عن المسألة الكردية بعد الاستفتاء –مقالات مختارة –
القرار السياسي بين الأوهام والحسابات: من كردستان إلى عربستان/ وائل مرزا
«لم يعد بإمكاني تحمّلُ هذا الأمر. لقد زرت أعداداً لا حصر لها من جنودنا في مستشفى والتر ريد العسكري [حيث يُعالج الجرحى من الجنود الأميركيين]، ومقبرة أرلنغتون [التي يُدفن فيها القتلى من الجيش الأميركي]، ولقد نظرت إلى وجوه زوجاتهم ذوات الثمانية عشر ربيعاً وعيون أطفالهم الرُّضّع. لقد دفنت عراقيين. كلُّ هذا [لأرى الآن] إيران تسيطر على المنطقة! والآن تأتي هذه الخيانة الفظيعة للأكراد، الذين ليسوا أناساً كاملين بالتأكيد، لكنهم على الأقل أحبّوا أميركا ولم يُفجّروا قط سفاراتنا. لقد انتهيت من [الاهتمام بـ ] الشرق الأوسط».
نقلَ هذه الفقرة المُعبّرة على عدة مستويات، عن ديبلوماسي أميركي كبير من دون تسميته، الإعلاميُ والخبير الأميركي مايكل ويز، كبير محرري موقع الديلي بيست، والمُشارك بتحليلاته في دورية «السياسة الخارجية» وقناة سي إن إن. نقَلَها قبل أيام، بعد اجتياح القوات العراقية مناطق النفوذ الكردي شمال العراق.
وخلال الأيام القليلة الماضية، تصدّرت وسائل الإعلام الدولية عناوين من قبيل: «الحكومة الإقليمية الكردية تمر بفوضى عارمة» في شبكة (فرانس 24)، و «ترامب يخون حليفاً للولايات المتحدة سامحاً لإيران بالحصول على اليد العليا في المنطقة» في صحيفة معاريف، و «الدبلوماسيون الأميركان يصفون تعامل حكومتهم مع الأكراد بالخيانة» في صحيفة الإندبندنت، و «انتهاء حلم الاستقلال الكردي» (في شبكة صوت أميركا).
لم تنفع الأكراد وقتَ الحاجة تحديداً، خبرةٌ سياسية امتدت عقوداً، وتضمنت التعامل مع حقول الألغام المحلية والإقليمية والعالمية، وأحداث كبرى من غزو العراق وسقوط صدام إلى الثورة السورية، ومآسٍ مؤلمة حملت معها الملايين من التضحيات والتهجير والعذابات بمختلف أشكالها.
لم يُسعف كلُّ هذا القادة (المُخضرمين) الذين يُفترض أنهم تعاملوا مع مختلف الزعماء والحكومات المؤثرة في صناعة القرار عالمياً وإقليمياً من أميركا وروسيا إلى تركيا وإيران، مروراً بالحكومات الأوروبية. لا يقتصر الأمر على القادة، على رغم خصوصية المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقهم بحكم موقعهم ونفوذهم وخبرتهم وقدرتهم على صناعة القرار.
وإنما ثمة درسٌ مؤلمٌ وكبير يواجهه أيضاً الملايين من الأكراد، بدءاً من النخب والمثقفين والنشطاء، وصولاً إلى الإنسان الكردي العادي أينما كان، من العراق وسورية وتركيا، إلى أوروبا وأميركا.
لم يقف كل هؤلاء، للحظة، أمام حقائق الجغرافيا السياسية الصلبة في المنطقة. تناسَوا كل دروس التاريخ عن الحكومات الأميركية وسياساتها الخارجية في هذا العالم الكبير، خاصةً حين يتعلق الأمر بمن يُسمَّونَ «الحُلفاء». لم يقرأوا المعادلات، لا التاريخية الوازنة منها، ولا الجديدة المتعلقة بالمتغيرات الكبرى في المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية. أو الأصح أنهم قرأوها على نحو خاطئ.
سيتفهّم القارئ النقد الموجه إلى القادة السياسيين الأكراد، وثمة «غصةٌ» قد تحصل عندما يتعلق الحديث بعامة الناس. لكن هذا قد يكون مربط الفرس هنا، كما يقولون.
فنحن لسنا في مقام لوم «البسطاء» على نتيجةٍ كارثيةٍ ربما كان القادة، بقراراتهم، سببها الرئيس. لكن مسار الأحداث كان يسير، بحسبةٍ بسيطة، في اتجاهٍ بدت ملابساته واضحةً للكثيرين، إلا للأكراد أنفسهم، فيما يبدو، شعباً وقيادات.
طغى الحماس، ومعه المزايدات، على وضعٍ تَصدُقُ فيه المعاني الكامنة في القصة المشهورة للطفل الذي صاح قائلاً: «لكن الملك عريان». ففي حين كانت تلك الحسبة تؤكد أن الظروف الراهنة بالذات تحمل في طياتها عناصر رفض استقلال كردستان من قبل الدول المجاورة بأسرها، وأكثر من أي وقتٍ مضى في التاريخ، رأى الأكراد الصورة بالمقلوب تماماً.
تداخلت الطموحات الشخصية بالأحلام القومية، فاعتقد القادة الأكراد أن الفوضى السائدة في المنطقة هي اللحظة المناسبة لتحقيق الحلم التاريخي. ركبت النخبة الكردية الموجة، وهي التي كانت مؤهلةً لتفكيرٍ استراتيجيٍ مختلف، فدخلت في «زفّة» عملية الاستقلال بكل الطروحات والوسائل الممكنة، وساد التنافس على تأكيد صوابية القرار ودقة الحسابات وحتمية النتيجة. فلم يكن من شرائح المجتمع الكردي إلا أن ألقت بنفسها في الموج الصاخب الجاري من دون سؤالٍ أو تفكير. وبدا المسارُ كله داخل المجتمعات الكردية، في المنطقة والمَهاجر، أقربَ لمهرجان احتفالي بِعيدٍ من الأعياد على الطريقة الكردية المتميزة.
هنا تتداخل، بمكرٍ وخبث، الثقافة بالسياسة في شكلٍ غالباً ما يؤدي إلى حافة الهاوية. فالثقافة الكردية معروفةٌ برسوخ العنصر الكرنفالي والمظاهر الفنية والطقوس الاحتفالية في حياتها الاجتماعية. والمعروف أيضاً، أن كل القوى السياسية الكردية، من دون استثناء، استعملت ذلك العنصر، بكثافة وإبداع، ومبالغة أحياناً، في عمليات الحشد والتعبئة، حتى باتت جزءاً من الثقافة السياسية للأكراد.
صبَّ هذا كله في الإيحاء بإمكانية تحقيق الحلم الكبير في هذه اللحظة من التاريخ. لكن منطق التاريخ يفرض ألا ينتج عن الأحلام الكبرى سوى أمرين: تحقيقُها، أو كوارث كبرى بحجمها وأكبر. مفرق الطريق في الموضوع يكمن في الحسابات الاستراتيجية، وقراءة التاريخ، وفهم التحولات في شكلٍ دقيق. لكن مشكلة الأحلام الكبرى أنها تُدخل العاطفة والحنين والشوق في خضم معادلة الحسابات، فتُصيبها في مقتل منذ اللحظة الأولى. ذاك هو «التفكير الرغائبي» متجسداً في مثالٍ عمليٍ كبيرٍ ومعاصر يقدمه التاريخ ملء الأبصار في هذه المنطقة من العالم.
فهل تتعلم عربستان الكبرى من هذا الدرس المؤلم؟
ثمة ما يبث الرعب في معرض المقارنات. وقد يكفي طرح التساؤلات في هذا المقام.
نعم، هناك إجماع لفظي واضحٌ حول خطر إيران، وربما حول تخطيطها الكثيف والمدروس للسيطرة على المنطقة، فهل تُركز السياسات الراهنة، والمستقبلية، الأمنية والعسكرية والديبلوماسية والاقتصادية، بدقة، على مواجهتها مباشرة؟ أم أن بعض هذه السياسات تحمل في طياتها ما يؤدي عملياً إلى التضارب في تحقيق أهدافها؟ وهل التركيزُ المذكور متوفر فعلاً، أم أن بعض السياسات يصرف الطاقات والجهود في ساحات أخرى أقل أولوية؟ وعلى رغم كل المؤشرات المُعلنة والخفية، إلى أي درجةٍ يمكن، عملياً، الثقة بالحليف الأميركي، في موضوع إيران تحديداً، وفي غيرها من المواضيع؟ والحساس في هذا السؤال الأخير أن يكون متعلقاً بالمؤسسة وبالنظام، بعيداً من الأفراد، أياً كان موقعهم ونفوذهم في لحظةٍ من الزمان… على رغم أن فهم الموقف الأميركي في التجربة الكردية الأخيرة بمدخل «المصالح القومية»، التي تعلو على كل شيءٍ آخر، أنسبُ في فهم الظاهرة منهجياً من اختزالها بتوصيف «الخيانة». وهذا بحدِّ ذاته فارقٌ في التفكير السياسي بين طريقةٍ تعتمد الحسابات الباردة وأخرى تعتقد أن ثمة شيئاً اسمه «الوفاء» يوجد في قاموس العلاقات الدولية.
هذا كله، بعيداً من حديثٍ، ذي شجون، عن الأحلام والطموحات الكبرى، ودور النخب والمثقفين، والتفكير الرغائبي، وطبيعة الثقافة السياسية، وسواها من مواضيع سيكون مستقبل العالم العربي مهدداً بجدية إن لم يتمَّ تحرير القول فيها اليوم، وليس غداً.
* كاتب سوري
الحياة
خيارات بغداد وأربيل/ بشير البكر
لم تتوقف القوات العراقية عن التوغل داخل إقليم كردستان، بعد أن بسطت سيطرتها ليلة منتصف الشهر الحالي على مدينة كركوك، وبات الحديث متداولا بقوة عن توجه من الحكومة المركزية في بغداد إلى إعادة الوضع في الإقليم إلى ما كان عليه في عام 2003، عشية سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين.
في ظل التقدم اليومي للقوات العراقية، وما يرافقه من توتر نفسي وتعبئة في المعسكرين الرسمي والكردي، تتشكل حالة من القلق في أوساط محلية وخارجية، من أن تقود حالة الاستنفار المتنامي إلى مواجهة عسكرية، غير محسوبة العواقب بالنسبة للطرفين.
يبدو أن الصدام العسكري يشكل حلا لأطرافٍ في الجهتين، ولكنه لن يكون أمرا سهلا بالنسبة للغالبية العظمى في الداخل والخارج، نظرا إلى أن نتائجه سوف تكون كارثية، وليست في صالح أحد.
يحاول الأكراد، رسميا، أن يبقوا في موقف دفاعي. ولهذا السبب، لم يشتبكوا مع القوات العراقية ومليشيا الحشد الشعبي حتى الآن، ولكن ضبط النفس هذا قد لا يصمد حتى نهاية المطاف، وفي حال فتح طرف كردي مواجهة عسكرية لمنع القوات العراقية من التقدّم إلى بعض النقاط الحساسة، مثل المعابر وآبار نفط محددة، والحيلولة دون تجاوز حدود دستور 2005، فقد يخلط ذلك الأوراق داخل الصف الكردي، بسبب وجود معسكر كردي في السليمانية، يميل إلى طرف حكومة بغداد، وعلى صلةٍ وثيقةٍ مع إيران، وهو يرفع الصوت عاليا، من أجل التسليم بشروط بغداد، وقد بدأ هذا التيار يحظى بالتفافٍ شعبيٍّ من شارعٍ صار يرى في الاستفتاء خطأ، ويريد تجاوز آثار الأزمة من خلال المسارعة إلى فتح حوار بنّاء مع بغداد.
وفي حال كانت القوات العراقية هي المبادرة إلى الخيار العسكري، فسوف يقود ذلك إلى توحيد الصف الكردي ضدها، وبالتالي لن تكون العملية سهلة، وهذا أمر تدركه القيادة العراقية التي يصعب عليها اليوم شن حرب جديدة بعد الحرب التي خاضتها ضد “داعش”، لا سيما وأنها لم تصل إلى ختامها بعد، ذلك أن هناك جيوبا غير قليلة بحاجة إلى تنظيف في مناطق عديدة، وخصوصا الحدود مع سورية وأعالي الفرات.
وبالإضافة إلى ذلك، لن يكون في صالح الحكومة العراقية استعادة حدود 2003 بالقوة العسكرية، وسيجري النظر إليه من الخارج على أنه انقلاب على الدستور العراقي الذي تم وضعه عام 2005، وجرى بموجبه رسم حدود إقليم كردستان، عدا عن أن استخدام الجيش العراقي ضد الأكراد، وهم جزء من الشعب العراقي، أمر مخالفٌ للدستور الذي قام على بناء نظام فيدرالي، يستند إلى اقتسام للسيادة والسلطة والثروة، وكل ما يتعارض مع ذلك سوف تعتبره الأطراف الدولية بمثابة مغامرة.
الجانب المذهبي أحد المآخذ على الحكومة العراقية في هذه المواجهة، وكان نافرا بصورة قوية في الأيام الأولى منها، ومع أن قوات الحشد الشعبي تعد رديفا للجيش العراقي، وفق قرار من البرلمان صوّت عليه الأكراد أنفسهم، فإن تحرّكها في اتجاه كركوك كان ذا صبغة مذهبية في الشكل والمضمون، فالرايات الشيعية المرفوعة على مدرعات الحشد الشعبي تفضح دورها، في الوقت الذي بات مؤكدا فيه أن إيران لعبت الدور الأساسي في عملية تسليم كركوك للحكومة العراقية.
الأمر الذي بات مؤكدا أن تغيير الخارطة العراقية غير وارد في المدى المنظور، وهذا يؤكد سقوط حسابات كردية راهنت، في العراق وسورية، على أن الحرب ضد “داعش” فتحت الطريق نحو خارطة جديدة يكون للأكراد فيها وضع خاص برعاية أميركية، والدرس الذي سيبقى أمامنا طويلا أن واشنطن لم تساند الانفصال في العراق، على الرغم من أنها دعمت تشكيل إقليم كردستان داخل الدولة العراقية.
العربي الجديد
القضية الكردية بعد هزيمة كركوك/ بكر صدقي
إذا كانت الأعمال تقيّم بنتائجها، وينبغي لها ذلك، يمكن القول إن الطريقة التي تعاملت بها قيادة إقليم كردستان مع تداعيات الاستفتاء الذي جرى، قد أدت إلى نتائج معاكسة تماماً لما أرادت الوصول إليه بواسطته. فبدلاً من تقوية يد أربيل في مفاوضاتها المحتملة مع بغداد، أدى الأمر إلى إضعافها، إن لم نقل وضع نهاية للمفاوضات قبل حدوثها، نهايةً هي لمصلحة الأمر الواقع الجديد الذي فرضته قوات حكومة بغداد والميليشيات الشيعية التابعة لإيران، من خلال فرض سيطرتها، بلا قتال، على المناطق الموصوفة بالمتنازع عليها.
أي أن أولى نتائج هزيمة كركوك هي تقليص مساحة الأراضي التي كانت قوات البيشمركة تسيطر عليها، وأهمها مدينة كركوك ومنشآتها النفطية التي بدون مواردها لا يمكن للكرد أن يحلموا بكيان مستقل. ومن المحتمل أن شهية بغداد (وإيران من وراءها) لن تقف عند حدود الثروة النفطية، بل هي تتطلع إلى السيطرة على معابر الإقليم الحدودية مع كل من تركيا وإيران، وما يعنيه ذلك من خنق الإقليم تماماً، وبغض نظر أمريكي ولامبالاة دولية.
النتيجة الثانية لهزيمة كركوك هي خسارة الحليف التركي، بصرف النظر عن وهنه واضطراب أحواله الراهنة وتوتر علاقاته مع الأمريكيين والأوروبيين. فقد كانت تركيا، على الدوام، هي النافذة الوحيدة المأمولة للإقليم على العالم، في محيط معادٍ (العراق وإيران وسوريا) سواء بقي الإقليم فيدرالياً داخل حدود العراق أو استقل بكيانه عنه. ومن هذا المنظور، فقد كان الإقليم شبه المستقل في أحسن حال، إذا قارناه بما آلت إليه أوضاعه بعد معركة كركوك.
هذا هو، على أي حال، الدرس الذي أراد خصوم استقلال كردستان تلقينه للكرد: (انظروا ما فعله بكم الاستفتاء الذي أصررتم على إجرائه!) كأننا أمام نسخة طبق الأصل عن المأساة السورية الفظيعة: (أهذه هي الحرية التي طالبتم بها؟) يقول لسان حال النظام الكيماوي، ومعه كل المجتمع الدولي، بعدما دمر النظام سوريا وهجر نصف سكانها وقتل نصف مليون منهم، مع مساهمة فعالة من المجتمع الدولي تراوحت بين غض النظر عن جرائمه، ومساعدته على استعادة سيطرته العسكرية وإعادة تأهيله سياسياً.
يمكن القول إذن، باستخلاص نتائج درسي سوريا وكردستان، إن شريعة الأقوياء في هذا العالم لا تتهاون مع إرادة الشعوب، سواء تم التعبير عنها بثورة سلمية أرغمت على التحول إلى مقاومة مسلحة (سوريا) أو باستفتاء ديمقراطي كحال شعب إقليم كردستان. الستاتيكو، في اقليمنا «الشرق أوسطي» على الأقل، وجد ليبقى، «إلى الأبد» كما يقول الشعار الأسدي الشهير. فإذا وجب إجراء تعديلات عليه، من حين لآخر ولدواع مختلفة، فهذا من شأن صانعي الستاتيكو أنفسهم، أي أصحاب القوة، وليس من شأن شعوب المنطقة. قد يختلف أصحاب القوة فيما بينهم على حجم التعديلات التي يجب إدخالها على النظام الإقليمي أو وجهتها، وفي هذه الحالة يقامر هؤلاء بدماء أهل المنطقة لتعديل موازين القوى، وصولاً إلى لحظة التوافق على خريطة نفوذ جديدة. أما أن يتشاطر لاعبون اقليميون، متوسطو القوة، للاستفادة من لحظة إعادة ترتيب الوضع الإقليمي، فهذا بدوره غير مسموح إلا في الحدود التي يرسمها الأقوياء.
النتيجة الثالثة لمعركة كركوك هي هذا الشقاق الكبير داخل الحركة السياسية في إقليم كردستان، وتداعياته المحتملة خارجه أيضاً، بين الحزب الديمقراطي الكردستاني ودائرة نفوذ العائلة الطالبانية داخل الاتحاد الوطني الكردستاني، على خلفية اتهام الأول للثاني بالخيانة لمصلحة إيران، بما قد يصل إلى استعادة الحرب بين القوتين كما جرت سابقاً في التسعينيات. حرب قد تشجع عليها إيران من جهة أولى، ورغبة مسعود بارزاني في التغطية على هشاشة وضعه السياسي بعد معركة كركوك من جهة ثانية. فإذا حدث المحظور فعلاً كان ذلك بمثابة رصاصة الرحمة، ليس فقط على حلم الدولة الكردية المستقلة، بل كذلك على الإقليم الفيدرالي شبه المستقل الذي كرسه الدستور العراقي.
النتيجة الرابعة المحتملة لهزيمة كركوك هي تقوية التيار الأوجالاني في مواجهة التيار البارزاني، سواء في العراق أو في تركيا وسوريا. وهو تيار أقرب ما يكون إلى العدمي بالنظر إلى براغماتية التنظيم المسلح القابل لتغيير مبادئه وتحالفاته وتموضعه كل 24 ساعة، وصولاً لغياب أي قضية يدافع عنها باستثناء قضية تحرير زعيمه الأسير عبد الله أوجالان. ويزداد الأمر سوءاً إذا نظرنا إلى المستقبل المحتمل للتحالف الأوجالاني ـ الأمريكي في سوريا، بعد انتهاء القيمة الاستعمالية للأول في أعقاب نهاية مسلسل داعش القريب في سوريا بعد العراق. هذا المستقبل المحتمل الذي قد يكون خذلان الحليف الأمريكي لبارزاني في معركة كركوك، تجربة يقاس عليها في سوريا أيضاً. أي أن ازدياد قوة التيار الأوجالاني في مواجهة التيار البارزاني يتوقف على أرضية هشة يمكن أن تميد بسهولة تحت أقدام الأول إذا قرر الأمريكي أن دوره في محاربة داعش انتهى، ليتخلص من عبء التحالف معه. عبء يكلفه توتراً في العلاقات مع حليفتها الأطلسية تركيا التي تزداد، بسبب ذلك، بعداً عن واشنطن وانضواءً تحت الجناح الروسي وتقارباً مع إيران.
حصيلة مأساوية لمعركة كركوك التي لم تحدث، وهي كذلك لأنها لم تحدث. هناك الكثير من الغموض حول ما جرى فعلاً وراء الأبواب المغلقة. وتبقى تساؤلات كثيرة معلقة في الفراغ، من نوع: هل كان قرار الاستفتاء خاطئاً من أساسه؟ أم كان شموله للمناطق المتنازع عليها هو مكمن الخطأ فيه؟ أم توقيت إجرائه الذي أصر عليه بارزاني؟ أم أن معركة كركوك التي تهرب الكرد من خوضها هي المسئولة عن كل التداعيات المأساوية اللاحقة؟ والسؤال الأكثر أهمية: ما العمل الآن لضبط الخسائر عند أدنى سقف ممكن؟
البداية غير مشجعة على التفاؤل: بيان قيادة الإقليم الذي أعلنت فيه «تجميدها» لنتائج الاستفتاء ودعت إلى إطلاق عملية تفاوض بلا شروط مع بغداد. إن الطريقة المثالية المجربة لتحويل هزيمة عسكرية في معركة لم تحدث، إلى هزيمة سياسية شاملة، هي تقديم تنازلات سياسية فيما لا يجب التنازل عنه. فالاستفتاء الذي جرى وأعلن شعب كردستان من خلاله توقه إلى الحرية والاستقلال، لم يعد ملكاً لقيادة الإقليم حتى تتلاعب به فتجمده على طريق إلغائه كما ستصر بغداد ومن ورائها طهران وأنقرة.
لم تحقق هزيمة حزيران 1967 أهدافها، وفقاً للرطانة البعثية الممجوجة، لأن «النظام التقدمي» في سوريا لم يسقط! كردستان ليست بحاجة إلى تكرار هذا «النصر» المشؤوم ببقاء طاقمه الحاكم في الحكم.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
بين الرقة وكركوك/ عمر قدور
قد لا نجد رابطاً بين ما حدث في كركوك وما حدث بعدها في الرقة، ففي الأولى تلقى إقليم كوردستان هزيمة قاسية، ودخل الحشد الشعبي الشيعي لينكّل برموز سيطرة الإقليم على المحافظة ويزيل من على مؤسساتها الأعلام الكردية. في الرقة حصل العكس، فالميليشيات الكردية التي هزمت داعش سرعان ما رفعت صورة كبيرة لزعيمها عبدالله أوجلان، في الساحة نفسها والمكان نفسه الذي كان فيه قبل الثورة تمثال لحافظ الأسد، وسرعان أيضاً ما وردت صور علب الطلاء بألوانه الثلاثة الأخضر والأحمر والأصفر، أي ألوان العلم الكردي، حيث تظهر مسارعة عناصر الميليشيات إلى طلاء أعمدة الإنارة وغيرها بتلك الألوان.
ليست المفارقة تسجيل هزيمة في مكان ونصر في مكان آخر، فالقضيتان الكرديتان في سوريا والعراق لم تكونا يوماً مترابطتين، على الأقل لا نعثر بينهما على تلك العروة الوثقى التي تربط القضيتين في تركيا وسوريا من خلال سيطرة حزب العمال الكردستاني عليها في الجانبين. ربما هناك مفارقة من نوع آخر، فالإدارة الأمريكية المتهَمة بتغطية الهزيمة الأولى هي من غطى النصر الثاني بالدعم العسكري المباشر. مع ذلك يصعب اعتبار هذا النصر تعويضاً عن تلك الهزيمة، مثلما يصعب الحديث عن استراتيجية أمريكية متماسكة في التعاطي مع مجمل قضايا المنطقة.
في زاوية مضافة للاختلاف بين الحالتين يمكن القول أن الأوجلانية تبدو كأنها تحرز تقدماً في الوقت الذي تتراجع فيه البارزانية، بخلاف ما كانت ستمضي إليه المقارنة فيما لو حققت تجربة انفصال الإقليم نجاحاً سريعاً، وأيضاً بخلاف الشعبية الطاغية التي حققتها البارزانية عشية الإعلان عن تنظيم الاستفتاء. التنافس بين الأوجلانية والبارزانية، أو الصراع الضمني بينهما، ربما يمكن اختزاله بزعامة تقليدية تسعى لتكون رمزاً وملهماً في التاريخ الكردي، وزعامة مستجدة لا إرث لها غير أنها تسعى إلى التعويض بالاستحواذ على القضية الكردية برمتها، مع استثناء القضية الكردية في إيران التي لا تحظى باهتمام حزب العمال الكردستاني، بل كانت أدبياته الأولى تصنف حكم الملالي وحكم الأسد كحليفين. ضمن هذا التنافس لم يكن ينقص الدبلوماسية التركية التهور لتلعب مؤخراً لصالح خصمها الأوجلاني، ففيما عدا الموقف العدائي من استفتاء إقليم كردستان توالت التصريحات التركية المهدِّدة لقيادة الإقليم، بل تبرّع أردوغان عدة مرات بتوجيه كلام مباشر يخلو من الدبلوماسية لمسعود برزاني شخصياً، في الوقت الذي كانت فيه طهران صاحبة الفعل على الأرض من دون ضجيج من مسؤوليها.
كان من شأن سياسة تركية أكثر حصافة إظهار أن مشكلتها هي مع حزب العمال لا مع الأكراد أينما وجِدوا، إلا أن احتجاج الحكومة التركية على رفع صورة أوجلان في الرقة لم يعد ممكناً إدراجه سوى ضمن العداء المطلق للأكراد، وهو فوق ذلك عديم التأثير ضمن الجدل الأميركي-التركي، ولا يقدّم أي تعاطف لأهالي الرقة المنكوبة مؤخراً بصورة الزعيم الكردي التركي وبممارسات أتباعه. إن أسوأ ما في الاحتجاج التركي على رفع صورة أوجلان “مكان تمثال الأسد الذي حطمه الأهالي” هو سحب البساط من تحت أصحاب الشأن من أهالي المدينة وعموم السوريين، وإظهار المعركة كأنها بين حكومة أردوغان والتنظيم الكردي، أو كأن حكومة أردوغان تتصدى للطموحات الكردية في كركوك والرقة دونما تمييز يتطلبه وضع كل مدينة منهما.
ربما هناك وجه للشبه بين الرقة والمناطق المتنازع عليها في العراق من حيث التقدم الكردي للسيطرة عليها في إطار الحرب على داعش، إلا أن البنية الديموغرافية للرقة لا تجعلها البتة منطقة متنازعاً عليها، فهي ذات أغلبية عربية كاسحة، وما لم تُسلَّم قيادة المدينة لأهاليها فسيكون المسيطرون عليها قوة احتلال أسوة بداعش. الحق أن نية الاحتلال ظهرت سريعاً مع رفع صورة أوجلان وطلاء ألوان العلم الكردي في الأماكن العامة، الأوجلانيون مدركون موقعهم هذا بالنسبة للأهالي ولا يريدون تعديل صورتهم كمحتلين جدد، الصورة التي سبق لهم تكريسهم مع سيطرتهم على أكثر من منطقة ذات أغلبية عربية.لقد لعب أنصار الميليشيات الكردية طويلاً على تصوير الثائرين على سلطة الأسد بمثابة دواعش، وكأن الساحة السورية تقتصر عليهم وعلى تنظيمي داعش والأسد، ذلك كان من أجل شرعنة الاحتلال الذي لا تكفي لمساندته دعاوى تاريخية لحيازة مناطق الأغلبية العربية.
بالطبع لا تستقوي الميليشيات الكردية بالدعم الأميركي فحسب، وإنما تستقوي أيضاً بالعلاقة الوثيقة مع طهران وموسكو، أو بالأحرى تستقوي بتقاطع المصالح بين هذه القوى مجتمعة الذي سمح لها بالتمدد تحديداً على حساب خصوم الأسد، بعد أن قام داعش بهذه المهمة من قبل. إلا أن تقاطع المصالح المؤقت لن يمنح مكاسب دائمة تلبي مطامع الميليشيات في السيطرة على معظم الشمال السوري، فالحليف الروسي سمح لتركيا من قبل بقطع ذلك الحلم في منطقة جرابلس، وربما يكون قد سمح مؤخراً لتركيا بمحاصرة مدينة عفرين وهي المدينة التي تحتوي على أعلى نسبة من التواجد الكردي في سوريا. أما الحليف الأمريكي فلعل تجربة كركوك، وتجربة دعمه المسحوب من المعارضة السورية مؤخراً، تعطيان صورة واضحة عن مدى ديمومة دعمه.
مع ذلك لا خطأ في ما يفعله الذراع السوري لحزب العمال، فقادته في جبال قنديل العراقية يؤدون دورهم بامتياز كأداة في الصراع الأكبر، ومن ضمن هذا الدور صنع أحقاد وتأجيجها بين أكراد سوريا وعربها، واختراع مناطق نزاع لم تكن موجودة سابقاً. التأثير السلبي المحتمل لتصرفاتهم على القضية الكردية في سوريا ليس وارداً في حسابات أولئك الموجودين في جبال قنديل، وبالطبع لا تؤرقهم قضايا العيش المشترك بين سكان الشمال السوري، بل يبدو كأن مصيرهم الملتبس كأداة لا يثير قلقهم. لعل هذا يوضّح واحداً من جوانب الاختلاف بين البارزانية والأوجلانية، فالأولى لم تضع نفسها يوماً في موقع القيادة عن بعد للقضية الكردية خارج العراق، ولم تضحِّ يوماً بآلاف الأكراد غير العراقيين من أجل قضيتها الأم كما فعل حزب العمال بمؤيديه السوريين الذين زجهم لسنوات في حربه التركية.
إلا أن ما يوازي تصرفات قيادات جبل قنديل في الأهمية صمت النخب الكردية عن تجاوزاتها باستثناء قلة نادرة، وحتى هذه القلة لم ترفع صوتها لتستنكر رفع صورة أوجلان أو طلاء ألوان العلم الكردي، في حين ترتفع كافة الأصوات عالية لتلوم المثقفين العرب مع أي انتهاك يكون الكردي ضحيته. استمراء دور الضحية، حتى عندما تمارس الظلم، لا يطعن فقط في نزاهتها، بل يُخشى أيضاً أن يسحب من استحقاقها العدالة.
المدن
هل من «طبخة» أميركية للعراق بعد «الورقة» الكردية؟/ هدى الحسيني
ترفض إيران أن يكون للأكراد دولة (سنعيدكم إلى الجبال. قال لهم قاسم سليماني)، في حين لا تكتفي هي بدولتها، بل تريد التمدد إلى بقية الدول العربية (الدور الإقليمي) قال الرئيس حسن روحاني يوم الاثنين الماضي: وضع إيران الإقليمي لم يكن أقوى مما هو الآن. ويحذر مصدر دبلوماسي من أن «الدولة الإسلامية» (داعش) إلى انحسار، لكن «الجمهورية الإسلامية» (إيران) إلى تمدد، إذا لم يتم صدها للحؤول دون استكمالها مخطط زعزعة استقرار الشرق الأوسط.
إن انهيار قوات البيشمركة تحت ضغط مشترك من العراق وإيران يمكن أن يزعزع استقرار شمال العراق بدلاً من توحيد البلاد. لقد قللت إيران من دور الميليشيات التي تدعمها من أجل إضفاء الشرعية عليها كأدوات بيد الدولة العراقية، والمثير للغضب أن التغطية الإعلامية الغربية، والبيانات التي أدلى بها مسؤولون أميركيون تساعد الخداع الإيراني من خلال إنكار دور الميليشيات الشيعية في كركوك. رغم جولات وتصريحات سليماني، وأبو عزرائيل، والمهندس والعامري.
ما حدث في الأسبوعين الأخيرين سوف يبقى في الذاكرة الحية لأكراد العراق، حيث فقد إقليم كردستان أراضي شاسعة كانت تسيطر عليها حكومة الإقليم منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003. بعد الاستفتاء عانت حكومة الإقليم وشعبه من تدابير انتقامية من بغداد وجيرانها، وأمر رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي بتجمع قوات عسكرية من نظامية وميليشيات خارج كركوك، وتعهد القادة الأكراد بالدفاع عنها حتى الموت.
كانت هناك تكهنات بأن القوات العراقية وقوات البيشمركة – الطرفان مشاركان في التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، ومجهزان بأسلحة أميركية – بأنها ستتجنب أي تبادل عسكري مباشر، وذهب التفكير بأن المواجهة ستكون طويلة الأمد. لكن يبدو أن الحسابات تغيرت، وبينما حاول ضباط الجيش الأميركي على الأرض التوسط بين بغداد والأكراد، بذلوا أيضاً جهوداً للتقليل من حدة الاشتباكات المتفرقة التي وقعت في كركوك. وصرح ناطق باسم الجيش الأميركي: «إن تسليم المدينة كان من المفترض أن يكون منسقاً». وصدر عن العبادي تصريح بأنه أعطى الأوامر للجيش العراقي والبيشمركة للتنسيق معاً في كركوك.
بعد سقوط كركوك، بدأت لعبة اللوم المعتادة في كردستان العراق. وقال مسرور بارزاني ابن مسعود والمسؤول عن الأمن: «إن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني خان كركوك وكردستان، وخضع لإيران وانسحب من الخطوط الأمامية دون قتال». وقال مسعود بارزاني في مؤتمر صحافي حُضّر على عجل، إن خسارة كركوك «كانت نتيجة القرارات الأحادية الجانب لبعض الأشخاص داخل حزب سياسي كردي معين». كان يعني الاتحاد الديمقراطي. وكانت شائعات انتشرت مع سقوط كركوك بهذا الشكل السريع والمذهل، أن اتفاقاً تم بين الحكومة المركزية و«الاتحاد الوطني الكردستاني» بدعم من إيران للانسحاب من كركوك، وهذا ما أكدته الأحداث لاحقاً، حيث غادرت وحدات «الاتحاد الوطني» دون قتال.
إن اتهامات الخيانة والصفقات السرية مع بغداد لها تقاليد عريقة في التاريخ الكردي العراقي. لكن كركوك هي معقل «حزب الاتحاد الوطني الكردستاني»، وكان المحافظ (الفار الآن) نجم الدين كريم الطبيب الشخصي لجلال الدين طالباني مؤسس الحزب.
وربما لا تنظر فصائل في «حزب الاتحاد الوطني» إلى التوصل إلى اتفاق مع بغداد، على أنه خيانة للحلم الكردي بالاستقلال، بل رد فعل على سياسة مسعود بارزاني وطموحاته.
هناك من قال إن بارزاني ارتكب خطأ تاريخياً بالمضي قدماً في الاستفتاء رغم اعتراض كل الأطراف التي يُحسب لها حساب. العرض الأميركي وصل متأخراً، وكان بارزاني ضمناً سعى إلى إجبار «حزب الاتحاد الوطني» و«حزب غوران» والأحزاب الكردية المنافسة بالتلويح بالاستقلال، مع العلم أن الحزبين تاريخياً يميلان إلى التفاوض مع بغداد، بدل الوصول بشكل منفرد إلى حافة الهاوية. وعلى الرغم من معارضة حزب «غوران» مبدئياً على الاستفتاء فإنه و«حزب الاتحاد الوطني» أجبرا على القيام بحملة «نعم» في نهاية المطاف؛ لأنه لا يمكنهما تحمل اتهام بأنهما أعاقا استقلال الأكراد.
من ناحية بارزاني، من المؤكد أنه أراد الاستفادة في جلب خصومه إلى الخط، وباعتباره «والد تصويت الاستقلال» توقع انتصاراً ساحقاً لحزبه في الانتخابات البرلمانية التي كان من المقرر إجراؤها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. هو اعتقد أن الأحزاب المنافسة له في وضع ضعيف لمقاومته، فالاثنان فقدا مؤسسيهما هذا العام، والمؤسسان من القادة التاريخيين للأكراد. نوشيروان مصطفى (غوران) في مايو (أيار) الماضي، وجلال طالباني قبل أسبوعين فقط. لكن بدل المعاناة من الضعف، ولا سيما في «حزب الاتحاد الوطني»، يبدو أن وفاة طالباني تسببت بصراعات داخلية أدت إلى اتفاق الانسحاب من كركوك، وبرز إثر ذلك ابن جلال طالباني بافل، حيث اتهم «زعماء أكراداً من جيل معين بأنهم فقدوا حس الواقع المعيش» (بي بي سي) يوم الأحد الماضي. ودعا إلى الحوار مع بغداد وتوحيد الصوت الكردي. وهكذا مادت الأرض من تحت قدمي بارزاني.
الأكراد منقسمون. فقدوا كل الفرص في مواجهة بغداد. وبدا أن بارزاني وافق على ما لا يمكن بعد تجنبه بعد خسارة كركوك؛ فأمر البيشمركة بالانسحاب من سنجار، ومخمور وخانقين، تقريباً جميع الأراضي المتنازع عليها، وحاولت حكومة الإقليم وصف منطقة القوش بأنها متنازع عليها، فرد السكان المحليون بأنها آشورية ويرغبون في البقاء في العراق. مع خسارة الأكراد 40 في المائة من الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها، حاولت قوات الحشد الشعبي زعزعة كردستان العراق كمنطقة مستقلة ذاتياً. قوى عليا تدخلت وعاد الألمان لتدريب البيشمركة. وأكد الإيطاليون، أن على العالم أن يتذكر أن الأكراد حاربوا «داعش» عندما انهارت القوات العراقية. لكن يعرف العبادي رئيس الوزراء الذي يواجه انتخابات العام المقبل، أن الزخم والمجتمع الدولي إلى جانبه، وأن نوري المالكي في مواجهته، وأن علاقات العراق العربية مطروحة وبقوة. لذلك؛ إذا لم يتوقف الأكراد عند هذا الحد من الانقسام، فقد يشعر العبادي بأن الفرصة مواتية له ليزيد من انقساماتهم ويسحقهم، ووضع حد بالتالي لتطلعات كردية استقلالية أوسع نطاقاً داخل العراق.
هل اعتقد مسعود بارزاني أن لعبته ستبتلع أوراق الآخرين؟ هل هناك لعبة أكبر تلعبها أميركا على مستوى العراق، وأيضاً سوريا، استدعت منها التضحية بالأحلام الكردية العراقية الآن؟ من المحتمل أن هناك شيئاً ما يطبخ، وليس الحذر مطلوباً الآن من الأكراد، بل من رئيس الوزراء العراقي. لقد انتقلت ديناميكية السلطة التي كانت تحدد السياسة العراقية على مدى العقدين الأخيرين مجدداً إلى بغداد. وانقلبت الأقدار رأساً على عقب، وعلى الأكراد الانتباه ألا تصل انقساماتهم إلى أربيل؛ إذ عندها ستقع تحت رحمة حكومة مركزية أقوى وأكثر تصميماً من أي وقت مضى، يجب الاعتراف لبارزاني بأنه حمى أربيل ودهوك من أي نفوذ أو سيطرة إيرانية. لكن الأكراد الآن كمن رمى بالكرة على الحائط فعادت لترتطم بقوة برؤوسهم. والمؤلم أن الخسائر التي مُنوا بها على الأرض، لن تكون نهاية معاناتهم. حتى أسابيع قليلة جداً كان قادتهم يخبرونهم بأنهم على طريق الاستقلال. هذا صحيح، لكن هذه الهزيمة لن تنهي أحلامهم. والأنظار تتجه إلى حيدر عبادي؛ إذ تاريخياً ومنذ 1920، كان العراق كلما شعر بأنه قوي التفت إلى مهاجمة الأكراد. العبادي الآن قوي، لكن لوحظ ارتباكه مؤخراً؛ إذ قال: «إن التدخل في الشؤون الداخلية للدول يجب أن يتوقف». ولم يستفض، المهم أن تحترم إيران السيادة العراقية وحرية الخيارات العراقية، لا أن تدفع بكل قوتها لاستفزاز كرامة العراقيين.
لقد أعاد العبادي البوصلة إلى بغداد، لكن لن يجعل الأكراد يحبون العراق من خلال مهاجمة أراضيهم والتشديد عليهم وإلحاق عقاب جماعي بهم. منذ 1990 لم يشاهدوا جندياً عراقياً واحداً في منطقتهم، وهم لن يقبلوا الآن. على كل الأطراف إنهاء الجنون الداخلي، وعدم الإصغاء للتحريض الخارجي وبدء الحوار.
الشرق الأوسط
سوريا .. فاصل ونعود/ سمير صالحة
التقارب التركي الايراني في مواجهة الاستفتاء الكردي حول الانفصال واعلان الدولة في اقليم شمال العراق لا يعني بالضرورة انه سيتحول الى حلف ثنائي باتجاه حماية المصالح في التعامل مع الملفات الاقليمية .
التفاهم بين انقرة وطهران في العراق لا يتعدى حدود اقليم كردستان لا بل حدود اربيل ربما ، حيث التقت المصالح في رفض ما أراد مسعود البارزاني فرضه عليهما . فسياساتهما متضاربة في كركوك وقنديل وسنجار وفي العلاقات مع اكراد السليمانية وشكل العلاقة مع بغداد وطرق بناء العراق الجديد .
الحديث عن احتمالات حصول تنسيق تركي ايراني في الملف السوري كما حدث في اربيل مؤخرا ليس من المبكر الحديث عنه فقط ، بل من المستحيل توقعه ، بسبب حجم نقاط التباعد والخلاف رغم النجاح الجزئي لتجربة تفاهمات الاستانة حول مناطق تخفيض التوتر . طهران ما زالت الحليف الاول والاقوى للنظام في سوريا وتركيا ما زالت تتصدر قائمة المناوئين . موسكو قد تكون نجحت في جمعهما أمام طاولة واحدة لكن مصالحها هي العامل الاساسي في فرض ترتيب الجلسات وتحديد مواد جدول الاعمال واختيار الحضور .
ايران تراهن دائما على عدم اكتمال مشروع اي تقارب تركي روسي في سوريا وهي كماعرقلت انجاز خطة درع الفرات في الباب تستطيع ان تكرر ذلك في جبهات التقاطع التركي مع النظام ووحدات سوريا الديمقراطية .
المساومات التركية الروسية في شمال سوريا حول ادلب وعفرين وتل رفعت سيكون لها ارتداداتها على السياسة الايرانية التي قد تتحرك للرد باتجاهين اذا ما شعرت ان ذلك يتم على حسابها : الضغط على النظام السوري ليقاوم المطالب الروسية ومحاولة لعب ورقة اكراد سوريا عبر تقريبهم اكثر الى النظام في اطار صفقة سياسية دستورية تعرقل الخطط الروسية .
ايران قادرة على تحريك اكثر من ورقة ضد انقرة أيضا اذا ما شعرت ان تقارب الاخيرة وانفتاحها على موسكو سيضر بحساباتها ومصالحها هي في سوريا . بين ما تستطيع طهران فعله مثلا تحريك مجموعات حزب العمال الكردستاني في قنديل وسنجار وكوباني لتفجير الوضع الامني على الحدود التركية العراقية والتركية السورية .
الخطط التركية الاخيرة حول توحيد قوى المعارضة السورية عسكريا قد تكون استجابة لمطلب روسي بهدف فتح الطريق امام الحوار والتمثيل السياسي امام طاولة المفاوضات المرتقبة بعد الاستانة المقبل . نتائج وقرارات اجتماعات الاستانة لناحية المشاركة وملفات البحث ستساعدنا على معرفة مسار ومستقبل العلاقات التركية الايرانية في سوريا لكنها ستكشف اكثر عن مواقفهما واوراقهما المستورة وطريقة تعاملهما مع سيناريوهات ومناورات روسية لا تنتهي حول الفدرالية والكونفدرالية والحكم الذاتي في سوريا . لكن هناك ما ينبغي قبوله والتسليم به ايرانياً وتركياً كذلك وهو ان المصالح الروسية في سوريا وما ستقوله موسكو هو الذي سيحدد شكل ومسار العلاقة بين انقرة وطهران في صناعة المشهد السوري الجديد أيضا .
بعد مرور عامين على انطلاقة الاستانة يدور النقاش حول بديل جديد تحت مسمى “مؤتمر الشعوب السورية ” وهو اقتراح روسي يتعارض كليا مع اهداف ايران في سوريا وصلب مشروعها هناك وقد ترفضه انقرة كونه يفتح الطريق امام اشراك حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المستبعد عن اية طاولة حوار بسبب الفيتو التركي . موسكو هي المحرك الاول في الملف السوري ومقولة انه كلما ازداد وترسخ التقارب التركي الروسي في سوريا كلما انعكس ذلك سلبا على مسار العلاقات الروسية الايرانية لم تعد مقبولة كثيرا لدى الروس . موسكو تريد الطرفين الى جانبها خلال بحث خطط اجتماع الاستانة المقبل الذي بدأ ينتزع دور لقاءات جنيف والانتقال بالمناقشات من المسائل الامنية والعسكرية الى التمهيد للحوار السياسي بين قوتين سوريتين محليتين احداهما تمثل النظام الذي يحمي حصة ايران والاخرى تنوب عن المعارضة المقبولة روسياً وايرانياً وتنسق مع تركيا من دون اهمال جوائز الترضية لبعض اللاعبين الاقليميين .
توحيد قوى المعارضة السورية في جيش واحد سيعقبه حتما تشكيل الجبهة العريضة لقوى المعارضة في وفد واحد تناقش موسكو بعيدا عن الاضواء تفاصيل تشكيله بما يرضي الشريحة الواسعة من حركات وتجمعات وهيئات المعارضة ولا يهمل ما يقوله بعض اللاعبين الاقليميين والدوليين .
كلما كرر الرئيس رجب طيب اردوغان أن المرحلة الثانية في خطة التحرك العسكري التركي في شمال سوريا ستكون عفرين بعد ادلب كلما زاد من غضب واشنطن ودفعها للتصعيد اكثر فأكثر ضد تركيا . مكسر العصا في العلاقات التركية الايرانية يكاد يكون الضغوط التي تتعرض لها انقرة من قبل الادارة الاميركية بهدف دفعها لتغيير سياستها الايرانية وهو ما ترفضه القيادة التركية حتى الان ، خصوصا وان واشنطن تعتمد سياسة سورية تتعارض كليا مع الاهداف والمصالح التركية هناك .
كثر هم من يريدون أن يعرفوا كيف ستتصرف تركيا، والى جانب من ستقف، ومن ستختار في سيناريو المواجهة الاميركية الايرانية المتوقع ؟ هل ستمنحها الظروف والمعطيات فرصة الوقوف على الحياد عندما يتغير مسار الامور على الارض؟ هل سيكون بمقدور تركيا اللعب على التوازنات لعدم اغضاب الجانبين والدفاع عن مصالحها على طريقة لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم ؟ ام ان التصعيد التركي المتزايد ضد واشنطن في الاونة الاخيرة مقدمة لتبرير اسباب القطع مع ادارة ترامب والانحياز التدريجي الى الجانب الروسي ؟
ما قد يتحول الى مفاجاة اخر لحظة ويتعارض تماما مع تهديدات الرئيس الاميركي لايران وما يقال حول محاولات اميركية مستمرة لتوريط ايران في المصيدة السورية هو احتمال ان تتقارب المصالح الايرانية الاميركية اكثر في سوريا كلما تقاربت المصالح التركية الروسية هناك وولادة سيناريو اعادة تجربة سبق وشاهدناها في العراق بعد عام 2005 وانتهت بخروج عسكري وسياسي اميركي من هناك لصالح ايران . لمَ لا يتكرر المشهد نفسه في سوريا هذه المرة عندما تشعر طهران وواشنطن بخطر التنسيق التركي الروسي المتزايد على الارض سياسيا وعسكريا بما يتعارض كليا مع مصالحهما في سوريا؟
انقرة تعرف جيدا ان القيادة السياسية الايرانية تريد امتلاك الكثير من الاوراق في ملفات حساسة لتلعبها لاحقا امام طاولة المساومات والصفقات مع واشنطن وموسكو لذلك هي لن تفرط بابسط ما تملكه من فرص غير حماية علاقاتها مع الكرملين ، تمتين علاقاتها بحلفائها المحليين المحسوبين عليها في المشهد السوري .
في سوريا، تلتقي أحياناً وجهات النظر الروسية والتركية حول تقييد الطموحات الإيرانية هناك . لكن ما يجمع بين أنقرة وموسكو ويدفعهما إلى التعاون هو السياسة الاميركية السورية الجديدة أيضا .
المدن
«قسد» تحتل «نفط الشرق» بدعم أميركي وتفاهم مع «داعش»: أكراد سوريا بين واشنطن ودمشق/ محمد بلوط
«عاصفة الجزيرة» الكردية ــ الأميركية التي تهب على وادي الفرات، تحوّلت برداً وسلاماً على «داعش». فالصفقة التي عقدها التحالف الكردي ــ الأميركي مع «داعش» لإخلاء الرقة، وتأمين طرق انسحاب آمن، امتدت لتشمل أرياف دير الزور الشمالية الشرقية. ووفق مصادر في المنطقة، أخلى مئات المقاتلين أكثر من 28 قرية، لتنتشر فيها «قوات سوريا الديمقراطية» من دون قتال.
وكان شيوخ عشائر ووجهاء في المنطقة قد أقنعوا العناصر السوريين في «داعش» بتسليم مواقعهم لتفادي القتال مع الأميركيين و«قسد»، والذي «لا يستفيد منه سوى الرافضة». ولم تتعرض طائرات «التحالف الدولي» لأي من تلك الأرتال. وشمل الاتفاق «الكردي ــ الداعشي» تسليم التنظيم منشآت استراتيجية للقوات الكردية، في إطار توافق بات واضحاً أنه لا يقتصر على تفاهمات الرقة، بل إن «داعش» ذهب في هذا التفاهم إلى حدّ قتال الجيش السوري في حقل العمر النفطي الاستراتيجي قبل الانسحاب منه أمس، وتسليمه للقوات الكردية، لتواصل واشنطن مراكمة أوراق استراتيجية، تهيّئ عبرها لجولات من المقايضة مع دمشق لترسيخ المشروع الفيدرالي
قد يكون جوان إبراهيم، القائد العام السابق لقوات «الآسايش» التابعة لـ«الإدارة الذاتية»، ذهب أكثر مما ينبغي كردياً في مجاراة السعوديين في حربهم مع إيران، كي يسقط من أعلى هرم المؤسسة الأمنية الكردية السورية منتصف أيلول الماضي. والأغلب أنه بالغ في فتح النار على الإيرانيين بطريقة لم يسبقه إليها أيّ مسؤول كردي سوري سابقاً.
الإعلامي السابق في «حزب العمال الكردستاني»، خاطب قبل شهرين صحيفة سعودية، مهوّلاً «بالخطر الإيراني الذي يفوق خطر (داعش) على سوريا». ولقصر الإقامة في جبال قنديل، لم يسعف الإعلامي السابق حذره الفطري في تجنّب خطاب حاد كهذا، وقد استدعته على عجل خنادق الحرب السورية، وقرار «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي قيادة 17 ألف أمني في جهاز «الأسايش». والأرجح أن عزله من منصبه قبل شهر، واسترداد أحد مفاتيح السلطة في «فيدرالية الشمال السوري» الكردية من يده، يعكس حذر «حزب الاتحاد» من الانخراط في وظيفة جديدة تعدّها الولايات المتحدة لحليفها الأوثق، بقصد احتواء إيران في الشرق السوري. وهي التوصية التي وضعها مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر على طاولة الإدارة الأميركية تحت عنوان: «سوريا ساحة لاحتواء إيران». وهي تأتي في سياق ضيق خيارات واشنطن، بحيث لم يبق في يدها سوى ورقة الأكراد، بعد التراجع الكبير في نفوذ وقدرات كل المجموعات المسلحة الأخرى. لكن هذه الاستراتيجية تحتاج إلى وقت لتترجم خطواتها في ضوء مراجعات تعدّها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالتعاون مع وزارة الخارجية لمرحلة ما بعد «داعش»، والتي سيكون شرق سوريا مسرحها الأبرز.
لكنّ خبيراً دولياً عائداً من القامشلي يجزم لـ«الأخبار» بأن «كفة التيار الكردي المؤيد لتسوية مع دمشق يكون سقفها الإدارة الذاتية قد تكون أكثر رجحاناً مقابل التيار العامل على تكرار السيناريو العراقي المعروف في بناء وقائع مؤسساتية وكيانية فوق أرض الجزيرة السورية. وهذا التيار يستهدف إضعاف دمشق كمركز، تمهيداً للذهاب لاحقاً نحو خيارات أكثر جذرية وأبعد من الفيدرالية»، مع العلم بأن مشروع الفيدرالية لا يزال مشروعاً كردياً فقط، ولا يحظى بدعم أيّ مكوّن عربي أو سوري وازن، ويستبعد أن يحظى بذلك.
وعلى الرغم من ذلك تعتقد رئيسة «الهيئة المشتركة لفدرالية الشمال السوري»، فوزة اليوسف، أن مرور الزمن كفيل بتغيير موقف المعارضين للمشروع الفيدرالي «إذ لا يوجد في سوريا من الكرد والعرب والآشوريين والسريان من يوافق على العودة إلى سوريا ما قبل الأزمة».
لا يغيّر التحاق العديد من أفراد العشائر العربية في الجزيرة، بالأكراد، شيئاً في واقع المعارضة العربية المركزية للفيدرالية. حيث يظهر التطابق بين الدولة السورية ومعارضيها على اختلاف منابعهم في رفض أي نظام فيدرالي في سوريا، إذ أكدت كل وثائق مؤتمرات المعارضة منذ بداية الأزمة على بقاء دمشق مركزاً ومصدراً للسلطات، وهو موقف حاسم بمعزل عن الموافقة على تنوّع في اللامركزية الإدارية للبلاد.
أضف إلى ذلك أن دمشق، وعلى ما قاله وزير الخارجية وليد المعلم أخيراً، تبدي استعدادها للتفاوض مع الكرد تحت سقف «القانون 107» الذي يسمح بإدارة محلية، مع نسخة مطورة من لامركزية إدارية حصراً. وموقف دمشق هذا هو العرض الأسخى من قبلها، إذا ما قدّر لها أن تنفرد بفرض الحل من دون تدخل روسيا، سيما أن القلق ينتاب كثيرين بعد تصريحات الرئيس فلاديمير بوتين، المقلقة، عن مؤتمر ترعاه موسكو في حميميم «لشعوب سوريا»؛ فدمشق تعي جيداً أن المخاطر كبيرة جداً، وتتجاوز الجغرافيا السورية، وأن تقوية الأطراف أو الأقاليم على حساب المركز تتطلب تغييراً جوهرياً في مجمل بنية النظام في سوريا. لا بل إن الأمر يتحول إلى هجوم هدفه إسقاط النظام من الداخل، من خلال تعديل دستوري يرعاه الروس، وتكون نتيجته تسهيل مشاريع القوى الدولية لإنشاء كيانات هشّة من الأقاليم لتتنازع جماعاتها في ما بينها، كما في لبنان، وتمهّد لاستتباعها، بعد أن فشلت حرب الأعوام السبعة في تحقيق ذلك عبر جماعاتها المسلحة، من السعودية وتركيا وقطر والولايات المتحدة .
والقلق سببه ما يجري منذ ستة أشهر حتى الآن، حيث يرعى الروس لجنة من خبراء دستوريين عرب وأوروبيين، تواظب على الاجتماع في أثينا ولندن وجنيف، وتديرها المعارضة السورية رئيسة «حركة المجتمع التعددي» رندا قسيس، بموافقة الخارجية الروسية. وتفيد المعلومات بأن بند الفيدرالية يقع على رأس التعديلات التي يقترحها هؤلاء. وقد يتحول الرهان الفيدرالي إلى بديل من الهجوم الذي استهدف، ولا يزال، منذ آذار 2011 تفكيك المشرق العربي، وتعديل وظيفة سوريا في قلبه، كحاجز تاريخي وجغرافي استطاع صدّ الاحتلال الأميركي في العراق، ومنعه من التقدم في البادية السورية ودمشق ولبنان، كما نجحت سوريا في احتواء موجات الغزو «السلفي» الجديدة، وحافظت على خيار المقاومة وقواها، وفرض معادلة الردع الاستراتيجي مع العدو الاسرائيلي.
استراتيجية الأكراد تقوم على مبدأ مراكمة عناصر القوة وجمع الأوراق، وأمل هؤلاء الوصول الى لحظة التوازن مع الجيش السوري في عمق وادي الفرات، أي خارج أسوارهم التقليدية، وبحماية أميركية على غرار ما جرى في القامشلي والحسكة، واستخدام هذه الوقائع على طاولة النقاش مع دمشق بقصد الحصول على تنازلات منها، في ما خصّ الفيدرالية أو «الإدارة الذاتية».
وكانت «الإدارة الفيدرالية» قد نجحت خلال أربعة أعوام في محاصرة مؤسسات الدولة السورية داخل مربع في القامشلي، وحثّت الخطى في «تكريد» التعليم والأمن والقضاء والخدمات والمنشآت النفطية في الرميلان، وأقامت شبكة من المجالس المحلية نجحت في توفير متعاونين مع الإدارة الكردية، عبر توفير الخدمات، وقاعدة للسيطرة على المجتمع العربي في الجزيرة ومراقبته، وانتقلت إلى إلحاق جيش من العشائر العربية بوحداتها الشعبية التي تضم مقاتلين من عشائر طيّ وشمّر والولدة وعنِزة والشرابين والجبور والبقارة والبكير وغيرها. ومن المفارقات أن المشروع الكردي في سوريا، الذي أخفق إلى حدّ كبير في إثارة هجرة مدينية من التجمعات الكردية الكبرى في دمشق وحلب نحو الكيان الناشئ في الشمال الشرقي السوري، بات يعتمد إلى حدّ كبير في تقدمه على مقاتلين عرب بشكل يفوق اعتماده على الأكراد أنفسهم.
وقد وفّر التوسع العسكري للأكراد في الحسكة والرقة «زبائن» جدداً من العشائر العربية التي لم تجد بعد انحسار الانتشار العسكري السوري من يدافع عنها إزاء التقدم الكردي. وكلما تقدمت «وحدات حماية الشعب» الكردية في المناطق العربية، ازدادت نسبة العرب في صفوفها، في حين يتراجع التجنيد داخل القاعدة الكردية، بسبب الخسائر الكبيرة التي منيت بها «الوحدات» في المعارك المستمرة منذ أربعة أعوام، وهجرة الشباب الأكراد الذين اندفعوا كغيرهم فوق أمواج المتوسط إلى أوروبا. ومن بين 30 ألف مقاتل يعملون مع الوحدات، ارتفع عدد المقاتلين العرب من خمسة آلاف مقاتل عام 2015 (عند تأسيس «قوات سوريا الديمقراطية»)، إلى 13 ألف عربي في عام 2016 من بين 45 ألف مقاتل. ووصل في آب الماضي، بحسب الإحصائية الأميركية، إلى 25 ألف عربي من أصل 50 ألف مقاتل، في القوات التي تتولى قيادتها عناصر كردية فقط، إذ لا يوجد عربي واحد في موقع القيادة أو القرار بسبب آليات انتخاب القادة المعقّدة والطويلة التي يطبّقها «حزب العمال الكردستاني» على فرعه السوري .
وتقول فوزة اليوسف إن «العرب يشكلون 60 في المئة من القوة العسكرية العاملة تحت الإمرة الكردية». وفيما أخفقت دمشق في تقديم استراتيجية واضحة لربط العشائر في الجزيرة بوحداتها المقاتلة، فهي رضخت قبل عام ونصف للمطلب الكردي بحل وحدات «الدفاع الوطني» في المدينة (إثر المواجهات العسكرية) التي لم تزد نسبة الأكراد فيها على عشرين في المئة، وهي تقع في قلب مستطيل من الأرض يمتد على 12 ألف كيلومتر مربع، من جبل عبد العزيز فالشدادي والهول ومركدة، ويشكل فيه العرب أكثرية ساحقة، لا بل يكاد ينعدم فيها أي انتشار سكاني كردي. وذهبت الفيدرالية أبعد من ذلك في عملية دمج العرب داخل مؤسساتها، وسلخهم عن دمشق، إذ يقول خبير دولي «إن مرحلة ما بعد «داعش» ستشهد نهاية التفاهم مع زعماء العشائر، ومجموعات «الجيش الحر» السابق، لتحويل المجموعات العربية الى جيش متماسك، دون أي هامش للاستقلالية، يخضع كلياً للقيادة الكردية».
أما اتساع التباين بين الأجنحة الكردية (الأميركية والسورية)، فلا يزال في بداياته على ما يقوله الخبير الدولي، الذي يصف جوان إبراهيم بأنه «الوجه الأول» الذي طفى باكراً على سطح الصراع داخل الفيدراليين الأكراد، معبراً عن تيار كردي سوري يعمل وفق استراتيجية قصيرة الأمد، تستعجل التوصل إلى مبانٍ مؤسساتية سياسية في الفيدرالية الكردية تحت مظلة الانتشار الأميركي، ويستند في شرعيته إلى التضحيات الكبيرة التي بذلت في عين العرب (كوباني) ومنبج والرقة، والأوراق الكثيرة التي راكمها الأكراد خلال ثلاثة أعوام من القتال إلى جانب القوات الأميركية في سوريا، في الحرب على «داعش».
وينحو هذا التيار إلى انتهاز فرصة وجود الدعم الأميركي المسلح لثبيت مشروع فيدرالي، وتسويره بالقواعد الأميركية التي قد تبقى في الرميلان وعين عيسى، أو مطار المالكية، أو عين عشق في الرقة جنوب عين العرب. وتقول مصادر في المنطقة لـ«الأخبار» إن الأكراد الذين أعلنوا استمرار المعارك، رغم سقوط الرقة وطرد «داعش» منها، يحاولون تأجيل أي قرار أميركي بالانكفاء من المنطقة، قبل أن تستعيد دمشق قدرتها على المبادرة وتتفرغ للملف الكردي على جناحها الشرقي الشمالي. ويقول الخبير الدولي إنه رغم التوقعات بتراجع العمليات، زادت طائرات الشحن العسكري الأميركي رحلاتها باتجاه مطار الرميلان، وتضاعفت عمليات تسليم الذخائر والأسلحة لـ«قسد» استعداداً لمرحلة ما بعد هزيمة «داعش».
والخشية عند هؤلاء الأكراد ناجمة عن تقديرات بألا تذهب الاستراتيجية الأميركية المنتطرة نحو مواجهة مع الجيش السوري، وأن تفضّل واشنطن الانكفاء التدريجي على ما يقوله خبير دولي.
لكن بقاء الأميركيين في سوريا ــ كما يعتقد الأكراد ــ سيمنع الجيش السوري من التقدم لمواجهتهم إذا فشلت محاولات التسوية التي يعدّ لها الروس. ويقول الخبير الدولي إن «الرئيس دونالد ترامب يفضّل البقاء على انتصار في سوريا، وتقديمه كإنجاز يختم انقضاء عام على فوزه في الانتخابات الرئاسية، على تحويل الميدان السوري إلى ساحة مواجهة مع الروس وإيران وحزب الله والجيش السوري». ويضيف أن ترامب «ربما يميل إلى عقد تسوية مع الروس، بدلاً من الانشغال بمواجهة معهم، وهذا ما أسهم في قيام مناطق تخفيف التصعيد في جنوب سوريا، في الاتفاق الذي عقده الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس دونالد ترامب خلال قمة العشرين في تموز الماضي. كذلك لم يتوقف البنتاغون عن تكرار أن التحالف مع الأكراد عسكري ضد «داعش»، وأنه غير معني بالمشاريع السياسية الكردية».
ويقول المختص في الشؤون السورية في جامعة ستانفورد، فابريس بالانش، إن «الأميركيين قد يضخّمون الأرقام العربية للتدليل على وجود عربي وطمأنة السنّة، وإن الاكراد يريدون إطالة المعارك للحصول على المزيد من الاسلحة، وإن الاميركيين لا يملكون أي استراتيجية لما بعد «داعش» سوى البقاء ربما لعام إضافي، كما أن الأكراد أنفسهم لا يمتلكون أي تصور للتقسيمات الفيدرالية، باستثناء فيدرالية الشمال». إن فرضية التغيير في الاستراتيجية الأميركية للبقاء في سوريا لفترة طويلة تحتاج هي أيضاً إلى تغيير في الفريق الذي يقود هذه السياسة. بيد أن مبعوث الرئاسة الأميركية الخاص إلى «التحالف الدولي»، بيرت ماكغورك، والمبعوث الأميركي إلى سوريا، مايكل راتني، يوفّران استمرار سياسة إدارة أوباما السابقة التي تجنّبت الذهاب أبعد من هدف مواجهة «داعش» في سوريا.
تنسيق مع «داعش» لاحتلال مراكز النفط
تحوي آبار حقل العمر النفطي مليار برميل من النفط، أي نصف الاحتياطي السوري. وقد جاءت عملية الاستيلاء عليه من قبل الأكراد لتوضح أكثر صورة التوجهات الأميركية والكردية على السواء، بمنع الجيش السوري من الاستيلاء على «وادي الفرات المفيد»، وتركه يتقدم في التجمعات السكنية الكبرى لاستنزافه في المواجهات مع «داعش»، والاستفادة من اندفاعاته وإشغاله لـ«داعش»، من أجل الاستيلاء على المرافق الحيوية حول الفرات. وأحياناً يتم ذلك حتى بتواطؤ مع «داعش»، وفي إطار الشق النفطي من الصفقة التي عقدها الطرفان في مدينة الرقة لإخلاء المدينة من مقاتلي التنظيم، وتأمين انسحاب آمن لقياداتهم.
ويتّهم «المرصد السوري» المعارض الأكراد و«داعش» بالتواطؤ ضد الجيش السوري في المعارك، من أجل الوصول إلى الحقل الاستراتيجي، إذ قال إن «تنظيم «داعش» لا يكاد يفوّت فرصة واحدة لتوجيه صفعات مؤلمة لقوات النظام، قابلها في الوقت نفسه بانسحابات متتالية على الجبهات مع قوات سوريا الديمقراطية». وبينما كان «داعش» يشنّ هجمات مضادة تمنع الجيش السوري من دخول حقل العمر النفطي، كانت «قسد» تستولي على الحقل من دون مقاومة.
فشل «الخيار العربي» لأميركا
موجبات التغييرات الكبيرة في استراتيجية واشنطن تجاه الأكراد مردّها انهيار الفصائل المسلحة العربية، من «الجيش الحر» الذي لم يصمد أمام الجيش السوري منذ انهيار شرق حلب قبل عام، ولم يعد من الممكن الاعتماد عليه في أي استراتيجية أميركية لمواجهة إيران ومحور المقاومة أو إبطاء تقدم الجيش السوري، بعد أن فقد معاقله كافة في سوريا، كذلك عجزها عن إقامة منطقة عازلة في الجنوب السوري لحماية مصالح العدو الإسرائيلي.
وما تبقى من الفصائل موجود في جيوب معزولة ومحاصرة، من ريف حمص الشمالي إلى درعا وأريافها الغربية والشرقية، وصولاً إلى القنيطرة وأجزاء من الغوطة الشرقية، بينما ينحصر وجودها في ثلاث قرى فقط من القلمون الشرقي.
وفضلاً عن عزلتها وتسويرها بإجراءات «تخفيف التصعيد»، لم تعد لتلك المجموعات أيّ قدرة على شنّ هجمات مضادة انطلاقاً من جيوبها المتفرقة. وهو ما دفع الاستخبارات الأميركية إلى استخلاص الدروس لفشلها «العربي» في سوريا، وإغلاق برنامجها التسليحي لتلك المجموعات. وعندما يتقرر عدم رفد ألف جندي أميركي موجودين في سوريا بالمزيد من القوات البرية، فسيكون الأمر بمثابة مغامرةٍ إن جرى الاعتماد على مجموعات صغيرة لا يزيد عددها على 6600 مقاتل تم إعدادهم في الأردن، إذ كان على هؤلاء إدارة مسرح عمليات تبلغ مساحته أكثر من خمسين ألف كيلومتر مربع، وهذا كله قبل عودة الجيش السوري إلى وادي الفرات، ما يشرح سبب ربط الأميركيين استراتيجيتهم بالأكراد دون سواهم.
الأخبار
غلبت إيران الكرد… فهل تعوّم واشنطن بارزاني؟/ جورج سمعان
لا يفيد اليوم توجيه كل السكاكين نحو مسعود بارزاني. ولا تفيد العراقيين العرب الإشادة كثيراً بخطوة قيادات طالبانية اختارت الرضوخ لتهديدات الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس»، وتسليم كركوك بلا قتال. الكرد عموماً أصيبوا بنكسة كبيرة لن يطويها النسيان، وبمرارة عميقة مما ألحقت بهم إيران. «حلم الاستقلال» سيظل يراودهم. فهذه لم تكن التجربة الأولى ولن تكون الأخيرة. سيحملون مرارات وضغائن حيال زعمائهم وحيال القوى الإقليمية والدولية التي شعروا بأنها لم ترحمهم أو تقيهم هذه الهزيمة المذلة. لن يوفروا أحداً من المسؤولية عما آل إليه الوضع. طهران أول المنتصرين وحيدر العبادي أيضاً، وأنقرة وجميع الذين عارضوا إجراء الاستفتاء. خسر الحزبان الكرديان الكبيران الجولة. ما حدث وجه ضربة موجعة إلى كل قوى الإقليم وأحزابه. لن يخرج حزب منتصراً على آخر. طويت الآن صفحة الاستفتاء وإن ظلت نتائجه حاضرة في وجدان غالبية الكرد. بات من الماضي. لم يعد شرطاً للحوار بين أربيل أو الكرد عموماً وبغداد. صفحة جديدة تفتح، بل خريطة جديدة ترسم في الإقليم والعراق عموماً.
خريطة كردستان ستكون موضع تساؤل. وربما طاولتها تغييرات بعد هذه النكسة. فبغداد تشعر بأنها حققت ما لم تحققه الأنظمة والعهود السابقة. والانقسامات تعصف بالصف الكردي الذي يجد نفسه أمام تحدٍ كبير لتحاشي الحرب الأهلية مجدداً بين أحزابه وقواه المختلفة. ما يحتفل به عرب العراق في سرهم أن أكراده لم يكونوا مختلفين عنهم. يكفي شاهداً استعادة ما تتبادله القوى الكردية ذاتها، من سنيتن وأكثر، من اتهامات بسوء الإدارة والاستئثار بالسلطة والاستبداد والفساد والمحسوبية ونهب المال العام والنزاعات العشائرية والمناطقية والعائلية، والتنافس بين أربيل والسليمانية وما حصل من تدخلات خارجية قديماً وحديثاً… لم تكن حسابات مسعود بارزاني دقيقة وصائبة، خصوصاً بإصراره على شمول الاستحقاق كركوك والمناطق المتنازع عليها. لم يتعلم من التجارب السابقة. أخذه الغرور وحلم الزعامة بعيداً من الواقع فاصطدم بجملة من الإرادات المحلية والإقليمية والدولية التي حذرته وناشدته تأجيل الاستفتاء. اطمأن قبل أسابيع من الاستحقاق إلى مواقف لم تبدُ متشددة. كان كثير منها من باب التمني أو التذرع بأن الوقت ليس مواتياً. وربما استبعد لجوء بغداد إلى استخدام القوة في ظروف دقيقة يخوض فيها الجيش و «الحشد» حرباً على «داعش». واعتقد بأن نتيجة الاستفتاء ستخلق وضعاً جديداً.
راهن بارزاني بالتأكيد على علاقاته التاريخية مع الأميركيين المنتشرين في قاعدة قرب كركوك، والذين قد لا يسمحون بشن حرب على الإقليم بعد مساهمته الكبيرة في التصدي لـ «تنظيم الدولة». ولكن تبين لاحقاً أنهم لم يحركوا ساكناً وهم يشاهدون تقدم الجيش و»الحشد» نحو المدينة ومناطق أخرى. التزم الرئيس دونالد ترامب كلامه. التزم «الحياد» في الصراع. وأغمض عينيه عن جولة الجنرال سليماني ودوره! ترك رئيس الإقليم وحيداً كأنه يعاقبه لعدم سماعه نصائح واشنطن. أو لعله تحاشى إعاقة مشاركة «الحشد» في الحرب لاقتلاع «دولة الخلافة»، ورغب في رفع رصيد العبادي بمواجهة خصومه. أدرك بارزاني خطورة الموقف عشية الاستفتاء بعدما تصاعدت لهجة التهديدات من جانب طهران وأنقرة. وأيقن أن حساباته قد تخطئ ولكن… لات ساعة مندم. كان الأوان قد فات. لم يعد بمقدوره التراجع، لأنه وضع مستقبله السياسي رهن الاستفتاء. وكذلك كان موقف الهيئة العليا التي أشرفت على هذا الاستحقاق. كان التراجع سيشكل انتكاسة كبيرة.
المشكلة الآن هي في الحوار أو التفاوض بين بغداد والقيادة الكردية. والسؤال الكبير هو من سيمثل الكرد في التفاوض مع الحكومة المركزية؟ من سيكون شريكها الذي يتمتع بشرعية التمثيل، وبالحضور على الأرض؟ «حركة التغيير» الكردية وقيادات وأعلام ونخب من مختلف الأطياف في العراق تطالب باستقالة بارزاني. وبعضها لا يعده رئيساً للإقليم بعدما انتهت ولايته قبل سنتين. ولا السليمانية، العاصمة الثانية للإقليم، توالي خلفاً أو وريثاً وحيداً لجلال طالباني الرئيس العراقي الراحل وزعيم الاتحاد الوطني. ولا يعقل أن يمثل الإقليم القادة الميدانيون الذين فاوضوا قيادات عسكرية من القوات العراقية و «الحشد الشعبي» والجنرال سليماني، واتخذوا قرار الانسحاب من كركوك. فهؤلاء، كما تؤكد قيادات سياسية كردية، لم يستشيروا حكومة أربيل أو مسؤولين في الاتحاد قبل اتخاذ هذه الخطوة. ولكن ثمة من لا يلومهم على فعلتهم، وإن كان أهل كركوك من الكرد أغاظهم ما حصل وهم ناقمون عليهم، بعد الذي تعرضوا ويتعرضون له على أيدي الميليشيات. فقد كان سليماني واضحاً في لقائه معهم. حذرهم من أن بغداد ستستعيد بالقوة مدينة كركوك والمناطق المتنازع عليها ما لم تنسحب «البيشمركة» إلى الحدود التي رسمت بعد 2003 وقبل إعلان «دولة الخلافة» منتصف عام 2014. فهل تلقى قبولاً دعوة برهم صالح الذي خرج من الاتحاد الوطني، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات برلمانية في الإقليم لإدارة الحوار مع الحكومة المركزية؟ وهل تغلب الحكمة في بغداد وطهران قبلها فلا تبالغان في تعميق مرارة الكرد الذين لن تثنيهم خسارة ولن يرضخوا طويلاً لمبدأ القوة والقهر؟ غُلبوا ولكن… إلى حين!
وثمة سؤال آخر يتعلق بقضايا الحوار أو التفاوض بين الطرفين. إن نقاط الخلاف بينهما التي استندت إليها القيادة في أربيل لتبرير تصميمها على الانفصال لم تعد قائمة. حقول النفط التي كان الحزب الديموقراطي الكردي يستغلها عادت إلى سيطرة بغداد. وتعهد العبادي بأن حكومته ستتولى مباشرة دفع الرواتب المقطوعة عن الموظفين في الإقليم. أما المادة 140 الخاصة بكركوك والمناطق المتنازع عليها فلم تعد لها قيمة، بعدما استعادت السلطة المركزية هذه المناطق. قد تبقى الترتيبات في المدينة النفطية كما كانت في السابق. أي أن المحافظ سيبقى من حصة حزب الاتحاد الوطني. لكن المدينة باتت تابعة لبغداد مباشرة. فلا إدارة مشتركة بانتظار التطبيع والاحصاء فالاستفتاء عليها كما نص الدستور، ولا عودة لجند الإقليم إليها. أما إمكان قيام إقليم جديد بضم كركوك إلى السليمانية إضــافة إلى حلبجة فقرار لا يبدو منطقياً. فهل تتخلى بغداد عن مدينة كادت أن تقع حرب واسعة لاستعادتها من الكرد؟ علماً أن حلبجة أيضاً يحكمها الإسلاميون، فهل يرضـــخون لسلطة الاتحاد الوطني إذا كان هناك من يرغب في مكافأة بعض قادته الذين تمردوا وتقاسموا إرث طالباني؟
مُني الكرد عموماً، حلفاء بارزاني وخصومه، بنكسة كبيرة. إعادة تموضعهم تبعاً للتطورات الأخيرة ستستغرق وقتاً. ولن تمر بسهولة بلا آلام ومزيد من الخسائر. لقد ربح سليماني وحلفاؤه من القوى الشيعية وعلى رأسهم نوري المالكي الذي كان أكثرهم تشدداً وإحراجاً للحكومة. لكن العبادي كسب أيضاً معركة ثانية ستعرقل خطة خصومه لإزاحته من موقعه في الانتخابات البرلمانية الربيع المقبل. حقق حتى الآن هدفين رئيسيين في شباك منافسيه: كسب أولاً الحرب على «تنظيم الدولة» الذي قام في عهد زعيم «دولة القانون»، وسيطر على مساحات واسعة من أراضي العراق. وأنقذ ثانياً وحدة العراق من التقسيم من دون أن يخوض حرباً في سبيل ذلك. علماً أن المالكي مارس ضغوطاً من أجل استعادة ما أخذ الكرد بعد قيام «داعش» من أراضٍ لم يكن من الحكمة الاستيلاء عليها. وهدد وتوعد وأشرك «حشده» في الأحداث الأخيرة. فهل تتخلى عنه طهران هذه المرة كما فعلت عام 2014، بعدما بدا ورقة خاسرة، وبعدما ارتأت ألا تخاصم المرجعية في النجف وقوى شيعية بدأت اليوم تتمرد على قبضتها؟ علماً أن هذه القبضة تعززت بعد الأحداث الأخيرة. وأظهرت إيران في إدارتها الصراع في العراق أن لها اليد الطولى بلا منازع. ولا يعرف كيف سيتصرف الرئيس ترامب الذي قدم استراتيجيته القاضية بتقليم أذرع «الحرس الثوري» في المنطقة العربية، ويبحث عن دور لشركائه في الإقليم. فهل تتخلى إدارته عن تحالفها التاريخي مع بارزاني الذي لا يزال يتمتع بزعامة في كردستان، على رغم النكسة؟ هل تعمل لإعادة تعويمه بدل أن تتركه وحيداً بمواجهة حلفاء الجمهورية الإسلامية؟ وأي معنى بعد ذلك لاستراتيجية واشنطن الجديدة؟
حتى أنقرة التي كسبت هي الأخرى باستعادة كركوك من أيدي الكرد، هل تطوي صفحة اعتمادها على بارزاني بمواجهة حزب العمال الذي سيكون المستفيد الأول إذا انهارت الأوضاع في كردستان؟ تركيا تعتبر مدينة كركوك (وليس المحافظة) مدينة تركمانية. وكان لافتاً تحذيرها حكومة بغداد من استمرار المشاكل إذا لم تبادر إلى إصلاح الانتهاكات الديموغرفية. لا يعرف كيف ستترجم هذه التهديدات، في ظل هذا الانتشار الكبير للجيش العراقي، و«الحشد الشعبي» الموالي لإيران؟
أثبتت أحداث كردستان أن الوقت لم يحن لتغيير الخريطة الإقليمية التي رسمها فرنسوا جورج بيكو ومارك سايكس. ثمة إجماع للدول الكبرى والدول الإقليمية الفاعلة، من عرب وترك وإيرانيين على التمسك بالحدود القائمة. أقصى ما تطمح إليه المكونات المتصارعة في أكثر من بلد عربي هو القبول بتغيير حدود داخلية في إطار فيديرالية أو مركزية موسعة أو صيغة اتحادية، مهما أوغلت السكاكين في تشريح الدول الوطنية. لا وقت للعالم الذي يعارض موجة الإنفصال في أوروبا للانشغال بمشكلات وحروب لا تنتهي في الشرق الأوسط، بل قد تتفاقم بقيام دويلات هنا وهناك.
الحياة
عن مغامرة مسعود بارزاني…/ خيرالله خيرالله
يشكّل تراجع الاكراد عبر اقتراح يقضي بـ”تجميد” نتائج الاستفتاء، خطوة الى امام. هناك اعتراف بالهزيمة المؤقتة غلّفتها دعوة كردية الى الحوار والى العودة الى نصّ الدستور العراقي والاحتكام اليه. يأتي ذلك في وقت تبيّن بوضوح ليس بعده وضوح ان الانتقال الى الاستقلال لا تزال دونه عقبات كثيرة في مقدّمها رفض كلّ الدول المحيطة بكردستان قيام دولة كردية. كلّ ما تطلبه دول الجوار وحكومة بغداد من الاكراد هو الاستسلام واعتبار الاستفتاء وكأنّه لم يكن، علما انّه كان وانّ نتائجه معروفة.
اكتشف اكراد العراق اخيرا، خصوصا رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني، انّ الظروف الراهنة غير مواتية للاستقلال. حصل تراجع، خصوصا بعد الذي حصل في كركوك التي كانت ولا تزال قنبلة موقوتة على الصعد العراقية والكردية والاقليمية. السؤال ما الحدّ الذي يمكن ان يبلغه التراجع الكردي في وقت ليس من يريد الالتقاء مع الاكراد في منتصف الطريق وإنقاذ ماء الوجه لرئيس إقليم كردستان. على العكس هناك من يريد الانتهاء من الرجل. أسوأ ما في الامر انّ هناك اكرادا يريدون ذلك ويعملون لأجله. هنا أيضا اخطأ بارزاني في سوء تقديره لوزن المعارضة الكردية، وهي معارضة لشخصه اكثر بكثير مما هي معارضة لمشروعه.
الدليل على ذلك، انّه لم يبرز ايّ اعتراض كردي على لفّ جثمان الرئيس جلال طالباني الذي يمثّل الاكراد الآخرين، في معظمهم طبعا، بالعلم الكردي وليس العلم العراقي. حدث ذلك لدى إعادة هذا الجثمان الى ارض كردستان بعيد الاستفتاء حيث دفن احد رموز النضال الكردي في السنوات الستين الماضية. لُفّ جثمان طالباني بالعلم الكردي، علما انّه بقي سنوات طويلة رئيسا للجمهورية العراقية وكان يمارس صلاحياته من بغداد وليس من السليمانية او أربيل او ايّ مكان آخر من كردستان.
كانت حسابات بارزاني خاطئة الى حد كبير، في مجملها، بعدما تبيّن له ان الموقف الاميركي من النوع الذي لا يمكن الاعتماد عليه. هذا عائد الى أسباب عدة في غاية التعقيد. كذلك، تبيّن الى اشعار آخر، ان دعم إسرائيل ليس كافيا كي تنحاز واشنطن للاستقلال الكردي وتدافع عن الاستفتاء ونتيجته.
اختار مسعود بارزاني السير الى النهاية في الاستفتاء على الاستقلال على الرغم من كل الإشارات التي تلقاها عن التحفظات الاميركية وعن الموقفين الايراني والتركي. اختار هذا الطريق الصعب تفاديا للانتحار السياسي بعدما اعتبر، من خلال تجربة استمرّت سنوات عدّة، ان لا مجال لشراكة مع الحكومة المركزية في بغداد في ظلّ الدولة الدينية التي نجحت ايران في اقامتها في العراق بعد سقوط نظام صدّام حسين في العام 2003.
لا شكّ انّ عوامل عدّة جعلت بارزاني يصرّ على الاستفتاء. من بين هذه العوامل ضمور عائدات الدولة العراقية من النفط وترسيخ دور “الحشد الشعبي” بصفة كونه العمود الفقري للنظام الجديد في العراق وللدولة العراقية، وهو دور ترافق مع استمرار الانقضاض الايراني على مؤسسات الدولة العراقية، او ما بقي منها. لعبت عوامل عدّة دورا في اقناع بارزاني وعدد كبير من الشخصيات الكردية بانّ لا بديل من الاستفتاء في ظلّ التغييرات التي تشهدها المنطقة كلّها بعد مرور قرن كامل على سايكس- بيكو.
ما يمكن قوله الآن انّ الاستفتاء حصل وان نتيجته واضحة. من الصعب الغاء النتيجة ولكن هل في بغداد وطهران وانقرة من يبحث عن مخرج من ازمة ما بعد الاستفتاء الكردي، وهي ازمة كردية اوّلا.
في ظلّ موازين القوى الراهنة، سيكون من الصعب إيجاد مخرج، لكن السؤال الملحّ الذي سيظل يطرح نفسه ماذا اذا تغيّر في موازين القوى القائمة التي مكّنت “الحشد الشعبي” من طرد قوات البيشمركة من كركوك؟ اثبتت ايران من خلال ما شهدته كركوك انّها اللاعب الأساسي في العراق وانّ لا وجود لمن يريد التصدّي لها، خصوصا بعدما تجاهلت الإدارة الاميركية الدور الذي لعبه “الحشد” في كركوك، وقبل ذلك في الموصل، بقيادة اللواء قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الايراني.
من الصعب التكهّن بما اذا كانت ستحصل استجابة للتراجع الكردي. لكنّ من السهل التكهن بانّ هناك من يريد التخلّص من مسعود بارزاني. من الواضح ان بغداد غير بعيدة عن هذا التوجّه بتشجيع إيراني مباشر. ففي موازاة الكلام الكبير عن استعدادات للجيش العراقي و”الحشد” للقضاء على آخر معاقل “داعش” في الأراضي العراقية، هناك مصادر ذات اطلاع واسع تؤكّد ان الهدف الحقيقي للجيش العراقي و”الحشد” هو ممارسة مزيد من الضغط العسكري وغير العسكري على أربيل.
هذه ليست المرّة الاولى التي يجد فيها الاكراد نفسهم في وضع لا يحسدون عليه. عاد عليهم ارتباطهم بالدعم الايراني في أيام الشاه بكارثة. كان ذلك في العام 1975. كان كافيا توقيع شاه ايران وصدّام حسين اتفاق الجزائر الخاص بشط العرب في آذار – مارس من تلك السنة، حتى انهار التمرّد الكردي الذي قاده الملّا مصطفى بارزاني.
لن يعيد التاريخ نفسه في العام 2017، لكنّ الثابت ان على الاكراد تقديم مزيد من التنازلات في الظروف الراهنة. هناك استغلال الى ابعد حدود لنقاط الضعف لدى مسعود بارزاني. تستغل نقاط الضعف حكومة حيدر العبادي، الذي عليه اظهار انّه ليس رجلا مفلسا كما يحاول ان يصورّه غريمه نوري المالكي. كذلك تستغلّ نقاط الضعف لدى بارزاني كل من ايران وتركيا. معروف ان ايران تريد ان تثبت في كلّ يوم انّها اللاعب الأساسي في العراق وانّ الورقة العراقية في جيبها، في حين ليس سرّا ان اكثر ما يخيف تركيا هو فكرة الدولة الكردية المستقلّة.
كان الاستفتاء الكردي مغامرة غير محسوبة. ربّما كان ذلك عائدا الى ان مسعود بارزاني لم يقرأ الخريطة الإقليمية وخريطة الانقسامات الداخلية الكردية والموقف الاميركي جيّدا. ربّما أيضا قرأ كلّ ذلك جيّدا. وحدها الايّام ستظهر هل كان الاستفتاء الذي عبّر الاكراد من خلاله عن حقيقة ما يتطلّعون اليه غير قابل للتأجيل؟
في كلّ الأحوال، مارس مسعود بارزاني لعبة كبيرة سيتبيّن قريبا هل في استطاعته الاستمرار فيها… ام عليه في مرحلة معيّنة التفكير في التنحي. الكثير سيعتمد على ما اذا كانت موازين القوى الإقليمية باقية على حالها ام لا. هل لدى رئيس إقليم كردستان معطيات لا يعرفها احد غيره جعلته يذهب الى النهاية في مغامرته؟ هل المسألة مسألة وعود أميركية لم ينفّذ شيء منها؟
الأكيد ان الاكراد يستأهلون دولة خاصة بهم. ما ليس أكيدا هل كانت الظروف الراهنة تسمح بمغامرة من نوع تلك التي خاضها مسعود بارزاني…
العرب
وداعا كاكه مسعود/ إبراهيم الزبيدي
إن الإعلان الرسمي الكردي عن مغادرة مسعود البارزاني قصر الرئاسة في كردستان بعد أيام يضع النهاية المؤلمة ليس لسجله السياسي الشخصي فقط، بل للزعامة البارزانية التاريخية أيضا، وقد يصبح بداية العد العكسي لعمر الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي احتكر السلطة زمنا ليس بالقصير.
هذه الزلازل التي حدثت لكردستان العراق، والزلازل المقبلة إليها في قادم الأيام، من انحسار وتدهور وفقد حقيقي للاستقلال “الواقعي” الذي تحقق لها في العقدين الماضيين، مع احتمال فقدانها الحكم الذاتي الذي حصلت عليه من الرئيس الراحل صدام حسين الذي يشتمه الأكراد ليل نهار، لم تكن لتحدث لو كان العراق دولة سوية مثل دول العالم العاقل، هيبتها محترمة، وحدودها وسيادتها، وحقوق أهلها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية محفوظة، وقضاؤها عادل ومستقل ينصف المتظلمين والمتضررين، ودستورها مكتمل الصحة والعافية وغير ملغّم بالقنابل والمفخخات، ومحمي ببرلمان فاعل وقويّ ومؤتمن، ورئاسة جمهوريتها ووزرائها مهيبة، وجيشها قويّ متماسك محتفظ بوحدته الوطنية التاريخية المتوارثة.
لكن رؤساء أحزاب الجبهة الكردستانية، ومسعود قائدهم، وقادة أحزاب حلفائهم الإسلاميين الموالين لإيران، وحزب الدعوة زعيمهم، وعلي خامنئي وليّهم، نكثوا بوعودهم أيام المعارضة السابقة، فاقتسموا الوطن مناصفة، ودفنوا أمل العراقيين في أن يكون النظام الذي يخلف دكتاتورية صدام ديمقراطيا يحقق العدالة والمساواة لجميع المواطنين، بجيش واحد وحكومة واحدة ترفض وصاية رجل الدين أو رئيس القبيلة، وتمنع إنشاء الميليشيات ومحاصصة التحاور بالمفخّخات.
قبضة واهية
الحقيقة أن مصائب الوطن العراقي كلّها، من يوم ظهور داعش وحتى اجتثاثه وتحرير آخر الوطن من شروره، وخسائر كردستان أهمّ بعضها، من صنع فرد واحد أركبه على ظهور العراقيين الثلاثة: إبراهيم الجعفري وزلماي خليل زادة سفير أميركا في العراق يومها وضابط ارتباط المخابرات الأميركية في العراق.
وإليكم الحكاية كما رواها زلماي نفسه لصحيفة نيويوركر الأميركية.
غضب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن على إبراهيم الجعفري بسبب تردده وفشله وضعف شخصيته وتخلفه. سأل الرئيس الأميركي سفيره زلماي “ألا يمكن التخلص من الجعفري؟” أجاب السفير “نعم، ولكن الأمر لن يكون سهلا”.وقد كان الجعفري رافضا، بإصرار، أمر الإقالة الأميركي.
ولكن السفير البريطاني في العراق دخل عليه وبيده حقيبة سوداء، وأمره بالاستقالة، ولكن الجعفري استشاط غضبا، وكرر إصراره على عدم الاستقالة، ففتح السفير الحقيبة وعرض عليه وثائق بريطانية رسمية تفضح كونه لاجئا سياسيا في بريطانيا قبض، وهو رئيس وزراء العراق، مساعدات مالية وخدمات. وقال له “إن لم تغادر، فورا، فسأعطي الصحافة هذه الوثائق”. عندها احمرَّ وجه الجعفري واصفرّ، وتصبب عرقا، ووافق على الاستقالة مرغما، ولكن بشرط أن
يخلَفه واحد من حزب الدعوة، ورشح علي الأديب.
رفض زلماي تكليف الأديب، بعد أن اكتشف أن والده إيراني لم يغادر إيران.
قال، شاكيا، لزائره مسؤول محطة المخابرات الأميركية “سي آي إيه” في العراق “هل يعقل ألا يكون في بلد الثلاثين مليونا مرشح واحد لرئاسة الحكومة سوى واحد ضعيف كالجعفري، وإيراني كالأديب؟”.
فردّ ضابط الارتباط بالقول “لديّ مرشح لك اسمه نوري المالكي”.
وفي ليلة اليوم التالي وخلال مأدبة عشاء في السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء، سأل السفير الأميركي نوري المالكي، هل تريد أن تصبح رئيسا لوزراء العراق؟ ويقول زلماي إن وجهه امتقع، وخاف وارتبك، ثم كانت الواقعة.
ورغم أنه أثبت فشله، في فترة رئاسته الأولى وظهر فسادُه وطائفيته وجهله بالسياسة والقيادة فقد فرضه مسعود البارزاني باتفاق سري بينهما في أربيل 2010، رئيسا للوزراء فترة ثانية.
وعرفانا بفضل الأكراد عليه أغمض نوري المالكي عن أحزاب الجبهة الكردستانية، وعن مسعود البارزاني بشكل خاص، وسمح لهم بحلب الدولة ونهب أموالها وتخريب وزاراتها وسفاراتها حين كان محتاجا لسكوتهم عن فساده، ولتطنيشهم عن عمالته وحملات ظلمه وانتقامه من خصومه السياسيين السنّة والشيعة، إلى أن اختلفت المصالح وتصادمت الأهداف وتفجرت نوازعه الدكتاتورية وحبه المَرَضي للهيمنة، فمارس ضدهم كل أنواع الانتقام ردّا على إحسان واعترافا بجميل.
هنا فقط أدرك مسعود وشركاؤه في الجبهة الكردستانية خطيئة التحالف معه، وراحوا يشتمونه ويلعنون الساعة التي عرفوه فيها، ويتباكون على الوطن والمواطنين ويتآمرون لعزله بأيّ وسيلة وأيّ سبب، إلى أن أسقطوه، و“أجازوا” ترئيس قيادي آخر من حزب الدعوة مكانه، هو حيدر العبادي ولكن بعد فوات الأوان.
وكمن يهرب إلى أمام حكمت المآزق والاحتقانات الداخلية والخارجية المتلاحقة على مسعود البارزاني بركوب الصعب والمقامرة بمستقبله السياسي وبمصير كردستان ذاتها، على أساس “فإما حياة تَسرُّ الصديق وإما مماتٌ يَغيظ العدا”، فقرر مكاسرة الحكومة المركزية ومحاصرة خصومه في حزب جلال الطالباني وحركة التغيير بالاستفتاء وبالتلويح بالانفصال ليجد نفسه وحيدا في النهاية مأمورا بالرحيل غير مأسوف عليه.
شيء واحد حققه مسعود قبل رحيله المحتوم وهو أنه ذبح نظام المحاصصة من الوريد إلى الوريد، ونَسَف النظام “الفيدرالي” المغشوش من جذوره، وجعل العراق كله مستعمرة واحدة موحدة ملحقة بدولة الولي الفقيه، ولو كره الكارهون.
كاتب عراقي
العرب