عن تحولات العنف: الإرهاب المعاكس أو إرهاب الدولة/ بدرالدين عرودكي
نُقِلَ عن علي صالح السعدي، نائب رئيس الوزراء العراقي الذي كان يزور دمشق غداة انقلاب الثامن من آذار/مارس 1963 ، بعد الانقلاب الآخر في العراق يوم الثامن من شباط/فبراير من العام نفسه، أنه قال وقد رأى الهدوء يسود شوارع العاصمة: «ماكو دم؟ ماكو ثورة!». ابتسم السوريون الذين سمعوا هذا التعليق. وتبادلوا فيما بينهم الحديث عن «عنف» العراقيين الدموي حين لم يرضوا بأقل من سحل الشيوعيين في شوارع بغداد والمدن العراقية بعد إسقاط وقتل عبد الكريم قاسم، وعن الطريقة السلسة اللينة التي تم فيها الانقلاب في سوريا على السلطة التي حققت الانفصال وحاولت نظاماً ديمقراطياً يستعيد سنوات ماقبل 1958.
لكن هذا العنف الذي كان السوريون يتبرؤون منه آنئذ لم يكن عراقياً ولا وقفاً على العراقيين. فلم تكن الصورة آنئذ سريعة الانتشار كما هي عليه اليوم، وما كان بوسع أحد على كلِّ حال، في سوريا أو في سواها من بلدان العالم العربي، أن يتنبأ بما سيكون عليه «العنف» في قادم الأيام. ولن يطول الزمن الذي سيكتشفون فيه أن هذا العنف، الذي حسبوه «عراقياً» سرعان ما سيصير سورياً، وأنه، اعتباراً من 18 تموز/يوليو عام 1963 تحديداً (حين قامت السلطة الانقلابية بدمشق بقتل المتمردين من أتباع جاسم علوان الذي حاول انقلاباً على الانقلاب في مجزرة لم يسمح بمعرفة تفاصيلها إلا عن طريق النقل الشفهي)، كان في طريقه ليكون في أساس استراتيجية مُحْكمَة من أجل الحفاظ على السلطة سوف تتطور شيئاً فشيئاً كي تصير منهج حكم صارم، وأنه سيصير أحد سمات الممارسة السياسية في سوريا. تارة باسم «الوحدة والحرية والاشتراكية»، وتارة باسم «القضاء على المؤامرة الكونية»، وتارة ثالثة باسم «القضاء على الإرهاب».
كانت السلطة البعثية إذن هي من دشّن ما يمكن أن نطلق عليه «العنف السياسي» (الذي يمكن اعتباره ـ كما يقول الباحث الكندي بيير ـ آلان كليمان، مظهر الإرهاب ومبناه) للدفاع عن موقعها ومكانها في البداية. ولسوف تستقر هذه السياسة على هذا النحو خصوصاً اعتباراً من انقلاب حافظ الأسد على رفاقه عام 1970 وإقدامه على سجن بعضهم مدى الحياة والقضاء تدريجياً على البعض الآخر بواسطة الاغتيال. سيكون ذلك أول درس «تربوي» لمن تسوِّل له نفسه من العسكريين أو من المدنيين أن يحاول الاعتراض على سلطته التي باتت تُعرَفُ باسمه. ولسوف تكون الأداة اليومية والمباشرة لتنفيذ هذا «العنف السياسي» المُنظَّم (أي عنف السلطة الانقلابية، لا عنف الدولة الشرعية) ما عُرفَ بسرايا الدفاع التي كان يقودها رفعت الأسد: فرقة عسكرية ذات استقلال ذاتي كامل لا تخضع لأي قانون أو عرف أو تقليد، وتتمتع بحرية الحركة في كل المجالات، ولاسيما تلك المتعلقة بالاقتصاد والاجتماع والأمن.
تمّ ترسيخ هذه الاستراتيجية تدريجياً من خلال أعنف تطبيق لها كردِّ فعل على الاغتيالات الجماعية والفردية التي اتهمت بها جماعة الإخوان المسلمين، في مدينة حماه خصوصاً عام 1982 وفي مدينة تدمر. واتسعت أدوات وطرق تنفيذها لتشمل العديد من الدوائر الأمنية ـ حسب الاختصاص ـ في مدن سوريا كلها. وأضحت خلال السنوات التالية قوام سلوك النظام في علاقته مع محكوميه: فراغ سياسي شامل في الداخل، وهيمنة أمنية غير مسبوقة على أدق التفاصيل اليومية لحياة الأفراد والجماعات في مجتمع بأكمله.
كان القتل أداة الإرهاب والترهيب الجوهرية والأولى في اعتماد السلطة الأسدية نهج العنف السياسي. لكنه لم يبقَ الأداة الوحيدة. فتحريم أي ضرب من ضروب العمل السياسي، الذي أدى إلى تغييب آلاف الرجال والنساء عشرات السنين في السجون، كان أيضاً أداة أخرى طالت كل الفئات الاجتماعية المتمردة بصورة أو بأخرى تلك التي استمرت في ممارسة ما تعتبره حقها الأولي، من الإسلاميين إلى مختلف ضروب اليسار، بما فيها يسار البعث نفسه.
ستكون سنوات السجن دورات تدريب طويلة، لمن لم تبادره المنية بفعل التعذيب أو القتل، مِمَّن كانوا يملكون استعداداً طبيعياً أو مكتسباً، على ممارسة العنف في صفوف الإسلاميين تحديداً. وسوف يستخدم النظام الأسدي هؤلاء عما قريب كأدوات في استراتيجية جهنمية من أجل مقارعة الأمريكيين في العراق. ثم سيوظفهم من جديد في خدمة استراتيجيته الجهنمية الأخرى للبقاء فور خروج المظاهرات السلمية في بدايات الثورة السورية حين وصمها منذ الأيام الأولى بالتطرف الديني، وبتبعية الثوار للقاعدة، وحين أسعفه أحد كبار مثقفيه بنزع صفة الثورة عنها مادام أصحابها يخرجون من المساجد ودعمت صحافية لبنانية ممانعة أقواله فشبهت حمص بقندهار!
على الرغم من خبرة ما يقارب خمسين عاماً، لم يكن النظام الأسدي يجهل أن لجوءه إلى العنف سوف يؤدي إلى عنف مقابل. لكنه ظنَّ، بسبب هذه الخبرة بالذات، أنه سينجح في فرض سيطرته عن طريق استخدام غير محدود للعنف في وجوهه المختلفة. إلا أن هذا العنف في وجهه المادي، القتل، سرعان ما أدّى به إلى أن يصير سجين خياره بالذات: عنف يزداد بازدياد المقاومة المسلحة، فمن مواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي، إلى استخدام الدبابات، ثم راجمات الصواريخ، ثم القصف الجوي ثم أخيراً استخدام البراميل. وجه ثان للعنف رافق الوجه الأول: الكذب والتزييف الإعلامي. فقد كانت أجهزة إعلام النظام الأسدي تمارس أبشع ضروب القتل أو المجازر على أيدي مرتزقتها وتتهم بها من كانت تطلق عليهم «الجماعات المسلحة». لكن الوجه الأكثر خطراً وفتكاً تجسّد في تصنيع الإرهاب من خلال دعم غير مباشر لبعض هذه الجماعات المسلحة نفسها التي اصطنع بعضها أو اخترق البعض الآخر من ناحية، مثلما أتاح للبعض الآخر أن يزدهر ويتمدد، ولا سيما ذلك الذي سيعرف فيما بعد بـ «تنظيم الدولة». فبعد أن استنفد كل وسيلة لاستعادة ما فقده ميدانياً وسياسياً في الداخل والخارج، لم يبق له إلا أن يقدم للعالم خياراً وحيداً: إما أنا أو.. «تنظيم الدولة»!
استطاع النظام الأسدي الاستمرار بدعم من شريكيْه: إيران وروسيا. إيران التي تواجدت في المرحلة الأولى من خلال ذراعها في لبنان، حزب الله، ثم، في المرحلة الثانية عبر قيادات حرسها الثوري والمرتزقة الذين استوردتهم من أفغانستان والعراق. بوجودهما استحال النظام الأسدي مجرد دمية تستخدم لتبرير الوجود الإيراني في سوريا. أما روسيا فقد وجدت في الثورة السورية فرصة تستعيد بها موقعها على الصعيد الدولي لا إزاء الولايات المتحدة وأوروبا فحسب، بل على الصعيد الإقليمي أيضاً بعد خذلانها في أوكرانيا وفي ليبيا معاً. وخلال خمس سنوات، دعمت النظام عسكرياً وسياسياً، وها هي تحل محله اليوم في القرار المصيري الذي تريده أن يكون لصالحه بعد أن تكون قد قامت بإعادة ترميمه قطعة بعد قطعة، بمساعدة حثيثة من إيران وذراعها في لبنان.
يقوم هذان الشريكان بممارسة ضرب من الإرهاب يعيد إلى الذاكرة أبشع الممارسات الاستعمارية في القرن التاسع عشر وأقذرها. باتت سوريا بعد العراق المجال الحيوي لإيران وصلة الوصل الضرورية بذراعها الضاربة في لبنان. أما بالنسبة إلى روسيا فهي تستخدمها حقل تجارب لمختلف أسلحتها التي لم تتح من قبل لها فرصة استخدامها في ميدان حرب حقيقي. وهو إرهاب عماده أيضاً العنف المحض والتزييف الإعلامي واستخدام كافة الوسائل لتحقيق أهداف غير معلنة باسم حماية وحدة الأراضي السورية وسيادة الشعب السوري في تقرير خياراته. سبق لكلا البلدين أن عاش تجربة مماثلة ضمن حدوده: إيران مع ثورة شبابها التي قمعت بالحديد والنار، والشيشان التي شهدت تسوية مدينة غروزني بالتراب.
ذلك ما تتطلع إليه إيران وما تهدف إلى تحقيقه روسيا، باستخدام الوسائل كلها ودون استثناء: القتل خبط عشواء، وإعادة تأهيل حاكم ونظام لم يتورع عن ارتكاب أشنع الجرائم بحق شعبه.
وسيستمر كل ذلك بهدوء، ولا سيما بعد صدور قرار مجلس الأمن الأخير، الذي يبدو وكأنه يشرعن هذا الواقع المأساوي..
٭ كاتب سوري
القدس العربي