية السورية بوصفها جماعات تأسيسية للكيان الوطني». وبذلك لا يعود الوطن الديموقراطي قائماً في مبدأه الأساس على مساواة المواطنين الأفراد، كما في كل الكيانات الوطنية الحديثة، بل على تساوي جماعات اعتقادية تأسسيسية، هي أساس المنطق الطائفي، إن تساوت زال الخطر، وإن لم تتساوَ استغلّت السياسة وباتت طوائف. وحتى حين يُقَال هنا إنّ «الطوائف ذاتها بناءات اجتماعية صنعية، تُصنَع في شروط سياسية بعينها»، فإنَّ ما يُقصَد بالطوائف هو الجماعات المذهبية ذاتها وقد تسيّست، وليس شيئاً آخر مختلفاً تماماً. مثل هذا الشيء الأخير يحتاج منطقاً يزيل غشاوة الفكر الطائفيّ وضلالاته، ويروح ينظر إلى الموضوع من موقع مختلف كلّ الاختلاف.
لو غضضنا الطرف عن أنّ الكلام على الطوائف وما فعلته أو شعرت به غالباً ما يكون كلاماً انطباعياً بعيداً عن أي مفاهيم علمية أو دراسات ميدانية، نجد أيضاً أن لا شيء من هذا القبيل يكشف ما إذا كان تأثير «العوامل المشتركة التي تخلق جماعة بشرية لها تمايز ثقافي واجتماعي معيّن»، هو ذلك التأثير الواحد على جميع أبناء المذهب العلوي، مثلاً، كباراً وصغاراً، مشايخ وعواماً، آغوات وفلاحين، أو ما إذا كان للسكن في الريف التأثيرات ذاتها على القرويين السنة والمسيحيين، أو ما إذا كان ثمة أثر لاختلاف الأرياف. أمّا «الخوف من الآخر» و»تاريخ الاضطهاد»، فقد يفضيان إلى ردود فعل مختلفة لدى الجماعة الواحدة، تتراوح من الطائفية إلى حسّ المواطنة الرفيع مروراً بطيف واسع من التدرّجات. باختصار، هذا المنطق لا يطرح على نفسه السؤال الضروري: هل تقوى الهوية المذهبية في العالم الحديث على أن تقوم عليها جماعة بشرية ذات تمايز اجتماعي وثقافي؟ هل تصمد أمام فيض الهويات الهائل وفيض التناقضات والصراعات التي لا تكاد تنتهي، وتشقّ كلّ جماعة بشرية مهما صغرت؟ دع عنك أن ما من عامل من «العوامل المشتركة» المزعومة إلا وتشترك فيه أجزاء واسعة من جميع الطوائف وتخرج عنه أجزاء واسعة من المذهب ذاته. وما دام أبناء مذهب معين يظهرون مثل هذه المروحة الواسعة والمتناقضة من ردود الفعل التي يشاركهم فيها أبناء مذاهب أخرى، فما الأهمية التي تبقى لمفهوم «الطائفة» في رصد أفعالهم وتحليلها؟
لمفهوم «الطائفة» أهمية كبيرة، نظرياً وعملياً، شرط تحديده العلمي لا العنصري. ونقطة البدء في تمييز العلم من العنصرية هي في تبيان أنَّهما لا يُشيران إلى الشيء ذاته حين يقولان «الطائفة الدرزية»، مثلاً. فهذه العبارة تشير، في المنطق الطائفي، إلى جميع المنتمين إلى المذهب الدرزي، وقد تطلب منهم في لحظة ما طلبه أحد «الثوّار» السوريين من العلويين، أن يعتذروا «عن كلّ جريمة منذ حماة وما سبقها وما تلاها حتى اليوم ارتُكبت باسم الطائفة حتى لو لم يشاركوا فيها شخصياً، اعتذار يقوم به الجميع فرداً فرداً، كبيراً وصغيراً، ولا يسقط عن الجميع بقيام البعض به». أمّا في المنطق الآخر، فتشير «الطائفة» إلى علاقة سياسية تحاول أن تنتظم شقّاً مذهبياً بأكمله لتجعل منه جماعة مُتَخَيَّلة متلاحمة بعوامل مشتركة تميّزها، لكنها لا تقوى على هذا، وكلّ ما تتمكّن من إقامته هو جماعة متخيّلة مختلفة تمام الاختلاف عن جماعة المذهب، هي جماعة الطائفيين فيه. وهي جماعة تختلف عن جماعة المنتمين إلى المذهب المعني بحكم الولادة و/أو الإيمان الديني.
الجماعة المُتَخَيَّلة هنا هي بمعنى قريب من ذاك الذي يستخدمه بندكت أندرسن في تناوله الجماعة القومية، من حيث أنّها ليست جماعة مختلقة بل واقعية، سواء في فعلها وآثارها أم في أدوات تخيّلها. والحاسم هنا هو أنّ جماعة المذهب المُتَخَيَّلة لا تتطابق قطّ مع جماعة الطائفة المُتَخَيَّلة ولا تقوم على الأساس ذاته. فالأولى جماعة بالاعتقاد الديني، أمّا الثانية فبالسياسة. وتكاد الأولى تشمل أبناء المذهب جميعاً، في حين أنّ تعداد الثانية متغيّر زيادة ونقصاناً بحسب الانضواء في ممارساتها ومنطقها، وتبعاً لما إذا كان هذا الانضواء تامّاً أم جزئياً، دائماً أم مؤقتاً، وهي أعجز من أن تشمل أبناء المذهب جميعاً.
ليس الناظم الحاسم في تشكّل الطائفة، إذاً، هو المذهب القديم بل علاقة سياسية راهنة وحديثة. وهنا يكمن الاختلاف الجوهري الذي لا يدركه الطائفيون الذين تستولي عليهم «الطائفية»، اي تلك الأيديولوجيا التي توهمك بأنّ الطوائف تنبع من المذهب، أو تنبع منه بشيء من مساعدة السياسة، بخلاف منطق يرى أنّ السياسة هي الأصل والمذهب أمر مساعد وثانوي تستغل السياسة وجوده لأنه موجود، ولو لم يكن كذلك لخلقته أو استغلت غيره. ودليل ذلك أنّ المذاهب لا تُعدّ ولا تُحصى في كلّ بلد في العالم من دون أن نجد أثراً جديّاً لأي طائفية في غالبيتها الساحقة. فـ «الطائفية»، إذاً، هي تلك الأيديولوجيا التي لا تكتفي بتعبئة الناس على أساس الطائفة، وقد تصل حدّ إقامة كيان طائفي، بل تتعدّى ذلك إلى إخفاء حقيقة «الطائفة» وإلقاء قناع القِدَم والدين عليها لتبدو متطابقة مع المذهب. ومن الواضح هنا أني لا أعتبر الأيديولوجيا مجرد أفكار بل هي طرائق وصِيَغٌ من الشعور والتقويم والإدراك والاعتقاد يربطها نوع من العلاقة ببنية السلطة ومصالحها في المجتمع الذي نعيش فيه.
ربما كان من المهم، أخيراً، أن نشير إلى أنّ الحاسم في هذا الافتراق المنهجي بين منطق طائفي يعتبر «الطائفة» جماعة حدودها حدود المذهب ومنطق علمي يراها علاقة سياسية ناظمة لجماعة مُتَخَيَّلة مرنة بتوسّل الشقّ المذهبي واستثماره، هو زاوية النظر أو الموقع الذي نحتلّه كي نتناول «الطائفة» و «الطائفية». وهو موقع مرتبط أشدّ الارتباط بالمصالح ودرجة الوعي والاستنارة ومستوى التقدم العلمي والنظري وأهليّة الباحث وفكره… ومما يتّصل بهذا، بصدد تناول الطوائف والطائفية في سوريا، أنّ ثمة دَيناً لا بدّ من الإشارة إليه بشيء من الاختزال والفجاجة. ففي التراث البسيط والواهي من الكتابة عن الطائفية في سوريا، ثمّة دَيْن لبرهان غليون وآخر لمهدي عامل يمكن القول إنّ تلك الكتابة تتوزّع على أساسهما: من كتابة ساذجة تجهلهما، إلى كتابة تستند إلى غليون وفكره الشعبوي الذي يرى الطوائف جماعات تأتي إلى السياسة ويريد بناء الدولة الحديثة على أساس من تساوي الجماعات، إلى كتابة تدين لمهدي عامل ورؤيته الجذرية أن الطوائف ليست طوائف إلا بالدولة والسياسة، وصولاً إلى كتابة تعرج بين الاثنين، لعلّها الأسوأ إذ تخلط السمّ بالدسم، وتجهل أنّ من الصعب الجمع بين هذين المنطقين.
السفير