عن تطورات الموقف التركي –مقالات لكتاب سوريين-
أوجلان كتيار ثالث/ رستم محمود
لم يكن البيان الأخير الصادر عن زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان تقليدياً. فإدارة السلم المدني التي شكلتها حكومة «حزب العدالة والتنمية» التركي للإشراف على المفاوضات مع العمال الكردستاني ومتابعة خطوات الحل، لم تنقل عنه مجرد دعوته إلى وقف القتال بين حزبه والجيش التركي، كما كان يفعل عادة، بل نقده الشديد لمقاتلي الكردستاني وقادة «حزب الشعوب الديموقراطية» الكردي – التركي وبرلمانييه، وكذلك مسؤولي الحكومة التركية، مذكراً بأنهم مجتمعين فشلوا بشدة في إدارة المفاوضات ووضع جدول زمني لها، ومطالباً بوقف «إراقة الدماء» والعودة السريعة إلى طاولة التفاوض.
لو صدقت حرفية ما نُقل عنه، فمن بين تفاصيل هذا البيان يظهر مقدار «الحيادية» والتجريد الذي بات زعيم الكردستاني يتحلى به تجاه طرفي الصراع، الدولة التركية بمؤسساتها السياسية وقواها العسكرية من جهة، ومقاتلي الكردستاني وسياسيي «حزب الشعوب» من طرف آخر. وهو شيء يخل بالموقع الفعلي والرمزي لأوجلان، كزعيم لهذا الحزب، وكطوطم مُكرس في الذات الجمعية الكردية للدفاع عن الهوية السياسية القومية للكرد في تركيا.
فإظهار نقد متواز ومتساو للطرفين، يوحي بأن طرفي الصراع يمتلكان القدرة ذاتها على تفعيل هذا الملف وإدارته. وأنهما، بالدرجة ذاتها أيضاً، يفتقدان المستوى والروح المطلوبين من «الإرادة السياسية» لحل المسألة الكردية في البلاد عبر التفاوض والسلمية.
لكن الوقائع كلها كانت ولا تزال تشير إلى استمرار الكردستاني في حفاظه على وقف إطلاق النار من جانب واحد، منذ سنوات عدة، وإلى أن دعوته لا تزال قائمة للجانب التركي للجلوس إلى طاولة مفاوضات فعلية وجادة، وأنه جاهز على الدوام لتقديم الكثير من التنازلات. كما أن كل برنامج وخطاب وسلوكيات «حزب الشعوب الديموقراطية» كان مقتصراً على دعوة موازية لذلك، لتحديد جدولة سياسية مبرمجة لتفكيك المسألة الكردية في البلاد سياسياً.
وطوال هذه المدة لم يحصل أي انزياح لدى السلطات التركية في ذلك الاتجاه. وما كانت بعض خطواتها «الرمزية» الخجول، كافتتاح تلفزيون رسمي باللغة الكردية قبل قرابة عشر سنوات، يحرص على توزيع دعاية الحزب الحاكم وخطابه، والسماح بتداول الكردية في الحياة العامة، سوى ممارسات بالغة الصغر قياساً إلى مسألة كبرى كالمسألة الكردية.
حتى هذا التصعيد الأخير، لم يكن نتيجة تراجع الكردستاني عن الهدوء الهش الذي جمع بين الطرفين منذ أعوام عدة، بل كان في جوهره رد فعل سياسياً وعسكرياً تركياً على ما حققه حزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي – السوري الرديف للكردستاني من سيطرة عسكرية على عموم الشمال السوري، ومن قدرة حديثة للكردستاني على التواصل و «التعاون» مع القوى الدولية في المسألة السورية، وعموم القضايا الإقليمية، وهو ما قد يشكل خطراً استراتيجياً على الأمن القومي التركي.
صحيح أن الكردستاني وعموم النُخبة السياسية الكردية في تركيا منقسمة على ذاتها جوهرياً: تيار رئيس منهم، يشكل قادة الكردستاني العسكريون متنه، يميلون إلى الضغط العسكري والأمني على الدولة والمجتمع التركي، لـ «تهديده» باستقرار البلاد، ولو بمساندة بعض القوى الإقليمية، وذلك لدفعهم إلى تفاوض حقيقي في شأن مستقبل الأكراد في تركيا، وكتلة أخرى تسعى لاستخدام الضغط «الناعم» والتواصل مع كل القوى التركية، لبناء جسور الثقة معها، وعرض المسألة الكردية بصيغة لا تثير أية مخاوف على وحدة الدولة التركية ومستقبلها، لانتزاع تفهم هذه القوى للمسألة الكردية. وقد انتقل أوجلان عبر تاريخه السياسي من أقصى يمين الكتلة الأولى إلى أقصى يسار الكتلة الثانية. لكن ما يميل إليه أوجلان راهناً، هو تجاوز ذلك التيار الذي كان سياسيو «حزب الشعوب» يشكلون بنيته، ليعرض نفسه كقوة سياسية ذات صدقية ورمزية تستطيع أن تعقد تسويات سياسية لا يستطيع غيره أن يعقدها.
وربما كان لعزلة أوجلان وعدم اطلاعه على تفاصيل المجريات على الأرض، أن منعاه من إدراك الحقيقة الآتية: إن سبب استعصاء الوصول إلى مكان آمن في «عملية» السلام هذه، إنما يعود إلى غياب أي مشروع أو إرادة سياسية لدى القوى الحاكمة لحل هذه المسألة عبر تقديم «تنازلات» واضحة وشفافة قد تغير من جوهر هوية الدولة التركية «الواحدية القومية».
الشيء الآخر، والناتج أيضاً من وضع أوجلان في السجن وتحكم الأجهزة الأمنية بأحواله ومنعه من التواصل الحر مع قادة حزبه، أن حدود هيمنته السياسية على مقاتلي الحزب متوقفة عند حدود المشروع المركزي للحزب منذ ثُلث قرن، والمتمثل في تحصيل اعتراف سياسي واضح من الدولة بالقومية الكردية في البلاد، تعتبرها موازية لنظيرتها التركية. وهو ما جاء واضحاً في بيان أصدرته «منظومة المجتمع الكردستاني»، المؤسسة السياسية المركزية في «حزب العمال الكردستاني»، في أوائل آذار (مارس) الماضي، حيث اعتبرت أن مسألة «التخلي عن الكفاح المسلح رهن بحل القضية الكردية حلاً جذرياً» وليس بنداءات القائد أوجلان أو مطالبات «حزب الشعوب الديموقراطية».
لكن الأساس في كل ذلك هو عدم إدراك الحُكام الفعليين لتركيا لتلك المعادلة أيضاً. فأياً كان، حتى لو برمزية أوجلان واستثنائيته، لن يستطيع أن يملي على التطلعات الكردية أية طروحات خارج الحد الأدنى من مطالبها المشروعة، أي الاعتراف الدولتي بالقومية والشعب الكرديين في تركيا.
* كاتب سوري
الحياة
تركيا وحكومة الانتخابات/ بكر صدقي
لا تنتهي المفارقات العجيبة في المشهد السياسي التركي. فللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية يتقرر «إعادة الانتخابات العامة» لأن نتائجها لم ترضِ الحزب الحاكم ورئيس الجمهورية. هي إعادة وليست انتخابات مبكرة لسببين على الأقل: أولهما المدة القصيرة الفاصلة بين دورتين انتخابيتين، وثانيهما أن الانتخابات الأولى لم تنبثق عنها حكومة جديدة، بل استمرت حكومة ما قبلها بتصريف الأعمال. ومن المجحف إضافتها إلى وظيفة «تصريف الأعمال» بالنظر إلى القرارات المصيرية التي اتخذتها في هذه المرحلة، كشنها حرباً مفتوحة على حزب العمال الكردستاني كلفت الجيش والشرطة فقط أكثر من أربعين قتيلاً يستحقون وحدهم صفة «الشهداء» في عرف الدولة.. أو اتفاقها مع الأمريكيين على التنسيق العسكري في إطار التحالف الدولي لمحاربة داعش.. أو اعتقالها لرؤساء بلديات منتخبين بذريعة دعمهم المزعوم لحزب العمال الكردستاني الموصوف بالإرهاب. وهذا ما يقودنا إلى مفارقة أخرى في المشهد التركي المضطرب.
منذ نحو ثلاث سنوات والحكومة التركية تتفاوض علناً مع هذا الحزب «الإرهابي» ورأسه عبد الله أوجالان الموجود في أحد سجونها. وإذ ربط رئيس الجمهورية أردوغان بين خسارة الحزب الحاكم للغالبية المطلقة في انتخابات السابع من حزيران/يونيو وبين دخول حزب الشعوب الديمقراطي البرلمان بثمانين نائباً، فقد بات هذا الحزب في مرمى الرئيس وإعلامه الموالي بهدف إخراجه من البرلمان في انتخابات الإعادة «لتعود الأمور إلى نصابها» كما كانت عشية الانتخابات المشؤومة. وبلغ هذا الاستهداف أقصى تجلياته بإعلان أردوغان أنه «الامتداد السياسي لحزب العمال الكردستاني» الذي يحاربه الجيش التركي، هذه الأيام، بكل أنواع الأسلحة. المفارقة الجديدة هي أن هذا «الامتداد السياسي» لـ»الإرهاب» سيكون شريكاً في حكومة الانتخابات التي من المفترض أن يشكلها رئيس الوزراء المستقيل أحمد داوود أوغلو خلال الأيام القليلة المقبلة. هذا ما قاله رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي بطريقته الفصيحة: «بعد أيام سيكون حزب العمال الكردستاني شريكاً في الحكومة مع حزب العدالة والتنمية»!
فالحزب القومي، ومثله حزب الشعب الجمهوري، أعلنا بوضوح رفضهما المشاركة في حكومة مهمتها إعادة الانتخابات. وبذلك سيكون حزب الشعوب الديمقراطي هو الشريك الوحيد للعدالة والتنمية في الحكومة المقبلة، إضافة إلى نواب مستقلين. ذلك أن الدستور، في حالة إعادة الانتخابات، يقضي بوجوب تمثيل جميع الأحزاب الممثلة في البرلمان في حكومة مهمتها التحضير للانتخابات القادمة، وبحصص من المقاعد الوزارية تتناسب مع نسب تمثيلها في البرلمان. من المفترض، وفقاً لهذه النسب القائمة في البرلمان اليوم، أن يتمثل حزب العدالة والتنمية بأحد عشر وزيراً (إضافة إلى رئيس الوزراء) وحزب الشعب الجمهوري بخمسة وزراء، وكل من حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديموقراطي بثلاثة وزراء.
وبخلاف الحزبين القومي المتشدد والعلماني الكمالي، أعلن رئيس حزب الشعوب الديمقراطي بصراحة أن حزبه سيشارك في الحكومة حتى لو أعطي حقائب وزارية هامشية. وإذا كان الحزب القومي المتشدد «مبدئياً» في رفضه المشاركة في حكومة يتمثل فيها الحزب الكردي، فحزب الشعب الجمهوري قد يغير موقفه في اللحظة الأخيرة، نظراً لتعطشه إلى السلطة بعد غياب طويل عنها. وعلى أي حال أعلن رئيس الوزراء المكلف داوود أوغلو أنه سيوجه دعوات فردية إلى نواب أحزاب المعارضة «في ظرف مختوم» على أمل أن يدفع إغراء الوزارة بعض نواب تلك الأحزاب إلى مخالفة موقف حزبهم والتصرف بصورة فردية، على رغم إعلان بهتشلي أن أي نائب من نواب حزبه يخالف قرار الحزب بمقاطعة الحكومة الانتخابية سوف يطرد من الحزب.
الخلاصة أنه من المحتمل أن تتشكل الحكومة الانتخابية بصورة حصرية من حزب العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي. مع العلم أن الأخير وحده تم استبعاده من المشاورات الائتلافية لداوود أوغلو، مقابل دعوته لكل من الشعب الجمهوري والحركة القومية ليكونا شريكاً في الحكومة الائتلافية التي فشل، في النهاية، في تشكيلها مع أي منهما.
ولكن هل يعني كونها «حكومة إعادة الانتخابات» أنها بلا أهمية أو قصيرة العمر أو غير مخولة باتخاذ قرارات سياسية حاسمة؟ يتوقف الجواب على النتائج المحتملة لانتخابات الإعادة التي تحدد موعدها في الأول من شهر تشرين الثاني القادم، أي بعد نحو شهرين من الآن.
وفقاً لمدير شركة متروبول المتخصصة في استطلاعات الرأي العام، من المحتمل أن تكون نتائج الانتخابات القادمة متقاربة مع نتائج انتخابات السابع من حزيران. بحيث تبقى مقاعد البرلمان القادم موزعة على الأحزاب الأربعة الممثلة فيه اليوم، وربما بنسب قريبة من النسب الحالية. ويشارك كثير من المحللين الأتراك في هذا الرأي. وحده الرئيس أردوغان لا يقبل بغير نتيجة تخول الحزب الحاكم تشكيل حكومة جديدة بمفرده. من هنا تنبع أهمية الحكومة الانتخابية التي يسمح الدستور باستمرارها في السلطة بعد الانتخابات، إلى حين تشكيل حكومة جديدة منبثقة من الانتخابات، من المرجح أن تكون ائتلافية أيضاً، وفقاً للتوقعات المذكورة أعلاه، فيتعسر تشكيلها كما حدث في الأسابيع الماضية. وحتى إذا تشكلت سوف تحتاج إلى إقرارها من قبل رئيس الجمهورية كما تقتضي صلاحياته الدستورية. وإلى حين صدور هذا الإقرار ستواصل «حكومة الانتخابات» حكمها للبلاد تحت الظل الثقيل للرئيس أردوغان. ومن ناحية ثانية، لا يمكن للحكومة الانتخابية المزمع تشكيلها قريباً إلا أن تتخذ قرارات سياسية حاسمة، بالنظر إلى اضطراب الأوضاع العامة داخل البلاد وفي جوارها السوري والعراقي، وفي ظل المخاطر المحيطة بالوضع الاقتصادي غير المستقر. لا شيء يمنع حتى من اتخاذ قرار بإرجاء الموعد المعلن للانتخابات إذا توافرت مبررات كافية (أمنية مثلاً) يمكن القول إنها متوفرة منذ الآن.
سنشهد في الأسابيع القادمة، إذن، هذا المشهد الغريب: حزب العمال الكردستاني يقاتل الجيش التركي، في حين يشارك «جناحه السياسي» في الحكومة! أليس هذا الوضع هو الوصفة المثلى لسلام طال انتظاره؟ فلا السلاح وحده قادر على إرغام الدولة التركية على إيجاد حل للمشكلة الكردية المزمنة، ولا التخلي عنه لصالح العمل السياسي السلمي.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
دلالات الاتفاق الأميركي التركي/ خورشيد دلي
لم يكن الاتفاق الأميركي – التركي على وضع قاعدة إنجرليك في خدمة حرب التحالف الدولي ضد داعش وليد اللحظة، بقدر ما كان نتيجة مفاوضات طويلة بين الجانبين، مارست في أثنائها واشنطن مزيداً من الضغوط على أنقرة التي ترى أن الهدف الأساسي من الاتفاق هو التوصل إلى توافق تركي – أميركي بشأن الأزمة السورية، وتحديدا نيل الموافقة الأميركية على إقامة منطقة أمنية عازلة في الشمال السوري، تكون مدخلا عمليا لإسقاط النظام.
في محاولة لفهم الدوافع التركية من الاتفاق، ينبغي النظر إلى جملة عوامل وأسباب، لعل في مقدمتها تعاظم خطر كل من داعش والكرد، فتركيا باتت تجد نفسها أمام انتقال خطر تنظيم داعش إلى الداخل التركي، خصوصاً بعد التفجيرات التي شهدتها المناطق الحدودية، وكان أهمها الذي وقع في مدينة سوروج، وأودى بعشرات. فيما على الصعيد الكردي، باتت تركيا ترى نفسها بعد سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية على مدينة تل أبيض الحدودية أمام إقليم كردي على حدودها الجنوبية، يطمح إلى ربط المناطق الكردية في الشرق، أي القامشلي وكوباني (عين العرب) بعفرين، لتصبح هذه المناطق إقليما مكتملا جغرافيا، يمتد من جبال قنديل على الحدود العراقية الإيرانية التركية إلى البحر المتوسط، ولعل ما زاد من مخاوف تركيا إحساسها بأن من يقف وراء هذا الصعود الكردي هو عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني. وعليه، ربما وجدت تركيا في اتفاقها مع أميركا مدخلاً لتحقيق أربعة أهداف رئيسية:
إعادة الدفء إلى العلاقات التركية – الأميركية، وما لهذه العلاقة من أهمية استراتيجية في التنسيق بشأن قضايا المنطقة ولاسيما الأزمة السورية، فضلا عن الحد من تداعيات التقارب الإيراني – الغربي على موقعها في الاستراتيجية الغربية تجاه المنطقة. الحد من خطر داعش والكرد على الأمن القومي التركي، وإذا كانت تركيا ترى في داعش خطراً مؤقتاً، فإنها ترى في الخطر الكردي خطراً استراتيجياً ومصيرياً، لأن الأمر يتعلق بمستقبل الدولة التركية وبنيتها وجغرافيتها. ترى تركيا، بحصولها على إقرار أميركي بإقامة منطقة أمنية في الشمال السوري، أنها حققت أحد أهم شروطها في الانضمام إلى التحالف الدولي في الحرب على داعش، والأهم بالنسبة لها أن تشكل هذه المنطقة منطلقا للمعارضة السورية المسلحة، في معركتها لإسقاط النظام السوري الذي يشكل هدفا استراتيجيا لها. محاولة قطع الطريق أمام التحالف الأميركي – الكردي الذي نشأ على وقع الحرب ضد داعش لصالح الدور الإقليمي التركي الذي هو أقدر على تقديم خدمات لهذه الحرب.
ثمة من يرى أن مجمل ما سبق ليس بعيداً عن العامل الداخلي التركي، المتمثل بالتوجه إلى الانتخابات المبكرة، إذ يرى هؤلاء أن من شأن هذا التحرك الأمني والعسكري شد عصب الناخب التركي نحو حزب العدالة والتنمية الذي يطمح إلى استعادة ما فقده من الأصوات في الانتخابات البرلمانية، والتطلع إلى أغلبية برلمانية، تمكنه من تشكيل الحكومة وحده، بعد أن تبينت صعوبة تشكيل حكومة ائتلافية، بسبب تناقض أجندته مع أجندة أحزاب المعارضة. في المقابل، أميركا هي الأخرى مستفيدة من هذا الاتفاق، لا لجهة كسب تركيا إلى جانبها في الحرب ضد داعش فحسب، بل على صعيد امتلاك أوراق جديدة في إدارة أزمات منطقة الشرق الأوسط، وأهمية دور العامل التركي في موازنة العامل الإيراني تجاه قضايا عديدة في المنطقة. ففي النهاية، تقوم السياسة الأميركية على المصالح، ومصلحتها تكمن في استنزاف القوى الإقليمية، وتسخيرها في خدمة الاستراتيجية الأميركية.
عند هذه النقطة، ينبغي النظر إلى أن الاتفاق الأميركي – التركي لا يعني توافقاً في الرؤى تجاه كيفية حل الأزمة السورية، فواشنطن في إصرارها على حل سياسي تأخذ العاملين، الإيراني والروسي، بالاعتبار، فيما تعتقد تركيا أن جوهر المشكلة يتعلق ببقاء النظام، وعليه، تسعى إلى إسقاطه. لذا، يبقى الاشتباك الأميركي التركي قائماً، حتى في ظل انخراط أنقرة في حرب التحالف ضد داعش، على أمل أن تكسب المنطقة الأمنية العازلة لاحقا.
العربي الجديد
تركيا الخائفة/ حمزة المصطفى
تضج ساحة تقسيم وشارع الاستقلال وسط إسطنبول بالسياح العرب والأجانب، وتعج، أيضاً، بعناصر وسيارات الدرك التركي، وبمسلحين لا يرتدون زياً رسمياً ينظرون إلى المارة نظرة شك لا تخطئها العين. لا يعبأ السياح بالإجراءات الأمنية في الشوارع الرئيسية والمولات، لكنها تقض مضاجع الأتراك ممن اعتادوا العيش بأمان، ورخاء نسبيّ في السنوات الماضية. تقلب صفحات الصحف التركية لترى في صورها ما يبرر هذا الخوف؛ إرهابيون يطلقون النار على قصر تاريخي، نعوش جنود أتراك قضوا في المواجهة ضد حزب العمال الكردستاني، تصريحات قادة في تنظيم داعش، تتوعد تركيا بتفجيرات ومفخخات، حملات أمنية تنفذها الشرطة ضد منظمات يسارية متطرفة… إلخ. عدا عن الهواجس الأمنية المباشرة، يخشى الناس على اقتصادهم وحياتهم، وهم يرون ليرتهم تواصل انخفاضها أمام الدولار، ويسمعون، يومياً، إشاعات عن رفع سعر الفائدة في المصارف، بغية تشجيعهم على إيداع أموالهم وإيقاف السحب، ويتخوفون كذلك من حرب طويلة في المناطق الكردية، جنوب شرق البلاد، تستنزف مواردهم، لاسيما بعد تواتر أنباء تفيد بخروج قرى نائية عن سيطرة الدولة بشكل كامل، ونزوع بعض المنظمات الكردية لتطبيق تجربة الإدارة الذاتية فيها، على غرار ما جرى في مناطق شمال، وشمال شرق سورية التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.
في هذا الوضع المضطرب، تبقى الانتخابات المبكرة المتوقعة الشغل الشاغل للمواطن التركي، على ما يقول باحثون وصحافيون أتراك. فبخلاف سابقتها، أضحت حديثاً يومياً يرافق الأتراك في العمل، والمنزل، وجلسات الشاي المسائية، بل حتى سهرة نهاية الأسبوع الصاخبة. خلال الأسابيع المنصرمة، حصلت تغيرات جمة في المشهد السياسي التركي، على المستويين الداخلي والخارجي. الانتعاش القومي الكردي إثر نجاح حزب الشعوب الديمقراطي في تخطي عتبة الـ 10% ودخوله البرلمان تعرّض لهزة عنيفة، إثر التفاهم الأميركي – التركي على إقامة منطقة خالية من داعش في شمال سورية، وبدء الضربات الجوية والعلميات العسكرية ضد مسلحي الكردستاني في جبال قنديل. يحاول موظف الاستقبال (كردي الانتماء) إقناعي بوجود صفقة “مريبة” بين الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان والأميركي باراك أوباما، للقضاء على صلاح ديمرتاس، وعن أن أكراد تركيا يجمعون، اليوم، كما لم يحصل سابقاً، على التصويت لحزب الشعوب الديمقراطي لإيصاله مجدداً إلى قبة البرلمان، وإفشال ما يسميه “مخططات أردوغان”، لكي يصبح أتاتورك جديداً. ويستعد حزب الشعب الجمهوري، وزعيمه كليجدار أوغلو، المتشوق لملامسة كراسي الوزارة بعد غياب طويل، جيداً لمعترك الانتخابات المبكرة، ويسعى إلى تحالف انتخابي مع الأكراد، بشعارات تستهدف شخصية أردوغان، وليس حزب العدالة والتنمية، في محاولة جذب شرائح واسعة من الشعب التركي، لا تحبذ تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي. أما “العدالة والتنمية” فيبدو في وضع لا يحسد عليه، إذ لا تتوافر مؤشرات حقيقية، بحسب استطلاعات الرأي، تفيد بقدرته على الفوز في الانتخابات المقبلة، بنسبة تمكّنه من تشكيل الحكومة منفرداً، ويبدو جمهوره منقسماً حول قضايا تخص الحزب نفسه، وسياساته الداخلية والخارجية.
“مخاوف من دخول تركيا مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي لا تنحصر في مواطنيها، بل تؤرق جاليات عربية مليونية، تقيم في تركيا، وخصوصاً السوريين والمصريين، وأخيراً الليبيين واليمنيين”
لا ترى شريحة مهمة، ضمن قاعدة الحزب وأنصاره، في مسعى محبوبهم “أبو بلال” بتغير شكل النظام في تركيا أولويةً، أو هدفاً ملحاً، خصوصاً وأن الحزب نجح، خلال السنوات الماضية، في أن يكون رقماً مهماً، ضمن آليات النظام السياسي المنصوص عليها في الدستور الحالي. ولا يخفي كثيرون نقدهم الرئيس أردوغان، في قضايا عدة، في مقدمتها اختيار أحمد داود أوغلو رئيساً للحزب والوزراء، مع أنه لا يمتلك كاريزما قيادية وقدرة خطابية قادرة على شد الجمهور وجذب الأصوات، وإبعاده شخصيات ذات ثقل كبير، مثل الرئيس السابق، عبدالله غول، وعلي بابا جان، بحجة أن النظام الداخلي للحزب لا يسمح للنائب بالترشح للنيابة البرلمانية أكثر من دورات انتخابية. وبناء عليه، يواجه “العدالة والتنمية”، على ما ينقل باحثون وصحافيون أتراك قريبون من خط الحزب، تحديات لا تقتصر على أحزاب المعارضة التي راكمت خبراتها خلال السنوات الطويلة، وتسعى إلى كسر انفراده بالسلطة في حكم تركيا، بل تمتد إلى شرائح أخرى، لعل أبرزها النخب العلمية والأكاديمية وجيل الشباب الجديد. نجح الحزب في اختراق مختلف مؤسسات الدولة، لكنه عجز عن كسر احتكار النخبة العلمانية للتعليم العالي والجامعات، وهيمنتها على الحياة الثقافية في البلاد، ما ساهم في تحولها إلى خصم بارز للحزب ولأردوغان، خصوصاً بعد أن هجرت نقاشاتها التقليدية (الأتاتوركية، الاستقطاب العلماني الإسلامي) وبدأت تستحضر هموم الشارع وأحاديثه ومخاوفه. كما أن دعاية الحزب عن النهضة الاقتصادية التي أحدثها، في سنوات حكمه، لم تعد دعاية جاذبة لجيل انتخابي جديد، قوامه شباب ترعرع في اقتصاد قوي ومنتعش، ولم يشهد أزمات التضخم والركود. لذلك، لا يرى في الإنجازات الاقتصادية القائمة حافزاً يدفعه إلى قبول قضايا سياسية، لا يحبذها.
المخاوف من دخول تركيا مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي لا تنحصر في مواطنيها، بل تؤرق جاليات عربية مليونية، تقيم في تركيا، وخصوصاً السوريين والمصريين، وأخيراً الليبيين واليمنيين. فنتائج الانتخابات الأخيرة دقت ناقوس خطر، دفعت آلاف السوريين المقيمين في تركيا إلى الهجرة إلى الدول الأوروبية، بحثاً عن استقرار سياسي وأمني. فاللجوء السوري (وأعباؤه) أضحى مادة دسمة لأحزاب المعارضة، لانتقاد الحزب الحاكم، مستغلين مظاهر سلبية، مثل التسول وارتفاع معدل الجريمة والتفجيرات، لاسيما في الولايات الجنوبية. فمثلاً، لا يتورع نواب الشعب الجمهوري ورئيسه عن الدعوة إلى وقف اللجوء السوري وإعادة اللاجئين، والتحالف مع الأسد لمواجهة الإرهاب. في حين حل الزعيم الكردي الشاب، صلاح ديمرتاش، ضيفاً دائماً على تلفزيونات الممانعة، يتغنى بمقاومة حزب الله وإيران، ويبرر تدخلهما في سورية، لمواجهة الإمبريالية العالمية المتحالف معها. أما حزب الحركة القومية، فلا يعنيه إلا الحرب على حزب العمال الكردستاني، وبدأ، أخيراً، بدعم كتائب تركمانية في الشمال وجبال الساحل وتمويلها، لتكون ذراعه في الحرب السورية. ولا تختلف هواجس السوريين عن المصريين المعارضين الذين يتداولون، يومياً، أخباراً عن إغلاق مؤسسات إعلامية وسياسية معارضة.
تأسيساً على ما سبق، لا يتمنى مواطن عربي عانى جور الأنظمة، وعاش حياة اللجوء، إلا فوز “العدالة والتنمية” في الانتخابات المقبلة، من دون أن يعني ذلك عدم الالتفات إلى مشاغل الشارع التركي وهمومه وتطلعاته لديمقراطية مستقرة، تحدث قطيعة تامة مع عقود الانقلابات والاضطرابات التي عاشتها تركيا قبل عام 2002.
العربي الجديد