عن حضور الكاهن الديني في الثورات العربية
حمود حمود
من النتائج المهمّة التي نطقت بها ثورتا تونس ومصر (إلى الآن)، مسألة تبديد مخاوف البعض من بدائل حكم ثيوقراطي كان يمكن أن يحلّ محلّ الأنظمة العربية التي كانت قائمة، خاصة في بلد مثل مصر. وفعلاً، جرت العادة عند مثقفينا على مدار السنوات السابقة، على تخويفنا دائماً من البعبع والبدائل الدينية، وتحديداً الإيديولوجيات الدينية المرعبة التي تتّخذ من السلاح خيارا للوصول إلى غاياتها. لكنّ تواتر الأحداث الأخيرة المتسارعة على الأرض، كشف أنّ هذه المخاوف كان مبالغاً بها، وأنّ الخطاب الدينيّ بمجمله هو خطاب مفلس تماماً بالأصل من أن يقدّم أيّ حلّ للمشاكل التاريخية التي يمرّ بها العرب، وأنّ الشعارات التي يرفعها (من قبيل أنّ الإسلام هو الحلّ) ما هي إلا شمّاعات إيديولوجية حركية، الهدف منها سياسيّ أكثر منها أدوية للمجتمعات.
ولحسن الحظ، كان بعض كهنة الخطاب الديني مدركاً لهذا الفراغ في خطابه؛ لكن سنراه بسبب إفلاسه التاريخي بدلاً من محاولة عقلنة خطابه وإصلاحه قليلاً، فإنه يحاول بأي وسيلة أن يكسب نصيباً سياسياً من نتائج كعكة الاحتجاجات العربية التي تدور حوله. من هنا يمكن أن نقرأ الحضور الفاعل لبعض أقطاب رجال الدين الكبار في تسيير الاحتجاجات وتأجيجها أو حتى التأثير في إخمادها، كما نشاهده الآن في بعض البلدان العربية التي تستغل سلطاتها السياسية تلك الأبواق الدينية كـقنوات اتصال بينها وبين الشارع؛ لدرجة أصبحت فيها صورة الكاهن الديني صورة مائعة، فلا نعرف من الذي يتحدث للشارع : هل هو رجل دين؟ أم ناطق باسم السلطة والحكومة؟ أم وجه مشرعن لسياستها؟…الخ.
أياً يكن، لا تكمن خطورة ذلك المشهد الدراماتيكي في حضور الكهنة الدينيين فقط ومسألة اختلاط الديني بالسياسي، وإنما تبرز من خلال أنّ السلطة السياسية بدل أن تُبعد رجل الدين وتحيّد من سطوة على رقاب الناس في سبيل بناء مجتمع مدني، نراها الآن (وهي السلطة التي تقول أنّ نظامها علمانيّ) تعيد اللعب ببعض الأوراق الخطرة في المجتمع، وخاصة في المجال الديني واستخدام رموزه لصالحها (إضافة إلى استغلال سلطوي لخطابهم)، كما هو الأمر في استغلال صوت هذا الكاهن أو ذاك من أجل كبح جموح الشارع في تحركاته، هذا بنفس الوقت رفع حدة الخوف داخل الشارع من فزاعة الإسلاميين من أجل الحفاظ على الوجه السلطوي للنظام القائم.
بشكل عام، يبدو أنّ رجل الدين مبسوط بهذه اللعبة، سواء أكان مؤيداً أم معارضاً للاحتجاجات؛ لأنّ هذه فرصته التي لا تعوّض، لكي يستغل من خلال هذه التفاعلات الشعبية، الاستمرارَ ببثّ دجله وخرافاته المميتة والمخدّرة لعقول الناس. أليس غريباً أن نسمع لأحد الكهنة أن سبب هذه الاحتجاجات أو أحد أسبابها هو عرض بعض الأعمال الدرامية على بعض القنوات التلفزيونية!؟ ربما الموضوع عند حضرة هذا الكاهن ليس غريباً، ما دام العقل والمنطق معطّلين إلى الأبد لصالح الجهل والخرافة.
الإشكال الرئيسيّ في هذه المهازل هو موقف السلطة السياسية منها (الآن بعض السُلط تقدم لهم هبات سماوية من أجل جذبهم إلى طرفها). من المهم أن ندرك أنّ لكلّ سلطة سياسية في أيّ بلد عربي كهنتها وسدنتها، مهما بلغ توجّهها الإيديولوجي والعلماني. وكل من هؤلاء الكهنة يختلف عن أي كهنة آخرين في أي بلد عربي آخر، رغم أن الكل يرجعون إلى/ ويستندون على/ مرجعيات لاهوتية واحدة. والسلطة السياسية هي من يحدد في آخر المطاف شكل الدين الذي يجب أن يُتّبع في المجتمع المعنيّ. لذلك نجد الاختلافات في المواقف الدينية من هؤلاء الكهنة بخصوص الثورات العربية :
كاهن ديني يقول لنا إنّ ثورة الشعوب الآن هي واجب دينيّ ضدّ الطغاة، وآخر يقول لا! فلا يجوز الخروج على الطغاة مهما بلغ من جورهم وظلمهم لأنّهم في النهاية مسلمون، وكاهن ثالث يصفها بأنها عقاب إلهيّ لأن الشعوب والحكام لم يتبعوا منهج الربّ، ورابع يصف ضمناً الكهنة الذين يدعون إلى تلك الاحتجاجات بأنهم يعملون في الظلام…الخ. هذه المشاهد توحي لأول وهلة وكأننا أمام صراع بين الكهنة في مجالس البانثيون الإلهية! (هذا عدا أنه ثمّة جزء من أولئك الكهنة يبقى صامتاً بحذر ويحاول من طرف خفيّ أن ينتظر وأن لا يخسر المعركة مهما تكن نتائج تلك التحركات، وذلك من خلال تفصيل الدين على مقاس أيّ نتيجة : سواء إذا مالت الريح للشارع المنتفض، أم للنظام السياسي القائم). لكن الأمر في الواقع أعمق من ذلك:
الخطاب الديني خطاب مفلس؛ وفي كل تجربة سياسية عربية يثبت على الدوم إفلاسه، والأمثلة كثيرة على ذلك. وعلى مدار السنوات السابقة لم يفلح الخطاب الديني -وخاصة الذي يحمل ملمحاً إيديولوجياً- في تقديم أي برنامج جدّي مهما كان شكله يمكن أن يكون بالفعل حلاً للمشاكل الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية… التي كانت قائمة، باستثناء اللعب على عواطف الجمهور المتدين ودغدغتها واستغلال تخلّفه، وإمطاره على الدوم بالخطب الوعظية والشعارات الجوفاء، وإدخاله في زواريب الماضي والعصر الذهبي المزعوم… هذا كله خلق أزمة ثقة حتى عند الجمهور المتدين نفسه بهذا الخطاب الخشبيّ المتضرج بدماء الماضي ودهاليز السلطات الحالية.
الخطاب الديني مدرك لهذا، ومدرك أيضاً لفراغه وإفلاسه رغم محاولاته السابقة لأسلمة كلّ وريد من أوردة المجتمع، لذلك نراه الآن يستمرّ في خضم الثورات العربية لتعويض خلله ذلك، من خلال اللعب على الأوتار الطائفية للشعوب كما أتحفنا كاهن مصريّ كبير كان له أثر فاعل في تأجيج مشاعر بعض الشباب.
وللأسف بسبب غياب أصوات وبدائل مثقفة حقيقة، استمرّ الخطاب الدينيّ، ويستمرّ، في استغلال هذه الفجوة مدعوماً بالسلطة السياسية من جهة، واستغلال انفعالات الشباب العربي في ظل تحركاتهم الاحتجاجية من جهة أخرى. وهذا ما رأيناه وما نراه الآن جلياً في قوة حضور رجال الدين وسطوتهم في الشارع العربي بشأن التحركات المتلاحقة من بلد عربي لآخر، حتى وصل الأمر ببعض الكهنة من دول عربية أن يعطوا دولاً أخرى وصفات دينية ثَوْرجية هي أشبه ما تكون بوصفات طائفية فجة، لا تهمهم فيها إلا مطامحهم الكهنوتية، ولا يهمهم نتائج ما ستؤول إليه الأمور ربما إلى حروب أهلية وما شابه؛ هذا بدل أن يتعقلن خطابهم قليلاً بالثورات التي أنجزتها شعوبهم الشبابية.
صحيح أن الخيار المسلح لبعض كهنة الإيديولوجيات الدينية (وليس الكل) فعلاً قد سقط مع سقوط أنظمتها؛ لكن لا يمكن أن نقول أن سطوة حضورهم الإيديولوجي المقنع بالخرافة والدجل قد سقط، وهذا ما دمنا نعاني من فراغ سياسي للأنظمة القائمة من جهة، وغياب مجتمعات مدنية حقيقية، وخاصة في ظل تشوش الرؤى التي تمر بها المجتمعات العربية في الأوقات الحالية، كما هو الأمر في تلك الأنظمة التي تحتضر، والتي تلعب من أجل إنقاذ نفسها على وتر الإسلاميين (الرئيس اليمني الآن مثلاً يمنع الاختلاط بين الجنسين
في ظل الظروف الانتقالية الحالية!).
موقع الآوان