صفحات الرأي

لا شيء يوقظ عقل المؤرخ قدر الهزيمة/ أريك هوبسباوم

                                            برلين: في برلين العام 1932، وأنا مراهق، كنت قد إهتديتُ الى الشيوعية؛ فأنا أنتمي الى جيل يرتبط بحبل سرة مع الأمل الثورة العالمية، في نسختها الأصلية، ثورة أكتوبر الروسية. وإذا كنتُ اليوم، على الصعيد الفكري، وبعد الثامنة والثمانين من العمر، قد تخلصتُ من هذا الإيمان، فإنني على الصعيد العاطفي ما زلتُ شديد الإرتباط بذاك الإلتزام. فالذين لم يخبروا “عهد الكوارث” الأوروبي في القرن الماضي، لا يفهمون بسهولة ماذا كان يعني العيش في ظل حكومة فيمار، في عالم ندرك انه غير قابل للإستمرار. في برلين الأعوام 1932-1933، كنا على متن باخرة “تايتنيك”، والجميع كان يحدس بأننا على مقربة من جبل الجليد. بالنسبة لأهلي، كانت الحرب العالمية الأولى نهاية للسلام. عندما كنا نتكلم عن “أيام السلام”، كنا نقصد أيام “قبل العام 1914”. بعدها، عشنا زمناً لا هو حرب ولا هو سلم، وفي عالم آخذ في الإنحلال. لم يكن ممكناً بالتالي، بالنسبة لمراهق مثلي، إلا ان ينخرط في نضال ذي طابع جذري. البعض إختار القومية الألمانية أو الفاشية؛ ولكن بالنسبة لبريطاني مهاجر مثلي، ويهودي فوق ذلك، مأخوذ بحلم ثورة اكتوبر، ما الذي كان قد بقي لي غير الإغراء الشيوعي؟

فيينا: كان من حظي انني وحتى العام 1931 تربيتُ ونشأتُ في ظل إمبرطورية آل هابسبيرغ. وأنا طفل استوعبتُ الشكل النمساوي للثقافة الألمانية. أهلي كانوا يسبحون في عالم متعدد القوميات، متعدد الثقافات، حتى ولو كنا نتكلم الألمانية في البيت. كنتُ بريطانياً من حيث المولد، ونمساوياً بالثقافة. في تلك الفترة، كل الذين كانوا متجذرين في الإمبرطورية النمساوية، نمى لديهم وعي حاد بالهشاشة التاريخية. الجميع كان حدس بأننا بلغنا نهاية دورة تاريخية، وبأن الإمبراطورية كانت تحتضر. على جميع المستويات، السياسية والثقافية، كنا نعيش في المؤقت. وهو مؤقت جذاب ويتوسل نضالاً. بعد تلك الحقبة، في برلين، من العام 1931، كنت أنا ورفاقي أشبه بمتطرفي أيار 1968 الفرنسي. ولكن مع بعض الإختلاف: كنا نناضل في قلب ألمانيا الغارقة في أزمتها الإقتصادية، من أجل الإستيلاء على السلطة، قبل كل شيء. أيضاً، لم نكن نحن المثقفين الشباب منشقين ثقافيين. في برلين، كنا نتقاسم الثقافة مع كبارنا. فالـ”واقعية الاشتراكية” لم تكن قد بزغتْ بعد. والإعجاب ببرخت أو بوهوس أو جورج غروز لم يكن يفصل بين الشباب والكهول. كان يفصل اليمين بالأحرى عن نوع يشبه الجبهة الشعبية الثقافية. ثم ان إحساسا بكوننا جزءاً من حركة أكبر كان يريحنا.

موسيقى الجاز: ان اكتشافي لبريطانيا صادف اكتشافي لموسيقى الجاز “الحاد”، وقد أصبحت بعد ذلك شغفي الأحلى. فالجاز يجلب لي البعد العاطفي والصامت في حياة يحتكرها الكلام والممارسة الفكرية. لم أكن أخمّن وقتها بأن سمعتي كهاوٍ لموسيقى الجاز، بعد أيام شبابي الأول، سوف تخدمني لفهم هذا العالم. هذا الشغف بالجاز يجمع أصحابه حول شيء يشبه الماسونية الدولية السرية. وتحت الإسم المستعار لفرانسيس ماسون، ألفتُ الكتب وكتبتُ المقالات حول الجاز في مجلة بريطانية مرموقة “النيو استايتمت”. بل كتبت “سوسيولوجيا الجاز” عام 1959. ومن سخريات القدر انه كتابي الوحيد المترجم الى احدى لغات بلدان “الواقعية الاشتراكية”، وهي تشيكوسلوفاكيا، وذلك قبل سقوط الشيوعية.

السويس و”الروك أند رول”: عام 1956 يقسم تاريخ بريطانيا الى مرحلتين مختلفتين تماماً. قبل “الروك أند رول” وقبل صدمة السويس. مع “الروك أند رول”، كان البروز المفاجئ للشباب في الثقافة المستقلة. اما السويس، فعنتْ بالنسبة للبريطانين نهاية إمبراطوريتهم. منذ هذا التاريخ، بدأ أفراد من الإمبراطورية البريطانية القديمة يتوافدون الى بريطانيا. هكذا، صارت لندن أكثر المدن كوزموبوليتيةً، بالتأكيد أكثر من نيويورك. نهاية الثلاثينات كانت بالنسبة لي نهاية انكلترا التقليدية. وبدءاً من العام 1950، صارت الأنماط الثقافية تأتي من تحت، من الشارع، وليس بالإتجاه المعاكس. الى حدّ أن أفراداً من الطبقة الراقية بدأوا يتخلّون عن لغتهم الخاصة، فيما طلاب الجامعات الأرقى يقلدون لهجة رجل الشارع (…).

مرارة: أعطيت جزءا وافراً من حياتي لأمل أصابته الخيبة، ولقضية كان فشلها واضحاً، وكانت متجسدة بثورة أكتوبر. ولكن لا شيء يوقظ عقل المؤرخ قدر الهزيمة. قبل سقوط حائط برلين، كان إنحدار الاتحاد السوفياتي أكيداً. ولكن ما لم يكن متوقعاً، هو إنهياره المفاجئ. من هنا تلك المرارة من انه كان يمكن إدخال بعض الإصلاحات على هذا النظام. ولكن بالنسبة لي، كان دائما مهماً وجود ما يوازي قوة الأغنياء. نهاية الإتحاد السوفياتي كانت تعني بأن الأثرياء لن يخافوا بعد الآن. خوف الفقراء هو الذي دفع دائما نحو الإصلاحات. لماذا إرتدت الرأسمالية وجهاً إنسانياً بعد الحرب العالمية الثانية؟ بالتأكيد لأن هناك خوفاً من الثورات.

الغولاغ: يمكن أن ألوم نفسي، كما لام أنفسهم العديدون ممن أُعجبوا بثورة أكتوبر، بأنني قلّلتُ من همجية الغولاغ. في الواقع، كشيوعي، كنتُ على دوام الإستعداد لقبول الكثير من شراسات النظام السوفياتي. ولكني لم أكن أعي بأن الغولاغ كان العمل المؤبد، الذي يخدم تصنيع الأراضي البعيدة وتنميتها. بهذا المعنى، فان الغولاغ أصبح بالنسبة لي بمثابة عبودية حديثة (…).

في العدد السنوي من مجلة “نوفل ابزفاتور” الفرنسية (كانون الأول 2013) ملف عن “كبار المفكرين” الأوروبيين، من كان وما زال لهم تأثير على التوجهات الثقافية الكبرى في هذه المجتمعات. من بينهم جان بودريار وجوليا كرستيفا وميشال أنفري وريجيس دوبريه الخ. ومن بين النصوص التي يضمها هذا الملف هذا النص للمؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم، الذي رحل العام الماضي، وهو مقتطف من سيرة ذاتية كتبها وهو في الثامنة والثمانين من العمر، بعدما أمضى شبابه شيوعياً. هنا مقتطفات من نص هوبسباوم

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى