عن الملل من سوريا والسوريين: عمر قدور
عمر قدور
بعد مضي أكثر من سنتين من المرجح أن تكون المقتلة السورية قد فقدت “سخونتها” بالنسبة إلى الكثيرين في الخارج، وعلى الرغم من عدم توفر إحصائيات عن عدد متابعي الحدث السوري الآن وقبل سنتين أو أشهر إلا أن التكهن لن يكون عسيراً جداً، إذ من المتوقع استنكاف نسبة لا بأس بها عن المتابعة وحتى التأفف من تركيز بعض المحطات الإخبارية هذا الروتين “القتل”. في الواقع كان بعض المحطات العالمية الكبرى سباقاً في تجنيب المشاهدين تبعات الملل، فمحطة مثل الـ CNN تضع خبراً عن جريمة قتل محلية في المرتبة الثالثة، ولا يحظى حوالي مئة قتيل سوري بإشارة صغيرة في تلك النشرة. محطة BBC الناطقة بالعربية تكتفي بشريطها الإخباري بسبعة عشر قتيلاً في سوريا طوال اليوم، نقلاً عن مصادر معارضة لا تجتهد في تحديدها، ولا تكلّف خاطرها تجديد الرقم الذي وصل إلى ستة وسبعين، ولربما سيظن بعض المشاهدين أن منسوب القتل تراجع فينام مطمئناً إلى ذلك.
كانت المقولة الشهيرة للإعلام النازي: “اكذبْ ثم اكذبْ حتى ينسى الناس أنك كاذب”. ولعل العديد من الأحداث يحيلنا إلى تطبيق جديد لها “اقتلْ ثم اقتلْ حتى ينسى الناس أنك مجرم”، فلم يثبت أن تكرار مشاهد القتل قد أدى إلى استثارة مزيد من التعاطف أو ردود الأفعال، بل أدى غالباً إلى التعايش معها، ومن ثم التململ منها لأنها لم تعد تقدّم مادة بصرية مدهشة، ثم يكون من واجب تلك المحطات التجاوب مع متطلبات جمهورها وتنحية الخبر الذي لم يعد أولاً من حيث الاهتمام لصالح فضيحة جنسية لنائب في برلمان ما، على سبيل المثال، وإلا استخدم المشاهد سلطة الريموت كونترول.
الأمر مختلف قليلاً من جهة الجوار السوري، فموظفو الحدود في دول الجوار سئموا ضغط الطوابير التي يتسبب بها النازحون، وباتوا في حنين إلى أيام العمل الروتينية، ولا بأس في أن ينعكس الضغطُ سوءاً في المعاملة، فهذا مرده فقط إلى الاعتياد على المناظر الحية من البؤس. وليس بعيداً أيضاً أن يقدّر موظف الحدود الكارثة التي يتسبب بها أولئك له ولأقربائه في الداخل، فالإيجارات ارتفعت إلى حد غير مسبوق، والأسعار عموماً صارت لا تطاق، وهناك الـ”ترافيك” الذي يشكو منه المواطنون، فالوافدون يتحركون كثيراً أيضاً؛ بعضهم بسبب الملل وبعضهم الآخر بحثاً عن فرصة عمل يقتنصها من أبناء البلد.
السوريون أنفسهم خبروا هذا الأمر من قبل، وسبق لهم تبادل الشكاوى من آثار وجود مليوني لاجئ عراقي في سوريا، وأصحاب العفة منهم تشكّوا مما أشيع عن وجود شبكات دعارة وافدة، إذ لا يُعقل دخول هذا الرقم الكبير من دون متممات كهذه. أبعد من ذلك خبر السوريون مأساة الفلسطينيين، ومع أن الأخيرة عُدّت دائماً قضية سورية إلا أنه لا يمكن تصور عموم السوريين وهم مشدودون إلى متابعة أخبار الجرائم التي لم تتوقف إسرائيل عن ارتكابها طوال عقود. أما مجازر مثل التي حدثت في رواندا وبوروندي، أو البوسنة والهرسك وكوسوفو، فقد مرت من دون انتباه الكثيرين أو اكتراثهم، أو من دون أن تستثير حداً ملحوظاً من التعاطف الإنساني.
ثم لا يمكننا تجاهل أن الفضول إزاء السوريين قد أُشبع، وبعد أن كانوا شعباً مجهولاً تحت حكم الديكتاتورية صاروا مكشوفين جداً في أثناء الثورة، وسرعان ما تم تنميطهم بين ضحايا وأصحاب لحى ومجالس معارضة فاشلة، وسيكون عسيراً عليهم الخروج من فخ التنميط الذي يمنح الراحة لأذهان الآخرين. وليس مستبعداً دائماً أن يؤدي الإشباع إلى النفور، ويأخذ الأخير مسلك الانتقام اللاواعي، وغالباً مسلك الانتقام من الضحية لأنه السبيل الأسهل لإراحة الضمائر والانتقال إلى اهتمامات كانت لتُصنّف أدنى شأناً، لكنها بالتأكيد أكثر إمتاعاً وأقل ثقلاً على الأعصاب.
أن يذهب شعب يومياً إلى الموت، أو أن يأتيه الموت في البيوت والأزقة، فهذا سيقترب من القدر التراجيدي، وقد يُنظر إليه كشعب لا يتقن سوى أن يُقتل، وكم سيكون مملاً على العموم متابعة مادة بصرية عن سيزيف وهو عبثاً يدحرج الصخرة إلى الأعلى المرة تلو الأخرى؟
بانتظار أن يتمكن سيزيف من الوصول إلى القمة، علينا أن نقتنع بأن مشاهدة أنجلينا جولي وهي تستعرض مهاراتها القتالية وتقضي على خصومها في الأفلام أكثر تشويقاً من رؤيتها في مخيمات النازحين السوريين.
المدن