عن الـ 99 والذاكرة السورية
نجاتي طيارة
أذاعت «سانا»، الوكالة السورية للأنباء، في بلاغها الأخير عن أحداث درعا، أن عدد المعتقلين في عملية «الحل الأمني» الجارية قد بلغ 499 معتقلاً من العناصر المتطرفة. وهكذا يريدنا هذا البلاغ الدقيق أن نصدق أن مهنية الوكالة قد بلغت شأواً عظيماً، وعبّرت بشفافية عالية عن حقيقة وقائع، تتهاوى أمامها مبالغات فاضحة قد تصل بالرقم إلى 500 أو 501 معتقل لا سمح الله.
وبذلك أثبتت هذه الوكالة (الوطنية) مجدداً أن الإعلام السوري يحترم الإنسان الفرد بحد ذاته. فهو، سواء في عموميته الإنسانية المجردة أو في تعيينه المحلي كمواطن، قيمة وكرامة، لا يجوز معها التضحية بجعله مجرد رقم واحد، و«كمالة عدد»، يضاف كيفما كان.
وبغض النظر عن احتمالات الخطأ في العد، خصوصاً في ظل ظروف عملية أمنية كبرى، لا شك أن السوريين ما زالوا يتابعونها بقلق كبير، فقد أعلن بعض من قرأوه عن استعدادهم الفوري، كي يتفضلوا بتقديم أنفسهم للاعتقال، وذلك ليساعدوا وكالة «سانا» على تحمل مسؤولية رفع رقم الـ499 ليصير 500 . وبذلك تحافظ الوكالة على موضوعيتها وصدقيتها، وفي الوقت ذاته تقدم رقماً صحيحاً سهل الحفظ والتداول.
وبغض النظر عن أرقام وتقديرات أخرى لأعداد المعتقلين في درعا، والتي نجزم أنها أكبر بكثير، وإن تعذر التأكد من مقدارها، في ظل الظروف غير الآمنة لـ(الحل الأمني)، الذي حل محل حالة الطوارئ المرفوعة في 19 الشهر الماضي، فطبق (للمفارقة) من دون مراسيم تشريعية، ولا حاجة لنقاش أو طول إعداد، ولا إعلانات رسمية محددة في ظل دولة المؤسسات التي طالما جرى الاعتداد بها خلال الفترة الماضية! لكن أساساً في ظل إعلام رسمي أصبحت سمعته في الحضيض، وشاعت هتافات جماهير المحتجين الساخرة ضده.
نقول، بغض النظر عن كل ذلك، يبدو أن للرقم 99 ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ السوري القريب، الأمر الذي جــعله أشــبه برقم طــوطمي، ويتمتع برمزية شبه أسطــورية في الذاكرة الســورية المعاصرة.
ذلك أنه رقم مستقر في الانتخابات والاستفتاءات الرئاسية السورية التي تأتي نتائجها دوماً على شكل فوز بنسبة 99 في المئة أو ما يقاربها، مثلها مثل غيرها من انتخابات زعماء الدول السيئة الصيت. وعلى رغم جميع الأحداث التي وقعت في الكثير من دول العالم، فاختتمت نهايات القرن الماضي، وافتتحت بداية القرن الجديد، مبشرة بعالم متغير، سمته الأساسية حقوق الإنسان والمواطن.
لكن بياناً سورياً شهيراً، كان قد صدر عن بعض المثقفين والناشطين السوريين في أيلول (سبتمبر) 2000، ارتبط هو الآخر برقم 99 ودل عندها على عدد موقعيه فقط. ذلك البيان طالب بمجموعة من الإصلاحات السياسية على رأسها رفع حالة الطوارئ، وإطلاق الحريات العامة، ثم تبعه بيان (الألف)، وانطلق بعدهما أو بموازاتهما، العديد من البيانات والرسائل المفتوحة إلى الرئيس متفائلة به. كان أشهرها رسالة المفكر النهضوي (أنطون مقدسي) شيخ المثقفين السوريين، وجميعها طالبت بالإصلاح والتغيير التدريجي والسلمي والآمن. لكن ربيع دمشق ذاك كما اشتهرت تسميته، أجهض وقمع أمنياً، وكذا كان مصير حركة المنتديات الحوارية التي رافقته.
وعادت سورية سيرتها السابقة. فباستمرار سمع العالم بدخول فوج من المثقفين والناشطين الديموقراطيين السجن لمجرد التعبير عن آرائهم المختلفة عن النظام، وبخروج فوج آخر، وهكذا دواليك. أما الدولة الأمنية التي لبست ثوب الممانعة القومية، فتمكنت طوال أحد عشر عاماً، من تزوير حقيقة ما يحدث في سورية.
لكن شباب سورية استيقظوا أخيراً، في ظل مناخ عربي افتتحه البوعزيزي في تونس، وتابعه ميدان التحرير في القاهرة، وبتضامن وطني لافت مع أطفال درعا وشهدائها. ومن الواضح لكل الملاحظين أنهم لن ينتظروا 99 عاما أخرى، كي يرفعوا رأسهم ويقولوا للعالم: نحن ايضا نستحق الحرية!
الحياة