عن عسكرة الثورة السورية
راتب شعبو
دخلت الثورة السورية أرضاً زلقة مذ راودتها فكرة التغيير بالعنف واللجوء إلى قوة السلاح. كانت كلما خطت خطوة في هذا الطريق تبتعد خطوة عن المضمون السياسي للثورة وتثقل على القيمة الأخلاقية لها، وتتعثر.
لم يكن غريباً أن يعجز عدد غير قليل من الجنود عن تنفيذ الأوامر العسكرية بإطلاق النار على متظاهرين عزّل، فالكم الأكبر من عناصر الجيش والأمن في سوريا هم ممن يؤدون الخدمة الإلزامية، أي أنهم مدنيون أكثر من كونهم عسكريين، ناهيك بمعاندة النفس البشرية أصلاً الإقدام على قتل أشخاص عزّل لا يأتون ما يسوّغ قتلهم. تكفي هذه الظاهرة دليلاً على نفي اتهامات النظام للحركة الشعبية بأنها مسلحة منذ البداية. ذلك أن من الطبيعي أن لا يتردد الجندي، عادة، في إطلاق النار على من يطلق النار عليه. هنا يمكن تلمس فارق مهم بين “تمرد” الجنود قبل دخول العنف والسلاح على خط الثورة، حيث كان التمرد إنسانياً بصفته الغالبة، وبينه بعدها، حيث بات تمرد الجنود سياسياً بصفته الغالبة. التمرد الإنساني للجندي هو رفض للقتل (تمرد سلمي) أما التمرد السياسي له فهو تغيير وجهة القتل (تمرد عنفي). هذا فارق ذو قيمة أخلاقية وسياسية مؤثرة.
أنتج القمع الوحشي للتظاهرات السلمية ظاهرة الانشقاق أو التمرد أو الفرار العسكري التي خلقت بدورها جيشاً من منشقّين باتوا مطلوبين للقصاص من طرف النظام (القصاص هو الإعدام في الغالب)، الأمر الذي يرتّب عليهم الدفاع عن النفس، بدءاً بالتخفي وصولاً إلى حمل السلاح في وجه طالبيهم. تكثفت إشكالية التغيير وتعقيدات الثورة السورية في هذا المعطى البسيط المباشر الذي هو الجندي المنشقّ. فهو مثال للخيانة التي تستوجب الإعدام من وجهة نظر النظام، ومثال للنبل والمسؤولية الأخلاقية والانحياز الى الحق من وجهة نظر المعارضة. وهو لا مجال أمامه للحياد أو الصمت أو الترقب، يجد نفسه في عين العاصفة إما أن يَقتل وإما أن يُقتل. حين يختار، يصبح هدفاً مباشراً وملحاً لأذرع القتل الشيطانية المتشعبة للنظام، فيُدفع دفعاً للدفاع عن نفسه. لا يتاح له أن يكون سلمياً إلا بشقّ النفس. برغم أهمية ما أقدم عليه هؤلاء الجنود من رفض لأوامر إطلاق النار، مغامرين بحياتهم، إلا أن الثورة قصّرت في إعلاء شأنهم وبلورة رمز لهم وتسمية يوم على الأقل من أيام الثورة باسمهم. في حين كان النظام يطلق النار على من يرفض تنفيذ الأمر ويشيّعه على أنه أحد ضحايا المعارضة المسلحة، في حنكة يجيدها من تمرس في الظلم والكذب.
لا ريب أن تزايد عدد المنشقين قد شكّل عاملاً آخر، يضاف إلى تزايد عدد من يسقطون من المدنيين في التظاهرات وفي مواكب تشييع الشهداء، دفع في اتجاه مرحلة “الدفاع عن النفس”، التي سرعان ما انتقلت إلى مرحلة الهجوم والمواجهات القتالية التي نشهدها اليوم بين جيشين. بصرف النظر عن الأسباب التي دفعت الثورة السورية للدخول في هذا المسار المرير (مما لا شك فيه أن الوحشية التي واجه بها النظام انتفاضة الشعب السوري تتصدر هذه الأسباب)، يتعين علينا التفكير في المآلات الممكنة لهذا المسار. السؤال هو: هل يستطيع “الجيش الحر” التغلب على الجيش النظامي وإسقاط النظام عسكرياً؟ وكيف يصح الجمع بين السلمية والعسكرية في الثورة؟
في الحق أن تشكيل مجموعات مسلحة للدفاع عن النفس وحماية التظاهرات، أثقل على سلمية الحركة وألحقها بمنظومة العنف. لقد دُفع الشعب السوري، دونما تفكر وتدبر، في ممرات تبدو إجبارية (وهي ليست كذلك) رسمتها له من جهة، فظاعة القمع الممارس ضده، ومن جهة أخرى الارتجالية والتبعثر والانفعالية والرهانات الخاطئة التي حكمت مسار الثورة وأرهقتها مادياً وسياسياً وأخلاقياً.
من الواضح أن ما كان يحتاجه “الجيش الحر” كي يتمكن من هزيمة جيش نظامي متماسك إلى حد كبير، ولا سيما في مراتبه العليا، ويتمتع بتوريدات ثابتة من الأسلحة، هو التدخل العسكري الخارجي، على ما جرى في ليبيا. وطالما تأخر هذا التدخل الذي من المرجح أنه لا يحدث، فإن ما حصدته الثورة جراء دخولها مسار العنف المسلح هو:
1 – تسويغ الحل الأمني ضد كل أشكال المعارضة، تماماً كما حصل في ثمانينات القرن الماضي حين نكّل النظام السوري آنذاك بكل التنظيمات المعارضة تحت ستار المواجهة مع حركة “الأخوان المسلمين” المسلحة.
2 – تسويغ المواقف الدولية الداعمة للنظام (روسيا والصين أساساً) الذي يواجه حركة مسلحة، الأمر الذي أربك التحركات الدولية لدعم الثورة في سوريا.
3 – تعزيز مواقف الفئات الموالية للنظام.
4 – إدخال المزيد من التماسك إلى صفوف الجيش النظامي، جراء تعرض عناصره للقتل من جيش آخر.
5 – خسائر بشرية ومادية أكبر.
6 – إضعاف جاذبية الثورة وقيمها ولا سيما في ظل فشل المعارضة في تكريس صدقية كان يمكن، لو توافرت، أن تشلّ فاعلية كذب الإعلام الرسمي وتعوّض عن غياب وسائل الإعلام المستقلة، العربية والأجنبية.
الآن، وقد مشت الثورة السورية خطوات على طريق العنف المسلح. الآن، وقد بدت دول العالم تقتسم سوريا وتتصارع فيها وبأبنائها وتتجه الحال السورية إلى الاستنقاع والتعفن، وتخسر الثورة، بفعل قيادتها المتعثرة أو غياب قيادتها، أهم ما يميز الثورات الآيلة إلى الانتصار، وهو الزخم والتصاعد، ماذا يمكن قيادة الثورة أن تفعل؟
أمام الخذلان الذي عبّر عنه الشعب السوري في جمعته (30/3/2012) من العرب والمسلمين، يبدو أن الطريق السالك الذي يمكن أن تشقه المعارضة السياسية في سوريا بعد أكثر من عام من ضياعها وتجرجرها وراء الأحداث، هو التخلي عن الحلم الليبي المر الذي لا يجلب لسوريا سوى الدمار والتأكل الذاتي، لصالح إعادة إحياء المسار السلمي التونسي والمصري، بأن تتعهد التخلي التام عن السلاح مقابل آليات دولية ملموسة وفاعلة (هذا أمر ممكن عملياً) تضمن التظاهر السلمي والانتخابات النزيهة بمراقبة دولية وبحضور غير مقيد لوسائل الإعلام العربية والدولية. لتكن هذه المطالب البسيطة والأكثر فاعلية من كل الأسلحة، هي مطالب المعارضة، وليس المطالبة بالسلاح التي تعني وعد الشعب السوري بالمزيد من القتل العبثي لأبنائه على طرفي الصراع والدخول في دائرة عنف، ذاتية التوالد، تزيد من إثخان الجسد السوري بالجراح وإثقال الضمير السوري بالآثام. إحياء المسار السلمي واحترامه هو المسار الوحيد الذي يمكن عبره الافادة من الحشد الدولي وراء مبادرة كوفي أنان، المسار الذي يجبر النظام السوري على دفع ثمن فشله السياسي والأخلاقي، والمتمثل أولاً في الفساد المزمن المتعدد الشكل للنظام، وهذا ما يلمسه ويقر به كل سوري أكان موالياً أم معارضاً، وثانياً في اعتماد الحل الأمني والعسكري للحيلولة دون استرداد الشعب السوري حقوقه المسلوبة لعقود من الزمن. وهو أيضاً المسار الوحيد الذي يعيد الى الثورة السورية ما خسرته من قيمة أخلاقية هدرتها أعمال العنف المنسوبة إليها، التي وصلت حداً انعكس في تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية.
الإمعان في عسكرة الثورة عبر المطالبة بتسليح “الجيش الحر” وإيجاد مناطق عازلة وحظر جوي وما إلى ذلك، يسقط الثورة مثلما يسقط النظام، أو قبل أن يسقطه. إنها اللحظة التي يمكن المعارضة السورية أن تعيد للأشياء طبيعتها فتكون قائدة للشارع بدلاً من أن تكون صدى لانفعالاته، وتخرج بمبادرة تخاطب بها شعباً وليس أنصاراً فقط، مبادرة تسحب الذرائع من يد الدول التي تساند النظام السوري وتضع هذا الأخير في موقع لا يجد فيه ما يستر به عريه.
النهار