عن صورة الأب باولو: علي جازو
يمنح نسباً جديداً إلى نفسه، ويختار أرضاً غير أرض ميلاده. يقف،لوحده، وسط الشارع المحاذي لجامع عامودا الكبير. لن يختلف الأمر إذا ما عثرنا على صورة أخرى له داخل كنيسة. زار الرقة ثم اختفى..
على مقربة من المكان الذي التقطت فيه صورة الأب باولو، يقع بيت الشيخ الكردي السوري عفيف الحسيني. لو أن لقاء كهذا جاء قبل سنوات قليلة، كان يمكن للإثنين أن يتبادلا قراءة مقاطع من شعر إبن الفارض، أو يخوضا نقاشاً في التصوف، ذلك أن باولو ينشد قصائد للحلاج بلغة تشعر من لا يعرفه أنه تخرّج من كتب التراث الصوفي الإسلامي. السنوات التي قضاها في دير مار موسى الحبشي، والاهتمام الكبير الذي أولاه لنشر ثقافة اللاعنف، والورش التي احتضنها في الدَّير بالتعاون مع الراحل أكرم أنطاكي، وصداقته العميقة مع الشيخ جودت سعيد وسواهم، جعلت من الأب باولو مثالاً فريداً للشباب السوري المتعطش إلى معرفة خارج سياق الجامعة والمدرسة الرسمي.
مسافات طويلة قطعها الأب باولو. ليس رحالة ولا راهباً. إنه مزيج منهما: الإنسان في انتمائه إلى درب الرحمة والمحبة. مدن وبلدات سورية كثيرة زارها وعايش أهلها المقيمين والنازحين إليها، أعانهم وخفف عنهم، ولم يتوان عن مدّ جسور التواصل بينهم، في وقت تكاد تمحي فيه مساحة الكلمات تحت صوت القذائف وهدير طائرات القصف والقتل. ها هو من خلال صورته هذه يصل إلى أقصى شمال شرقي سوريا، إلى بلدة هي أيضاً مثال للسوريين. الأب باولو ليس معتقلاً لدى الكتائب الإسلامية المتطرفة في الرقة، كما تناقلت الأخبار قبل أيام قليلة (لم تتأكد صحة الخبر حتى ساعة كتابة المقال). أحد ما أوصله إلى بيته الجديد، إلى من فتح بيوته لنازحي دير الزور وحمص وحلب ودمشق. إنه في قلب مدينة تشبهه، وربما كانت في جزء من خيالها تنتظره ليتعرف إليها وتتعرف إليه. مدينة هي أيضاً دفعت ثمن مواقفها الشجاعة، ثمن انفتاحها على كل مكونات الشعب السوري وخروجها المستمر ضد نظام القتل الهمجي وضدّ اللعب بالمشاعر القومية والدينية لمصلحة لا تعني السوريين، بل هي ضدّهم، وتمزق وحدتهم الإنسانية، قبل السياسية.
لم تجد عامودا مشكلة في تناغم قومية أبنائها الكردية مع انتمائها الوطني العام للشعب السوري. مشكلة عامودا، هي فقدان هذا التناغم. شخصية الأب باولو مثال عن روح المدينة، وذهابه إلى الرقة لأجل تحويل المثال إلى واقع حقيقي. آخرون، مرضى القوميات والأديان المتطرفون أرادوا لها صورة أخرى، تشبههم ولا تشبهها. غير أنهم فشلوا، وبقيت المدينة كما هي، جريحة وصادقة، منسية وباقية، مكاناً للتلاقي ومد يد العون والترحيب بالضيوف، لا الغزاة ولا الشبيحة ولا المتطرفين، من أية قومية أو دين أو طائفة كانوا. من هذا المكان خرجت التظاهرات. أطفال ونساء، شباب ورجال في مسيرة لم تتوقف، اجتمعوا في هذا المكان الصغير. هاهو صديقهم باولو يحل في المكان نفسه. خرج المقدس من داخل المسجد إلى خارجه، ودخلت صرخات الشارع وارتفعت داخل أرجائه.
تغيرت الحال الآن في “كردستان سوريا” عما كانت عليه في البداية. المواجهات الأخيرة قلبت المنطقة كلها رأساً على عقب. دور حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي pyd محل شكوك، لكن هذا لا يلغي ولا يبرر الجرائم الشنيعة التي ترتكبها “دولة العراق والشام الاسلامية” (داعش) ضد الكرد السوريين. الابتسامة التي لم يجد الانطفاء طريقاً إليها، مصحوبة بشارة النصر تحيط بوجهه. الأب باولو، مثال فريد في تعامله مع الحدث السوري الاستثنائي. سبق له أن زار قرى إدلب وحماه وحلب. جمع السوريين إلى بعضهم البعض وناقشهم في شؤونهم. من الإغاثة والدعم، إلى القوانين وشكل الدولة الجديد الذي يطمح السوريين إلى توليده من رحم معاناة شديدة القسوة.
يعرف الأب باولو السوريين، لا كما يعرفهم الإعلاميون أو الصحافيون. هناك من يأتي ليأخذ صورة، أو يكتب تقريراً عن أمر محدد، ثم يمضي. ما يقوم به الأب باولو أبسط وأقرب إلى هموم السوريين مما يقوم به إعلاميون مستعجلون يلهثون وراء صورة أو خبر. الآن تصلح سوريا لهكذا نوع من الأخبار والمتابعة اليومية. الجثث تغري المصورين،غير أن هناك الكثير مما لا يجد له مكاناً داخل صورة، أو إشارة ضمن خبر. تختزل الأخبار حياة السوريين إلى إحصائيات وأرقام. خبرٌ يحل محل خبر آخر،وحادث يمحو حادثاً أسبق. من كانت العاطفة والدماثة طريقه إلى التعرف والتواصل سيجد في مثال الأب باولو صديقاً وأخاً. مسافر قلبيٌّ، عاشقٌ. ضيف مدينة، هي أيضاً مكان يكثّف اللقاء إلى ما يتجاوز لحظة التصوير.
المدن