عن معركة حلب –مقالات مختارة-
عندما يلقي رأس النظام خطاب «النصر» في حلب/ سميرة المسالمة
للمرة الخامسة منذ ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١ وحتى يوم الإثنين الماضي ٥ كانون الأول (ديسمبر) ترتفع أيدي سفيري روسيا والصين معاً معلنين تضامنهما الكامل ليس مع النظام السوري وإنما مع استمرار حرب الإبادة الوحشية التي تشنّ على السوريين عموماً، وفي حلب على وجه الخصوص، تحت غطاء سلاح الطيران الروسي، والميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية، التي تعتبر بمثابة أذرع إقليمية لإيران، و «الحرس الثوري» الإيراني.
لا جديد يقدمه العالم عبر هيئته الدولية (مجلس الأمن)، اللهم إلا مشهد العجز أمام الفيتو السادس لروسيا، مع بعض الخطابات التي تحاول تلوين البؤس بالحزن، وخذلان السوريين في عالم تحكمه دول خمس كبرى، في عالم تعيش غالبيته كأتباع ومستضعفين، لا يستطيعون القيام بأي شيء لوقف سيلان الدم في ثاني مدن سورية، التي تعتبر واحدة من أهم حواضر العالم الثقافية والتاريخية.
وبينما تمضي حلب إلى مصيرها المأسوي والكارثي تحت وابل البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والارتجاجية، التي تحمل توقيع النظام ومسانديه الروس والإيرانيين، تفتح أيضاً صدرها على الضفة المقابلة لرصاص المتقاتلين من فصائل محسوبة على الثورة أو تلبس عباءتها أو هي خنجر في صدرها تماماً كـ «القاعدة» وأخواتها.
وبين أنهار الدم المسفوك في حرب شبه عالمية على الشعب السوري، هناك في حلب يستعد رئيس النظام لخطاب «النصر» خاصّته مستحضراً فيه ما يعتبره بطولته في تدمير حلب، التي احتفي بها كـ «عاصمة الثقافة الإسلامية» عام 2006، سابغاً اللون الأسود عليها، ليمد هو تحت قدميه بساطاً أحمر منسوجاً بدم ولحم جنود جيشه الذين أرسلهم إلى أمهاتهم بأكياس، من أجل ما يعتبر أنها سوريته التي وعد بها جيشه قبل معارضيه برفعه شعار: «سورية الأسد أو نحرق البلد».
المشاركة بحفل «الانتصار» هذا على ما يبدو ليست روسية أو إيرانية فحسب، بل أميركية أيضاً، إذ أضحى المسؤولون الأميركيون يمنحون هدايا الطمأنينة لرأس النظام، من وقت إلى آخر بعد كل هذا الدمار، حيث «العملية السياسية مستمرة والأسد جزء منها»، وفق الوزير جون كيري، علماً أن هذه العملية ليست حديثة الولادة، فهي العملية ذاتها التي أطلقت في جنيف عام ٢٠١٢، أي يوم كان عدد ضحايا هذه الحرب المجنونة أقل من خُمس الأرقام التي صدرتها الأمم المتحدة هذا العام، أي كانت أقل من نحو ثمانين ألف ضحية، بينما باتت اليوم تزيد على أربعمئة ألف ضحية حرب.
وللتأكد من هول ما يحدث في الكارثة السورية يمكن عرض بعض ما ذكرته هذه التقارير، إذ ثمة ما يقرب من ثمانية ملايين سوري يعانون من إعاقة جسدية، ونحو ثلاثة ملايين طفل سوري تحت سن الخامسة أفاقوا على الحياة في ظل الصراع المسلح، و7 ملايين طفل فقير، وما يزيد على مليون طفل محرومين من التعليم. كما تم تدمير نحو ثلث مدارس سورية بالقصف كلياً أو جزئياً، وزاد على ذلك تدمير كل مدارس حلب الشرقية أيضاً خلال الشهر الماضي. وهناك 13 مليون إنسان بحاجة الى المساعدات بينهم 5 ملايين و800 ألف من الأطفال. أيضاً، يوجد أكثر من مليون شخص تحت الحصار، و3 ملايين و900 ألف شخص يعيشون في مناطق يصعب الوصول إليها، وما يزيد على 6 ملايين شخص اضطروا لترك منازلهم والنزوح إلى مناطق أخرى داخل سورية. وما يقارب نصف الشعب السوري تركوا منازلهم في البلاد (نزوح ولجوء) منذ ربيع 2011، وغير ذلك من أرقام مرعبة عن نسبة الفقراء في سورية التي تجاوزت 80 في المئة.
نعم، نحن إزاء العملية السياسية المجحفة ذاتها، لكن بشروط أكثر إجحافاً هذه المرة عما كان الحديث يجري عنه في «جنيف-1»، إذ استبدلت «هيئة الحكم الانتقالي» الكاملة الصلاحيات بـ «حكومة مشاركة» بين النظام والمعارضة، وبالحديث عن صلاحيات بالتفويض يمنحها رأس النظام لهذه الحكومة التمثيلية، أي لم يعد الحديث عن رحيل الأسد وأزلامه بمثابة عادة أميركية للمسؤولين، كما كان سابقاً، بدءاً من الرئيس أوباما مروراً بوزراء خارجيته المتعاقبين، بل هو الآن حديث صريح عن أن الأسد جزء من عملية سياسية. بل إن أوروبا باتت تروج لشكل جديد للحكم، سعياً الى تقليص بعض صلاحيات الرئيس (نظام برلماني)، في حين تعمل بعض الديبلوماسية العربية والغربية على ترويج مشروع استفتاء على مصير الأسد، وهذا الأخير لم يترك المشروع على رغم رفضه له، يمر إلى سلة مهملاته. على عكس ذلك تماماً فقد أخذ سيناريو احتمالات قيامه على محمل الجد، وبدأ بخطة ترويجية له لا تستهدف هذه المرة المؤيدين، بل تستهدف مباشرة ضحاياه في بلاد اللجوء الذين أرغمهم بسياساته على ترك مدنهم والتشرد بحثاً عن وطن بديل. وهكذا يعمل النظام اليوم على مصالحات تقوم بها لجان متخصصة في بلاد اللجوء السوري، سعياً منه ليس فقط لاحتواء الحاضنة الشعبية، بل لتحويلها إلى إحدى نقاط القوة التي يرتكز عليها، فيما لو كان القرار الدولي بالذهاب فعلياً إلى عملية الاستفتاء على مصير الأسد.
نعم، العملية السياسية هي الحل، عندما كانت ضحايا الحرب تقدر بعشرات الآلاف، وعندما أصبحت بمئات الآلاف، وعندما أغلق عداد الأمم المتحدة على ٤٠٠ ألف، متجاهلة أكثر من عشرين ألفاً من ضحايا مجازر الحرب في حلب فقط خلال الأشهر القليلة الماضية، وستكون العملية السياسية بشروط أقل انسانية أيضاً عندما يتجاوز رقم الضحايا المليون، أو تتضاعف كل هذه الأرقام.
بانتظار أن تأتي تلك العملية السياسية، وقد تأتي بثوب أحمر أكثر حتى حدود المليون، وقد لا تأتي، فإن إلقاء خطاب «النصر»، بالنسبة الى رأس النظام، بين أبنية مهدمة تحيط بها شوارع اجتاحتها رياح الموت والدمار الهستيري، قد يبدو أكثر جذباً له من أي حديث عن عملية سياسية.
* كاتبة وإعلامية سورية
الحياة
أوان التحرّر من سورية!/ عمر قدور
بخلاف كل التهويل الذي استبق معركة حلب، لا يثير الهجوم الوحشي عليها في الأسابيع الأخيرة ردود فعل دولية موازية، بل لا يثير حتى ضجة إعلامية غربية أو عربية موازية للحدث. في بداية الثورة، كان مقتل سوريين برصاص الشبيحة أو الاستخبارات يتصدّر وسائل الإعلام، مع ازدياد المجازر صار الأمر اعتيادياً، ومع التوسع في استخدام أسلحة الإبادة الجماعية صار الأمر خارج نطاق الخبر «الساخن» أو العاجل.
قد يروق للبعض ردّ التجاهل فقط إلى أخطاء وقعت فيها الثورة، هؤلاء لا يلحظون انتقادات قديمة للذين يرون مقتل شخص جريمة ولا يرون مقتل شعب، وانتقادات مماثلة تطاول الإعلام الذي يرى في مقتل شخص خبراً مشوّقاً لا يراه في المجزرة. مع الاحتفاظ بأعنف نقد يمكن توجيهه لأداء المعارضة السورية، لنا أن نتخيل مساراً مختلفاً، تقرر فيه الإدارة الأميركية التدخل وفقاً لمصالحها. لقد حدث شيء مشابه في مجازر يوغوسلافيا السابقة، إلى أن قررت إدارة كلينتون التدخل وانشغلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية بقرارها، وعاد الخبر اليوغوسلافي ليحتل الصدارة عالمياً، وليقفز إلى الصدارة أميركياً ويؤسس لرأي عام مساند للضحايا تجلى في استطلاعات الرأي والتظاهرات الأميركية آنذاك.
الإعلام سلطة رابعة محلياً، في الأنظمة الديموقراطية طبعاً، لكن قلّما كان كذلك في ما يخص القضايا الخارجية، فهو لا يرى تلك القضايا خارج منظور السلطة التنفيذية لبلده، إلا إذا صارت قضية ما مثار تجاذب داخلي حاد. في القضية السورية، عندما اتضح نهائياً تخلي المجتمع الدولي عن السوريين، لم تعد مأساتهم خبراً، وفي غالب الأحيان صار الخبر السوري الأهم هو ما يدعم فكرة التخلي، وصارت استطلاعات الرأي التي ترجّح ميلاً غربياً إلى الانكفاء هي السائدة. سيعطي هذا السياق مبرراً قوياً للسوريين لاتهام الغرب حكومات وشعوباً، غير أن المثل اليوغوسلافي السابق يبرهن على حساسية الشعوب الغربية إزاء الظلم متى أتيحت لها معرفة أفضل بما يحدث.
بالتبعية، تقتفي وسائل الإعلام العربية عادة نظيرتها الغربية، وهي أيضاً تستبطن ميول الحكومات الغربية إزاء الحدث، وتستبطن عجز الحكومات المحلية إزاء الإرادة الغربية. لا يندر، ضمن آلية التبعية، أن تتبنى أقلامٌ الرؤية السائدة غربياً للحدث المحلي، وعلى رغم أن سيادة الأقوى ليست بالأمر الطارئ إلا أننا نكون عادة تحت سيادة الأقوى والأقل إنسانية تحت زعم الواقعية السياسية. الحدث السوري ينتقل بموجب ذلك من حدث ضحية إهمال عالمي إلى حدث ميؤوس منه بذاته، وهذا ميل إلى الأقوى تصعب مقاومته على المدى البعيد.
وسط هذه الظروف المحيطة بالقضية السورية، وفي حال استمرار الموقف الدولي حيالها، وهو المرجح، قد نصبح أقلية صغيرة، يُنظر إليها بإشفاق، قليل منه إنساني وأكثره بذريعة الواقعية يشفق على عقولنا التي لم تعد تتسم بالواقعية. هذا التذرع بالواقعية كان قد بدأ فعلاً مع أقوال من نوع «لم تعد هناك ثورة»، ثم «الصراع لم يعد سورياً ولم يعد للسوريين تأثير فيه»، إلى آخر ما هنالك من أقوال تهدف عن قصد، أو بحسن نية، إلى طي صفحات من القضية السورية لمصلحة الخاتمة المنتظرة.
هناك من كان يتربص بانتظار إنهاء القضية السورية، والآن تظهر الفرصة مواتية كأنه حقق نصره الشخصي الخاص. لكن، هناك أيضاً من كان بصدق مع الثورة، وليس ملزماً بالبقاء معها إلى ما لا نهاية. أصحاب الاحتمال الثاني تقدّم لهم الواقعية أيضاً حلاً للتحرر من العبء السوري، فحمل هذا العبء الأخلاقي مرهق أصلاً، ويزداد ثقله كلما تضاءلت فرص حل عادل للقضية السورية. اليأس قد يحرر كثيرين من العبء، ومنهم سوريون يحتاجونه ليفتحوا صفحات جديدة في حيواتهم، صفحات لا تؤرقها ذكريات أليمة ماضية. ثم، إن طول المقتلة السورية لا بد أن يكون قد أرهق الوجدان، وهناك من يتمنى توقفها بأي ثمن هرباً من ضحايا جدد يوالون التذكير بها.
ما سبق واقعي إنسانياً، ولا ينبغي نكرانه، بل ربما ينبغي التحسب له مع عدم التخلي عن القضية التي سقط من أجلها أولئك الضحايا. هنا صراع على ألا تتحول الهزيمة الكبرى، إذا حدثت، إلى هزيمة نهائية ويأس شامل، وإلا يكون الثمن الباهظ قد دُفع بلا مقابل. المسألة لا تتوقف على الشعارات، ومن جهة أخرى لا تتوقف عند موازين القوى الدولية والإقليمية الحالية كأنها أبدية، أو كأنها غير قابلة للتعديل. هذا الحجم من الضحايا ليس إنجاز الثورة على أية حال، هو إنجاز النظام وحلفائه مع تواطؤ دولي، وينبغي العمل على أن يدفع كل طرف مساهم قسطه من خلال جهد يمنع طمس الجريمة. إذ نفعل ذلك، فهو ليس تعصباً للضحايا السوريين، إنه سعي من أجل عالم لا تحدث فيه مجازر أخرى. وإذا كان دائماً هناك من يذكّرنا بمجازر سابقة أفلت مجرموها من المحاكمة، فهذا حافز كي يبقى التذكير قائماً وواجباً، وكي لا تطمئن البشرية على العموم إلى أنها بلغت من الرقي ما يكفي، أو أن إغلاق الباب يعني أن ما من شيء يحدث خارجاً.
العبء لا يقع على أفراد، بقدر ما يجب بقاؤه على كاهل البشرية ككل. طي ملف الجريمة السوري يعني أن آخرين سيتعرضون للمجازر أيضاً، وهذه ليست بشرى سارة لأحد، وليست بشرى سارة حتى لمجتمعات تظن نفسها خارج الاستهداف. الواقعية أيضاً تقضي بأن ننظر إلى المسألة من جانبها الأوسع، وألا نعتبر القضية السورية تفصيلاً لا شأن له، فالتعاطي معها لم يكن شأناً سورياً بحتاً، لقد كان منذ سنوات شأناً دولياً.
بغير التجاهل، ربما تكون الغالبية الساحقة من السوريين تواقة إلى التحرر من سورية. ربما لا أحد من المتورطين في سوريته إلا يتمنى الخلاص من هذا العبء سريعاً، فلا مفخرة أساساً في تحمله. نعلم أن أفضل الأوطان تلك التي أصبحت بديهية، ولا يتطلب وجودها أية تضحية أو حتى مجرد التفكير بها، هكذا ستكون الحال عندما تتحرر سورية أيضاً، ويتحرر أبناؤها منها. ضمن هذا الشرط، من حقنا أن نحلم بألا تكون بلادنا في رأس الأخبار أو في ذيلها.
الحياة
الكماشة الحلبية: ما خفي يظل أعظم!/ صبحي حديدي
بدأت مشاركة مدينة حلب في الانتفاضة الشعبية السورية منذ نيسان (أبريل) 2011، خلال الأسابيع الأولى التي أعقبت تظاهرات درعا واللاذقية ودير الزور وحماة وحمص وريف دمشق. وفي تموز (يوليو) 2012، تمكنت فصائل «الجيش السوري الحر» من تحرير نصف المدينة تقريباً، وبقي الكرّ والفرّ هو المبدأ الناظم؛ حتى نهاية 2013، حين شرع النظام في حملة البراميل المتفجرة. التطورات اللاحقة تضمنت اختلاط الأوراق، مع دخول وحدات «حزب الله»، وضباط «الحرس الثوري» الإيراني، والميليشيات شيعية المذهب إلى جانب النظام؛ في مواجهة مجموعات، متشرذمة ومتنافسة، من الجيش الحرّ والفصائل الإسلامية و«داعش» وميليشيات «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردية. وأمّا التطور البارز في ملفّ حلب، عسكرياً على الأقلّ، فقد كان التدخل العسكري الروسي في أيلول (سبتمبر) 2015، وشروع موسكو في حملة قصف جوي واسعة النطاق، أسفرت ـ بين نتائج أخرى ليست قليلة الأهمية ـ عن قطع طريق الإمداد الوحيد الذي يغذّي المعارضة المسلحة داخل المدينة.
وإلى جانب هزال البعد السياسي خلف هذا المشهد العسكري في حلب، من حيث حصة المدينة في مشاريع التفاوض والحلول والتسويات، كان العنصر الأكبر الغائب هو الوضع الإنساني لمئات الآلاف من المدنيين؛ المحاصرين، عملياً، بين فكّيْ كماشة، أياً كان ولاء المنطقة التي يقيمون فيها، تحت سلطة النظام أم المعارضة. ولقد حدث مراراً أنّ هؤلاء كانوا أولى ضحايا الصفقات التي أعقبت «انتصار» هذا الطرف أو ذاك، كما في وقائع قنص الأبرياء الذين صدّقوا وعود النظام من أنّ طريق الكاستيلو بات آمناً لخروجهم من المدينة، أو ما تذكره اليوم تقارير منظمات حقوقية دولية حول فقدان المئات من المواطنين في المناطق التي استردها النظام من المعارضة مؤخراً.
وإذا كان هذا المآل هو الوحيد المنتظَر من قوى النظام وحلفائه، حيث يشيع السلوك الفاشي وفلسفة التطهير المذهبي؛ فإنّ المآلات المقابلة، التي نجمت وتنجم عن صراعات الفصائل المسلحة بين بعضها البعض، وارتهان معظمها لحسابات إقليمية متقاطعة ومتغايرة، وفساد أو شلل مؤسسات «المعارضة الرسمية»… لم يكن أقلّ وطأة على المواطن الحلبي، الحائر بين اشتراطات الحياة اليومية، في المقاومة والصمود والحصار والمجاعة؛ وبين آلة إفناء وحشية لا تُبقي حجراً على حجر، من السماء والأرض على حدّ سواء.
وثمة، في قلب هذه الكماشة الحلبية، رهانات واستيهامات حول كسب المعركة الحالية لصالح النظام (أو بالأحرى: لصالح موسكو، أولاً!)، ليس في ساحة قتال حلب وحدها، بل على صعيد نجاح النظام في «حسم» كامل الحرب؛ وبالتالي إقفال السنوات الست من عمر الانتفاضة الشعبية، على نحو يعيد إنتاج النظام، ويعيد تأهيله. تُنسى، في غمرة هذه القراءة، الكسيحة حسيرة النظر، حقيقة كبرى أخذت تترسخ أكثر فأكثر كل يوم، وتشير إلى أنّ الشعب السوري لم يعد معنياً باستكمال الانتفاضة ضدّ نظام الاستبداد والفساد والفاشية، فحسب؛ بل بات مطالَباً بخوض حرب تحرير شعبية ضدّ استعمارات خارجية شتى، قوامها كلّ القوى الغريبة على أرض سوريا.
ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء حتى يدرك أنّ قاسم سليماني، وليس أياً من الجنرالات مجرمي حرب النظام، هو رئيس الأركان الفعلي في معركة حلب؛ وأنّ سيرغي لافروف هو وزير خارجية هذه المعركة، وليس أياً من ساسة النظام، بما في ذلك بشار الأسد نفسه؛ وأنّ رجب طيب أردوغان، وليس أياً من «أصدقاء الشعب السوري»، هو الإنكشاري الإقليمي الأقوى الذي يحمل في جيبه «بيضة القبان» بصدد الاتجار بمصير حلب… وأمّا آل الأسد، وتسعة أعشار شخوص النظام، فلم يعودوا أكثر من عملاء صغار، وبيادق مجندة، وأدوات مسيّرة، وظلال باهتة لا حول لها ولا طول.
هذا غيض من فيض ما تنطوي عليه الكماشة الحلبية، والأرجح أنّ ما خفي فيها سوف يكون أعظم، وأدهى!
القدس العربي
ماذا تريد مختلف القوى الفاعلة بعد حلب؟/ بكر صدقي
باستخدام روسيا والصين حق النقض في مجلس الأمن بشأن الصراع الدائر على الأراضي السورية، للمرة السادسة والخامسة على التوالي، يكون مصير حلب الشرقية قد تقرر من وجهة نظر الحلف الأسدي ـ الإيراني ـ الروسي، مقابل عجز القوى الإقليمية والدولية المناوئة لهذا الحلف عن فعل شيء لتغيير هذا المصير. الأمر الذي يعني، عملياً، التسليم للحلف المذكور بحقه في تقرير مصير حلب، بوصفها آخر مركــز حضري مهم على الحدود الشرقية لـ«سوريا المفيدة».
ولن تغير في هذه المعادلة، النبرة العالية لممثلي الدول الغربية في مواجهة موسكو التي سارعت إلى امتصاص هذه الموجة بإعلان سيرغي لافروف عن «وقف العمليات النشطة» للقوات السورية في شرقي حلب، تمهيداً للاجتماع المزمع مع الأمريكيين في جنيف يوم السبت. هذا الاجتماع الذي من المتوقع أن ينتج عنه توافق روسي ـ أمريكي جديد فحواه إفراغ حلب الشرقية من المقاتلين والأهالي، بلا قتال. وهو ما يعني استكمال الخطة الأسدية للتغيير الديموغرافي الذي شمل مدناً عدة غرب دمشق وحمص. بكلمات أخرى: القوى الإقليمية والدولية التي كان يفترض أنها تسعى إلى الإطاحة بنظام الأسد، أو مساعدة المعارضة على الإطاحة به، تبذل جهدها اليوم لتأمين استسلام الفصائل المسلحة في حلب وخروجها، رفقة من تبقى من المدنيين، ليستعيد النظام سيطرته على شرق المدينة بلا قتال.
تبقى العقدة الوحيدة المستعصية، إلى لحظة كتابة هذه السطور، هل ستقبل الفصائل المسلحة بصفقة الاستسلام هذه؟ ونعرف أن تلك الفصائل التي أنهكتها الصراعات البينية، حتى في أشد ظروف الحصار قسوةً، خاضعة إلى حد كبير لإملاءات الجهات الراعية والممولة. والأمثلة السابقة، في الجبهة الجنوبية وفي «درع الفرات»، لا تبشر بخير. أضف إلى ذلك ضغط المسؤولية الأخلاقية عن حياة المدنيين المهددين بالموت إذا قررت الفصائل البقاء والصمود، هذا إذا جاز الحديث عن أي اعتبار يمكن أن تقيمه لتلك المسؤولية.
تأخر ثوار حلب كثيراً قبل أن يعلنوا توحدهم في إطار «جيش حلب» بعد التقدم السريع للميليشيات الشيعية الحليفة للأسد في الأحياء الشمالية من شرق المدينة. وهي وحدة شكلية (ربما أقل مستوى حتى من غرفة عمليات مشتركة) بالنظر إلى أن مفاوضات أنقرة مع الروس خاضها ممثلو الفصائل، وليس وفداً موحداً باسم جيش حلب. ومن المحتمل أن الهدف من تشكيل الجيش المذكور كان دمج مقاتلي جبهة النصرة لتفادي الطلب الروسي المدعوم أمريكياً وتركياً بإخراجهم من شرق حلب شرطاً لوقف القتال وإدخال المساعدات. لكن هذه «الشطارة» انقلبت على أصحابها حين أصبح الروس يطالبون بخروج جميع المقاتلين، لا مقاتلي النصرة وحدهم. تنظر روسيا، على أي حال، إلى كل من يحمل السلاح ضد نظام الأسد بوصفه إرهابياً، في حين يضيف إليهم النظام المذكور كل معارضة سياسية أو مدنية أيضاً، بمن فيهم العاملون في المجالات الطبية والإغاثية والدفاع المدني، أما المدنيون في مناطق سيطرة فصائل المعارضة فهم «حواضن اجتماعية» للإرهاب، بما يجعل كل ما يتحرك في تلك المناطق أهدافاً مشروعة من وجهة نظر النظام وحلفائه وحاضنته الاجتماعية معاً.
الخلاصة أن القرار بالسيطرة على كامل مدينة حلب قد صدر من روسيا، وهي تسعى إلى إنجاز هذا الهدف في الفترة القصيرة المتبقية قبل انتقال السلطة في واشنطن إلى الإدارة الجديدة للرئيس المنتخب دونالد ترامب. وبالنظر إلى استسلام «المجتمع الدولي» وكذا ممولي المعارضة من القوى الإقليمية أمام البلطجة الروسية، قد يتم هذا الإنجاز بأسرع من المتوقع في حال نجحت صفقة التسليم بلا قتال، أي في غضون الأيام القليلة المقبلة.
من زاوية نظر إنقاذ حياة من تبقى من المدنيين في الأحياء الشرقية، سيكون ذلك تطوراً إيجابياً، مع العلم أن النظام لن يترك ما يعتبره الحاضنة الاجتماعية للإرهاب تهنأ بالنجاة من أذاه. هذا ما رأيناه في موجة النزوح من الأحياء الشمالية الشرقية، حين قام النظام باعتقال المئات منهم، غير المجازر التي ارتكبها بحق عشرات الفارين، وأكثرهم من النساء والأطفال، والقتل الانتقامي ممن لازموا بيوتهم بعد سيطرة الميليشيات على أحيائهم.
أما من وجهة نظر الثورة، فسوف يشكل الاستسلام المفترض انتكاسة كبيرة لا بد أن تنعكس على معنويات كل السوريين المعارضين للنظام. وإن كان الصراع لن ينتهي بسيطرة النظام على شرقي حلب.
بالمعنى الاستراتيجي ستعني سيطرة النظام على كامل مدينة حلب، انتهاءه عملياً من رسم حدود «سوريا المفيدة» الممتدة على طول الخط الواصل من دمشق إلى حلب، مروراً بحمص وحماة، لتبقى جيوب متفرقة ومعزولة في بعض أرياف تلك المدن الرئيسية، لا تشكل استعادتها مهمة ملحة، بقدر ما تشكل مناطق أكثر أهمية كمحافظة إدلب والمناطق القريبة من دمشق وصولاً إلى الحدود الأردنية في أقصى الجنوب.
تقع خارج «سوريا المفيدة» مبدئياً، المناطق الشرقية الواقعة تحت سيطرة تنظيم «الدولة» وكذا مناطق سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) الممتدة من أقصى الشمال الشرقي إلى بعض ريف حلب الشرقي والشمالي، وهي مناطق ذات غالبية كردية، وأخرى مختلطة عربية ـ كردية، وثالثة عربية لكنها تحت سيطرة الإطار التحالفي المسمى «قوات سوريا الديمقراطية» وتشكل وحدات الحماية (الكردية) عمادها الأساس. وأخيراً هناك الجيب الحدودي الذي يسيطر عليه الأتراك في الريف الشمالي لحلب، ويمتد من جرابلس إلى إعزاز عرضاً، ولم يتحدد عمقه جنوباً إلى اليوم. ففي تلك المنطقة (منبج والباب وما يحيط بهما من قرى) تتنازع ثلاث قوى هي فصائل «الجيش الحر» المعززة بوحدات قتالية تركية، و«قوات سوريا الديمقراطية»، وتنظيم «الدولة». ومن المحتمل أن مصير هذه البقعة متروك لنتائج الصراع بين القوى المذكورة، وما يمكن أن ينشأ من تسويات بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة. كما أن مستقبل العلاقة بين النظام ووحدات حماية الشعب (الكردية) غير محسوم، على الرغم من التحالف التكتيكي الذي جمعهما في السيطرة على الأحياء الشمالية الشرقية من مدينة حلب. فالنظام لن يقبل، على الأرجح، ببقاء عدة أحياء من المدينة تحت سيطرة الحزب الكردي الذي أعلن إدارته الفدرالية على مناطق سيطرته، وكذا بالنسبة لإيران التي لديها مشكلتها الكردية الداخلية. سيكون لرأي موسكو الدور الحاسم في تنظيم العلاقة بين الطرفين، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الفصيل الكردي متحالف مع الولايات المتحدة، وأحدث الأخبار تتحدث عن احتمال تزويده بصواريخ «ستينغر» المضادة للطائرات المحمولة على الكتف. إذا تحقق ذلك سيكون معناه حماية المناطق الكردية من الطيران التركي، بما أنها لا تواجه خطراً من طيران النظام أو الطيران الروسي.
في حين يريد حزب الله الإيراني في لبنان السيطرة على جبال القلمون المحاذية للحدود اللبنانية، يحول دون ذلك العامل الإسرائيلي الذي لم يكف عن تذكير القوى المتصارعة على الأرض السورية بمتطلبات أمنها القومي، بواسطة غارات جوية أو صاروخية على مواقع في دمشق ومحيطها، كان آخرها قصف مطار المزة العسكري لشل عملية نقل مفترضة لـ«أسلحة دمار شامل» من سوريا إلى لبنان.
هناك أخبار متواترة عن انتشار سماسرة يعرضون بيع عقارات في حلب الشرقية، حتى قبل اكتمال سيطرة النظام عليها. وبالنظر إلى سوابق مماثلة في دمشق وحمص وغيرها من المناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها، يمكن توقع محاولة إيرانية لتوطين شيعة في المناطق المنكوبة بما يخدم استراتيجية التغيير الديموغرافي التي يتشارك فيها النظام مع الإيرانيين. هذا ليس من المبالغات إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن بشار الأسد بات يتحدث علناً وبصورة متواترة، في الأشهر الأخيرة، عن «تحسن التركيبة السكانية وانسجامها» بالقياس إلى ما قبل الحرب. ونفهم كلامه هذا إذا تذكرنا أن نحو ستة ملايين سوري، غالبيتهم الساحقة من الأكثرية السنية، تشردوا في المنافي، ومثلهم من النازحين الداخليين الذين يستبعد أن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم بعد نهاية الصراع.
الخطة التي قدمتها مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية فيديريكا موغريني تتضمن حوافز لإنهاء الصراع بخصوص تمويل إعادة الإعمار الذي يقدر أن يكلف مئات من مليارات الدولارات. وهو ما لا يمكن لروسيا أو إيران، أو كليهما ومعهما الصين، أن يتحملوا أعباءه. هذا ما سيرغم الروسي على البحث عن توافق ما مع الأمريكيين والأوروبيين ودول الخليج العربية. لكن جميع المذكورين باتوا أقرب إلى تقبل بقاء بشار الأسد في الحكم لفترة خاضعة للمساومات، مع إجماع جميع الأطراف على ضرورة الحفاظ على النظام تحت الاسم المخادع «مؤسسات الدولة». الخلاصة أن ما بعد حلب يراد له أن يكون استكمال سيطرة النظام على «سوريا المفيدة» وإجراء تسوية سياسية على أساس بقاء النظام. هذه وصفة فاسدة وغير قابلة للحياة مهما بلغ جبروت الاحتلال الروسي ـ الإيراني، ومهما بلغ «المجتمع الدولي» من استسلام أمام منطق القوة الوحشية العارية.
منذ الآن شاعت توقعات عن تحول الحرب في سوريا إلى حرب عصابات طويلة لا نهاية لها. وهو توقع يملك كل أسباب الوجاهة، بالنظر إلى كل التجارب التاريخية التي ينهى فيها الصراع بسحق طرف لآخــر، من خلال تسويات الإذعان والاستسلام. ليس فقط السلفيون الجهاديون يمكنهم الانتقال من حرب كلاسيكية إلى حرب السيارات المفخخة والاغتيالات والتفجيرات الانتحارية، بل كذلك غير إسلاميين أرادوا لبلدهم أن ينتقل من الوحشية الأسدية إلى دولة الحرية والكرامة، ويراد لهم القبول ببقاء نظام دمر البلد وباع أشلاءه لكل شذاذ الآفاق.
القدس العربي
السيطرة على حلب تُكمل ‘الكوريدور’ الشيعي الإيراني/ باسل العودات
منذ أن انطلقت معارك الموصل في العراق في الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي، وقبول الولايات المتحدة بدعم هذه المعارك التي يُشارك فيها نحو 60 ألف مُقاتل، أكثر من نصفهم من ميليشيات الحشد الشعبي المرتبطة بإيران، بدأت وسائل الإعلام التابعة والمُقرّبة من النظام السوري، وتلك التابعة للحكومة العراقية، وبالطبع القريبة من الإيرانيين، تؤكد أن قيادات تنظيم داعش في العراق بدأت تنتقل، أفرادا وجماعات، إلى حلب والرقة شمال سوريا.
حاولت هذه الجهات الإيحاء بأن حلب والرقة وما حولهما، أصبحتا مرتعا ومركزا تجميعيا لتنظيم القاعدة وقياداته. واللافت أن النظام السوري والحكومة العراقية، والمسؤولين فيها تبنّوا هذه التأكيدات وركّزوا عليها بشكل كبير.
تجاهلت وسائل الإعلام هذه، والمسؤولون السوريون والعراقيون بعض الحقائق، منها أن المسافة بين الموصل والرقة هي مئات الكيلومترات من الأراضي الصحراوية، التي تحتاج لوقت كبير لعبورها، وهي مكشوفة لكل أنواع الطيران الذي يحوم ويسيطر على أجواء تلك المنطقة، وأيّ قوافل من هذا النوع ستكون أهدافا سهلة، بالإضافة إلى أن كل أبناء المدن التي تقع في محيط هذا الخط المروري لم تلحظ أيّ انتقالات أو تحركات مشبوهة في المنطقة.
الأمر دون شك، يقع ضمن استراتيجية يرسمها كل طرف من أطراف النزاع حول سوريا، فالمناطق التي تفصل مقاتلي داعش في الموصل عن سوريا تتواجد فيها قوات كردية وأخرى للجيش الحرّ وكذلك قوات للنظام، وما حصل هو العكس تماما، حيث شهدت مراصد سورية حركة عكسية من سوريا للعراق للتنظيم.
وقد أكّدت وزارة الدفاع الفرنسية أن المئات من عناصر داعش انتقلت من سوريا إلى العراق لتعزيز صفوف التنظيم في مدينة الموصل، وقالت إنها رصدت انتقال مقاتلين من سوريا إلى العراق وليس العكس، وشدّدت على ضرورة الحدّ من خطر شائعة انتقال عناصر التنظيم من الموصل إلى سوريا.
في العراق، تركت قوات التحالف غرب الموصل مفتوحا باتجاه سوريا، وهذا مفهوم في استراتيجيات إدارة الحروب لفتح المجال أمام العدوّ كي يهرب، إلا أن البغدادي، زعيم التنظيم فاجأ الجميع، وأظهر عدم صحة ما أشاعه النظامان السوري والعراقي عن هروب مقاتليه إلى سوريا. إذ تبيّن أنه لم يُغادر الموصل، لا هو ولا قيادات التنظيم ومقاتليه.
الحافلات الخضر لجعل مدن سوريا جرداء من أهلها
مقابل ذلك، حذّر سكّان مناطق شمال سوريا ومراصد حقوقية سورية، أن ما يجري حقيقة هو إرسال أكثر من خمسة آلاف من المقاتلين الإيرانيين والعراقيين وتحديدا من الحشد الشعبي نحو سوريا، للقتال إلى جانب النظام ولدعم حزب الله اللبناني الذي يحاول مع النظام السوري السيطرة على مدينة حلب شمال سوريا.
تسعى الميليشيات التابعة لإيران وللنظام السوري للسيطرة على حلب، بمساعدة أساسية من سلاح الجوّ الروسي، ليس لقلب موازين القوى مع المعارضة السورية وحسب، رغم أهميته، لكن الهدف الأبعد هو إنجاز “الكوريدور” الشيعي من إيران إلى المتوسط، وهذا ما سيتم لهم في الغالب الأعم، فعندما تتم السيطرة على حلب، سيكون هذا “الكوريدور” (الهلال) قد أُنجز بالفعل. وبات بإمكان إيران ربط أول الطريق بطهران، ليمر بالعراق فسوريا وصولا إلى الحدود الفاصلة بينها وبين لبنان والتي تسيطر عليها ميليشيات حزب الله.
وكعادته مع كل مواجهة مع النظام السوري، سينسحب تنظيم الدولة الإسلامية فجأة ويختفي، على طول هذا الممر وحوله، كما اختفى في مناطق أخرى فجأة عندما حاول النظام السوري وإيران وروسيا السيطرة عليها، مثل تدمر والقلمون وغيرهما.
يترافق كل هذا، مع تغيير ديموغرافي في سوريا، يقوم به الأكراد والنظام السوري، بخطة متزامنة ويبدو أنه متفق عليها بين الطرفين، حيث يتم تهجير السّنة من كل المناطق التي يهيمن عليها الطرفان، بدءا من شرق سوريا وصولا لأقصى غربها. ويُنقل المُهجّرون إلى أقصى شمال سوريا.
ومن يراقب الوقائع العراقية يعرف أن نفس هذه المُهمة تُنجز هناك أيضا، ويُنقل المُهجّرون إلى إقليم كردستان العراق أو إلى شمال سوريا، وهو يتوافق تماما مع “الجسر الإمبراطوري” الذي تسعى طهران لإقامته عبر الحروب ونشر الإرهاب في المنطقة عبر تنظيم الدولة الإسلامية الذي لم يُقاتل النظام السوري ولا مرة منذ وجوده على الأرض السورية.
سعت روسيا منذ أشهر لدعم النظام السوري لاستعادة حلب، لما لها من أهمية استراتيجية مؤثرة على كل الصراع. لكنها بعد التجربة أدركت أن النظام السوري لا يملك القوات العسكرية الكافية للسيطرة على المدينة، ما يعني أن سقوطها سيفسح المجال للميليشيات الإيرانية والتابعة لها لتقتحم المدينة وتُهمين عليها. ومع أن هذا لا يتناسب نهائيا مع الاستراتيجية الروسية، إلا أن روسيا لم تفعل شيئا.
الموقف الغامض الآخر هو الموقف الأميركي، الذي لم يُعلن أيّ اعتراض تجاه سيطرة الإيرانيين على المدينة الثانية الأكبر في سوريا، ولا تجاه ما يقوم به حزب الله. ويستمر في إعلان الحرب ضد داعش فقط دون أن يُفكّر في وقف الإرهاب الناتج عن الميليشيات التابعة لإيران..
أولوية روسيا وإيران والنظام السوري، وأكثر من 66 تشكيلا طائفيا مقاتلا مرجعيتها إيران، ليست القضاء لا على داعش ولا حتى على (جبهة فتح الشام-النصرة)، وإنما القضاء على فصائل المعارضة السورية بكل أنواعها وتلاوينها، الذي ثبت أنها الوحيد التي تُقاتل ولا تزال هذا التنظيم في سوريا. وهذا الأمر يجعل السؤال يتردد، ليس عند السوريين فقط، وإنما على مستوى أعمّ، هل ما يجري في الموصل في العراق وفي حلب والرقة في سوريا، هو معركة ضد الإرهاب، أم “توظيف” لأهداف تخدم الهلال الشيعي الإيراني، وهل روسيا مشاركة به، أم أنها تورطت فيه ولم تعد تدري كيف تُعدّل المسار. ومهما كان السبب، فإنه سيكون لهذا “الكوريدور” الذي قدّمته روسيا مجانا لإيران تداعيات خطيرة على المنطقة واستقرارها.
كاتب من سوريا
العرب
حلب والمغول القادمون من الغرب/ ناصر الرباط
مأساة حلب تتصدر الأنباء كما تصدرتها مآسٍ سابقة مرات عدة في تاريخها الطويل. فالمدينة الرائعة تعرضت لغزوات مدمرة. لكنها كانت تقوم كل مرة وتبنى مجدداً. نعرف أنها في تاريخها الموغل في القدم تعرضت لغزوات عدة، بعضها كان ساحقاً ومدمراً أكثر من غيره، لكن معلوماتنا عنها لم تتعدّ إشارة مقتضبة في سجلات المصريين القدامى أو الحثيين أو الآشوريين وبعض بقايا متفحمة لقواعد أبنية اكتشفت بالصدفة عند تشييد مبنى جديد، خصوصاً أن المدينة القديمة اليوم ما زالت قائمة على موقع المدينة نفسه الذي يعود إلى الألفيتين الثالثة والثانية قبل الميلاد، إلى أن اكتشفت بعثة ألمانية معبداً حثيّاً كاملاً لإله العواصف حدد عام ٢٠٠٣ على عمق عدة أمتار تحت مستوى أرض القلعة الحالي. ومنه عرفنا أن حلب كانت مركزاً دينياً وطقسياً مهماً خلال الفترة الحثية حتى منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد.
نعرف أيضاً أن حلب أينعت وازدهرت خلال الفترتين الهيلينستية والرومانية عندما بنى مؤسس الدولة السلوقية مستعمرة قربها اسمها بيوريا، على اسم مدينة فيليب المقدوني في مقدونيا. وطغى الاسم الجديد على الاسم القديم لألف عام إلى أن جاء الفتح الإسلامي واستعادت المدينة اسمها السامي.
أصبحت حلب إمارة شبه مستقلة في القرن التاسع تحت حكم الحمدانيين والمرداسيين، واستعادتها بيزنطة لفترة قصيرة نهاية القرن العاشر. حاول الصليبيون فتحها مرتين، لكنها صمدت بفضل أسوارها وقلعتها الحصينة. ومنها بدأ نور الدين محمود ابن زنكي بناء دولته منتصف القرن الحادي عشر لحشد المقاومة الإسلامية ضد الصليبيين قبل أن ينقل عاصمته إلى دمشق عام ١١٥٤ لقربها من مسرح العمليات في فلسطين. لكن حلب لم تصمد أمام الغزو المغولي بقيادة هولاكو، حفيد جنكيزخان، الذي وصل إليها بداية عام ١٢٦٠ بعد استيلائه على عاصمة الخلافة بغداد عام ١٢٥٨ وقتله المستعصم، آخر خليفة عباسي فيها. حاصر هولاكو حلب حصاراً شديداً وضربها بالمنجنيقات واحتلها بعد أسبوع، ليستبيحها جيشه أسبوعاً كاملاً قتل فيه معظم سكانها المسلمين ودمر أحياءها. ولم تعد المدينة للنهوض إلا مع الأسرة القلاونية المملوكية في القرن الرابع عشر ليهاجمها تيمورلنك عام ١٤٠٠ ويستبيحها أيضاً لعدة أيام قتل فيها عساكره عدداً كبيراً من سكانها، ويقال إن تيمورلنك بنى برجاً من جماجم عشرين ألف قتيل.
هاتان الغزوتان المغوليتان الرهيبتان ما زالتا محفورتين في الذاكرة الجمعية السورية حتى اليوم، تستعادان كلما حلت بحلب، أو بسورية، مصيبة، وتقارن بهما، كما حدث في مذابح الفترة العثمانية أو بداية ثمانينات القرن المنصرم حينما عاقب جيش الأسد الأب حلب على وقوف عديد أهلها مع الإسلاميين الذين حاربوه، كما حصل لغيرها من المدن السورية قبل أن ينقض حافظ الأسد (أو أخوه رفعت بالأحرى) على مدينة حماة عام ١٩٨٢ ليعاقبها بشدة على ثورة إسلامييها قاتلاً من سكانها بين 20 الفاً و40 ألفاً ومدمراً أحياء تاريخية بأكملها، كما فعل المغول قبل قرون في حلب وحماة.
لكن الغزوة الجديدة اليوم مختلفة عما سبقها كماً ونوعاً. فهي جبارة ويبدو أنها لن تنتهي إلا وحلب القديمة وأحياؤها الشرقية مدمرة تدميراً تاماً، وفيها من الضغينة والانتقام الكثير، إذ تتجمع أطراف حاقدة على حلب وأهلها لأسباب مختلفة، الكثير منها تاريخي وبعضها متخيل. فهناك قوات النظام الأسدي الذي يريد استعادة سيطرته عليها بغض النظر عن الثمن من أرواح الأهالي لكي يكمل بسط سيطرته على ما يُسمى سورية المفيدة ويترك شرق البلاد لـ «داعش». وحلفاؤه من «حزب الله» ومرتزقة العراق والأفغان والباكستانيين ومن جر جرهم حاقدون على المدينة لميلها عن مذهبهم، ناسين أو متناسين أن ذلك حصل قبل قرون وأن أهل المدينة بنتيجة الأمر مسلمون مثلهم. وهناك الإيرانيون الذين، وإن كانوا أكثر تبصراً من أزلامهم المحليين، إلا أنهم كما يبدو يعملون بوحي تلك الضغائن الشعبوية القديمة ويهدفون، كما الأسد، لإعادة تشكيل سورية على مقاسهم المذهبي الضيق الأفق.
أما الروس فيستحقون حقيقة لقب المغول الجدد. فهم يقصفون المدينة ومحيطها القريب والبعيد كما قصف الألمان لهم مدينة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية. وهم يجربون كل أسلحتهم الجديدة الــفتاكة بأحجار حلب ولحوم أهلها ويقيّمون أداءها على الأغلب بالعدد الذي تقتله وبمدى ما تدمره في المدينة وضواحيها. وهم لا يقيمون وزناً للفرق بين أهداف مدنية وأخرى عسكرية، بل يتجاهلون المشافي والمدارس والمخابز والمعامل زاعمين بإصرار أنها كلها أهداف مسوغة وأنها كلها مواقع إرهابيين. وهم يصمون آذانهم ويغلقون عيونهم عن أي دليل يثبت إجرامهم، بل يتبجح سياسيوهم وممثلوهم في المحافل الدولية بانتصاراتهم على أهل المدينة، ويرفضون بإصرار الإقرار بما أصبح واضحاً تماماً من أنهم يريدون إنهاء وضع الثوار في حلب قبل تسلّم الإدارة الأميركية الجديدة مسؤولياتها في كانون الثاني (يناير) المقبل، على رغم الود المتبادل بين بوتين وترامب.
هؤلاء المغول الجدد يستخدمون طيرانهم الصعب المنال الذي يأتي من السماء ويقصف ويقتل من دون خوف من عقاب، لامتناع حلفاء الثورة عن تسليم أي فصيل فيها ما يمكّنه من اصطياد هذه الطائرات الروسية. حتى الحليف التركي المتذبذب، الذي أسقط يوماً واحدة من هذه الطائرات الروسية، قرر، على ما يبدو، وضع يده بأيدي المغول الجدد وتقاسم الغنيمة معهم. وهو فوق ذلك قنع بحصته الصغيرة على طول الحدود بين سورية وتركيا، وترك حلم ضم حلب الى ما أخذته بلاده سابقاً، بعد معاهدة لوزان عام ١٩٢٣ من أراضي ولاية حلب من أضنة إلى ماردين ومرعش وغيرها. أما مقاتلو شرق حلب فلا بد أنهم واعون أنهم أصبحوا ورقة قليلة الأهمية في أيدي اللاعبين الدوليين والعرب بمصير سورية، وأن أحداً من حلفائهم لن يمدهم بما يسمح لهم بأي مقاومة حقيقية.
فهل تقرر مصير حلب؟ يبدو ذلك. ويبدو أن المدينة ستضيف في مستقبلها إلى ذاكرتها الجمعية غزوة مغول الـ٢٠١٦ كغزوة مدمرة أخرى في تاريخها الطويل، غزوة لابد أن تقوم بعدها وإن كان الثمن غالياً جداً والمأساة جد كبيرة اليوم.
الحياة
ثمن التنازل الأميركي عن حلب لروسيا/ غازي دحمان
تبدل المناخ الذي قامت على أساسه القوتان العظميان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، باقتسام النفوذ في العالم، ولا يوجد مزاج عالمي اليوم يقبل بمثل هذه المعادلة الدولية، فضلاً عن أن المناخ الذي صنع تلك الواقعة تبدل بشكل جذري، وأي عودة إلى الخلف تستلزم هدم شبكات واسعة وبنى عميقة من التفاهمات والإجراءات والصيغ التي أسست لعالم ما بعد الحرب الباردة.
التبسيط المخل الذي رافق فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، والقائم على أساس أن أميركا في عهده سوف تتراجع عن حصصها العالمية لمصلحة قوى أخرى، ومن أبرز المرشحين لذلك روسيا بوتين، ليس سوى نتاج تحليل متعجّل يحاول التخلص من حمولات الأسئلة المتشابكة التي يطرحها واقع السياسة الدولية التي باتت تصعب قراءتها والولوج إلى أعماقها بواسطة المفاتيح القديمة التي تآكلت مسنّناتها بفعل التغيرات المتسارعة جداً في عالم اليوم.
لقد أظهرت الدراسات المعمّقة لظاهرة فوز ترامب وجود خلفية اجتماعية اقتصادية وسياسية عميقة ومتشابكة كانت وراء إفراز هذا المتغير، كما أثبتت تلك الدراسات أن الذين رجحوا فوز هيلاري كلينتون كانوا ينظرون إلى الواقع بشكل مسطح حجب عنهم رؤية التيارات المتحركة تحت ذلك السطح وفي عمق المجتمع الأميركي، وهذه التيارات هي بمثابة القوى والتوجهات الطالعة في أميركا والتي ستصبغ المجالات السياسية والاقتصادية بصبغتها لفترة قادمة، بمعنى أن ترامب سيكون رأس القاطرة وليس عابر سبيل.
تلك التيارات التي تشكل الروافع السياسية للمرحلة القادمة، والتي يمكن القول إنها المنتصرة، ليس بسبب فوز ترامب مرشحها، بل لأن لديها مشروعاً أميركياً واضحاً يقوم على استعادة هيبة أميركا ومكانة الرجل الأبيض واستعادة أدوات الإنتاج الأميركية المهاجرة. هذه التيارات تريد إعادة صياغة العلاقة الأميركية مع العالم على أسس غير تلك التي سادت وكانت موازينها مائلة لمصلحة الخارج، فليس صدفة إذاً أن تختار أميركا صانع صفقات ليقودها.
تكشف السيرة الشخصية لترامب، وكذلك سلوكه أثناء الحملة الانتخابية، أن الرجل لا يملك فكراً شمولياً إستراتيجياً بعيد المدى بمقدار ما يشتغل على تكتيكات مرحلية قصيرة كان لها الدور الأكبر في بروزه ووصوله إلى سدة الرئاسة، وكل تكتيك ينطوي على صفقة، وقد تعامل بهذا الأسلوب منذ ترشحه ضمن دوائر صغيرة في الحزب الجمهوري وصولاً إلى تعامله مع الولايات في كامل الولايات المتحدة.
وفقاً لذلك، فإن المرجح أن ترامب لن يذهب بعيداً في تحالفاته مع بوتين. بالأصل هما يتعارضان في الأسلوب، يطمح بوتين إلى صفقة شاملة مع أميركا تتسع لكل الملفات دفعة واحدة، وقد سعى لأن تكون سورية مفتاح تلك الصفقة، لكن إدارة أوباما قاومت هذا الإغراء لاعتبارات إستراتيجية بعيدة المدى، من ضمنها أنها لم تكن في وضعية خطيرة تجعلها تقبل بخيارات من هذا القبيل، على عكس روسيا المأزومة اقتصادياً وجيوسياسياً والآخذة وضعية دفاعية عن جغرافيتها والمتعجلة للخروج من هذا المأزق الوجودي.
ترامب ليس خارج هذا المشهد، ويدركه تماماً، غير أن الفارق هو في نمط التعاطي، الاتفاق الممكن مع روسيا في أي مكان هو الاتفاق الذي ينتج فوائد إضافية، لا توافقات من دون نتائج، هذه نظرية ترامب. مجال السياسة الدولية قابل للاستثمار والكسب، وترامب الذي لم يتردد في مطالبة حلفاء أميركا بأن يدفعوا مقابل تمتعهم بالحماية، لن يقدم خدمات مجانية لروسيا. الأرجح أنه الآن يضع خريطة مساحية لعقارات النفوذ الأميركي في العالم، ولن يكون بكرم إدارة أوباما، الانسحاب من مساحات كبيرة، كالشرق الأوسط، من دون أثمان.
تفسير سلوك ترامب في حلب يقوم على اعتبار التنازل عنها ضمن صفقة سيطالب بمقابل لها من بوتين. في كلامه أثناء المناظرة الانتخابية الأخيرة، قال إن حلب مدينة ساقطة، ما يعكس طبيعة تقديراته، وهامش المناورة الممكن بالنسبة إلى المدينة، وهو ما أثر على قراره بعقد صفقة حول حلب، لكن المؤكد أن ذلك لا يعني أن ترامب سيسلّم سورية لبوتين بسهولة، فلكل مقام أثمان، وأن يعقد صفقة حول أحياء في مدينة فإن سورية بجغرافيتها وحدودها وموقعها أكبر من أن تستوعبها صفقة سريعة.
ترامب ممثل لأيديولوجية أميركية صاعدة، تريد عودة الهيبة والنفوذ والثروة لأميركا، وهي لا ترى في روسيا حليفاً أو عدواً ولا حتى مجرد ند، وهي نظرة لا تشمل روسيا فحسب، وإنما تندرج على مجمل الأطراف الدولية الأخرى، ومقدار الفائدة المتحصل من تلك الأطراف هو ما يحدد مجال وقوعها في دائرة الأصدقاء أو الأعداء، والمؤكد أن روسيا لا يمكنها التكيّف مع الخيارات التي ستطرحها أميركا ترامب، وليس لديها ما تسيّله في بورصة أرباحها لا قبل حلب ولا بعدها.
* كاتب سوري
الحياة
لمّا صرت في غيره بكيت عليه/ سمير العيطة
بات واضحاً أنّ معركة حلب ستُحسَم عسكريّاً، وأنّ جميع الأطراف الإقليمية والدولية، بما فيها تلك التي تساند «المعارضة» بشدّة باتت تقبل بذلك. وليست صيحات الاستنكار والتهويل التي تأتي من جانبها سوى جهدٍ لتجنّب فقدان أيّ رصيدٍ معنويّ أو سياسيّ لها لدى السوريين.
بات التفاوض الذي تعرفه أروقة الديبلوماسيّة هو مقايضة «مشاركة» السلطة «للمعارضة» في الحكم مقابل بداية الحديث عن إعادة الإعمار. مفاوضات لا تتسارع كما الوضع الميدانيّ على الأرض ولا تتعرّض صراحةً إلى «ما بعد حلب»، أي عن مصير منطقة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة وتشكّل «النصرة» قوّتها الضاربة حتّى أكثر من حلب، أو عن الحرب على «داعش» والموارد البشريّة التي تحتاج إليها مقارنةً مع ما يحصل في الموصل، أو عن مصير مشروع «قوّات الحماية الشعبيّة» الأحاديّ الجانب، أو أيضاً عن المناطق التي دخلها الجيش التركي وفرض «ولاة» لضبط أمورها.
المفارقة الكبرى هي أنّ هذا التفاوض الإعلاميّ يتخذ من المآسي الإنسانية للحرب موضوعاً وحيداً، وبشكلٍ مجتزأ، دون الخوض في السياسة سوى عبر تلميحات عن وجوب التوافق الدوليّ بشأن مصير الأرض والشعب السوريين، في الوقت ذاته الذي يتم التذكير فيه بصلافة أنّ السوريين هم الذين سيختارون مصيرهم وأنّ الأساس هو قرارات مجلس الأمن، مع أنّ هذه القرارات شديدة الوضوح بشأن وحدة الأراضي والدولة والسيادة وعدم طائفية البناء السياسيّ.
هكذا تتهرّب أوساط الديبلوماسية الإقليمية والدولية، بحثاً عن عائد على الاستثمار في الحرب السورية، من طرح أسئلةٍ جوهريّة تأتي من تداعيات المسار الذي أخذته معركة حلب. كيف ستُعيد تموضعها السياسي بعدما وقعت في فخّ جعلها حليفة موضوعيّة لـ «جبهة النصرة»؟ وكيف ستعيد إنتاج خطابها السياسيّ بين المطالبة القوية برحيل السلطة وبين «التشارك» معها في المرحلة الانتقالية؟ وكيف يمكن لهذا «التشارك» أن يكون في ظلّ الصراع المتعدد الجوانب القائم بين الدول الأوروبية وروسيا الاتحادية؟
تساؤلات «ما بعد حلب» هذه تخصّ الدول المتصارعة على سوريا وفيها، لكنها لا تخصّ حقاً أغلب السوريين، إذ إنّ «انتصار» السلطة وحلفائها في حلب يؤجّج مشاعر متناقضة لدى السوريين. فهو من ناحية يبعث الأمل في انتهاء الحرب السورية قريباً، لأنها بالضبط حربٌ عبثية لم تهدف حقاً سوى إلى تدمير سوريا وقتل السوريين وتهجيرهم، في منطقٍ التقى ضمنه جنون السلطة وخبث مدعي دعم «الثورة». ولكنه يخلق في المقابل شعوراً بالخيبة والإحباط من أنّ الاستبداد سينتصر وأنّ الثمن الباهظ الذي دفعه السوريون لن يعيدهم حتى إلى ما كانوا عليه، بل إلى استبدادٍ أكثر قسوةً وأشدّ سطوة وشرذمةً للسوريين. إحباطٌ بقدر أن ينتهي المطاف لسوريا بدراما عنوانها «بقاء الأسد وحرق البلد معاً».
ليست هذه الخيبة جديدة للكثيرين. فهي موجودة منذ أن تحوّل نضال من أجل الحريّة والمواطنة في 2012 إلى حرب وفلتان وتبرير للتطرّف والطائفية تحت عنوانٍ لطالما استغلّ في غير مكانه «الثورة». ومنذ أن بدا واضحاً أنّ الدول الداعمة «للثورة» لم ترد يوماً لها أن تنتصر كثورة، أي كمشروع من أجل الحريات للجميع لا كانتصارٍ لأغلبية على أقلية.
هذه الخيبة قائمة، لكنّها لا تدعو بالضرورة إلى الإحباط، سوى لمن آمن بأنّ دولاً خارجية ستأتي له بحريات ومساواة في المواطنة. ما هو جوهريّ اليوم هو الحفاظ على الأرض والإنسان في سوريا وعزل كل ما هو طائفيّ ومتطرف على الجهات كافّة. وما هو معلوم أنّ طريق الحريّة لا يصنعه إلا السوريون وفقط عندما يشعرون بأنّهم مواطنون سوريون قبل أيّ شيء آخر. فمن منطق المواطنة لا يمكن لسوريا أن تكون برسم عائلة ولا يمكن أن تذهب التضحيات سدىً.
أغلب ثورات أوروبا في القرن التاسع عشر فشلت، إلا أنّ الانتصار كان في النهاية لحريّات المعنيين بها.
السفير
وما في حلب موقع خراب أصلاً/ فاطمة ياسين
كانت مناسبة بائسة دفعتني للتعرف أكثر على هذه المدينة، عندما قسمها الإعلام إلى شرقية وغربية، وتناقل صور الحصار ولوّنه بالأحمر والأخضر، في حين أن ربع مليون نسمة يتضورون هناك. لم تكن حلب، بالنسبة لنا نحن الدمشقيين، من غير التجار، مقصداً للرحلات الترفيهية في يوم من الأيام، لذلك لم ألتقِ بها وجهاً لوجه من قبل، بينما، وعلى العكس، شكلت مركزاً جاذباً لسكان مدن أقل أهمية منها وتقع في محيطها، كإدلب ودير الزور وحماة، وكذلك الرقة، فكان معظم شبان ورجال تلك المدن يستخدمون تعبير “نازل على المدينة”، ويقصدون حلب، دون حاجة لذكر اسمها. أما بالنسبة لبقية السوريين فحلب ماركة مسجلة على القمصان والألبسة القطنية، وأكياس الزعتر ذات الرائحة المنعشة دون نسيان صابون الغار. أما العلامة المميزة فكانت نادي رياضي يدعى “الاتحاد” يتكئ على دعم مالي ضخم ويملك رابطة مشجعين كبيرة، وتقاليد تشجيع راسخة في الروح الرياضية، وروح الدعابة أيضاً، ولاعبين نجوم كبار في كرة القدم وكرة السلة.
المدينة العريقة أنجبت نوعاً مرجعياً في الطرب، عرف بالقدود الحلبية، ساهمَ عملاق الطرب صباح فخري على نشره في دول العرب من شرقي العراق حتى أبعد مدينة في المغرب العربي. وكان فنانون أصحاب شهرة محلية على مستوى المدينة كعمر سرميني ووضاح شبلي وبشكل أوسع صبري مدلل يقيمون سهرات عامرة بالمشتقات الحلبية الموسيقية والسمر في مراكز المدينة الأثرية والثقافية، كانت الموسيقى والتواشيح الطربية من تفاصيل حلب على الدوام…
يرجح كامل الغزي أن معنى حلب هو الأبيض، بالسريانية، ويدلل على ذلك بأن اسمها قد أُتبع لاحقاً بالشهباء ليفسر العرب الاسم السرياني، والبياض لم يطلق على حلب للدلالة على قلوب سكانها، بل لسبب اعتمادهم في بناء بيوتهم بشكل أساسي على مادة الحوار الأبيض، ويأكد ياقوت الحموي أن الحجر الأبيض كان يسوِّر المدينة، مما يعطى لناظرها من علٍ شعوراً عارماً بالبياض.
كان تموضُع الطبقات الصخرية لتضاريس حلب سبباً في وقوع العديد من الزلازل، ويقال إن نهر الفرات قد اتخذ مجراه الحالي بتأثير من زلزال حدث عام 528 ميلادي. وأثرت الكوارث الطبيعية تأثيراً بالغاً في حياة الحلبيين الذين قضى عشرات الألوف منهم قبل الألف الثانية الميلادية. أما قلعة حلب الشهيرة فقد خضعت لمصائب كبيرة، وتكرر ترميمها مرات ومرات في عهود المماليك والحمدانيين والأيوبيين. القلعة التي أعاد نور الدين زنكي بناءَها طاولها تخريب بشري على يد تيمور لنك القائد المغولي الذي غدر بأهلها وعلمائها وهدمها من كل الاتجاهات.
هذه حلب الجغرافيا، ولكن ثمة حلب أخرى مشغولة بالأوعية الدموية الدقيقة التي تعمل على وجيب الأفئدة ولا نستطيع تميزها إلا حين يحيق بها خطرٌ كهذا الغول المعدني الذي يطوق بُطَيْنَها الشرقي ويهدد من بقي متمسكاً بعتبة بيته حتى هذه اللحظة، رافضاً ذل مغادرتها “بالباصات الخضراء”.
كان لحلب أسواق شهيرة اتخذ كل منها اسم السلعة التي اشتهر ببيعها، تميزت الأسواق بواجهات محصنة ومزينة ويقع الجامع الأموي، أو جامع بني أمية الكبير، على مفترق اثنين منها (المناديل والنحاسين)، والجامع مع مئذنته يملك فهرساً طويلاً بعمليات التجديد والترميم، مثله مثل القلعة، لكن القسم الأكبر منه قد دُمِّر بشكل نهائي عام 2013، حيث انهارت المئذنة وسقطت قبابه. أسواق حلب رئات طويلة وضيقة آلياتُها في العمل غير خاضعة لما عرفته اقتصاديات “ميلتون فريدمان”، بل هو اقتصاد محلي يدعى “الجمعية”، حيث تتجدد دورة الاقتصاد كل يوم خميس، بدون اعتمادات بنكية ولا شيكات آجلة أو عاجلة، ترتبط السوق بقوة حضور التاجر الحلبي، سواء لبس الطربوش أو خلعه، وتتربع فوق تل من البضاعة المنضدة بمهارة، فمن هنا تبدأ الدورة الاقتصادية الأكثر نزاهة في العالم…
تصدرت حلب عناوين الصحف بعد عام 2013 وصار العالم البائس ينعيها بسبب الحال الذي أوصلتها إليه الحرب السورية، خصوصاً في السنة الأخيرة حين تهيأ لنظام الأسد دعمٌ ناري غير محدود من قبل حلفائه الروس، ففكر أن استرجاع حلب سيدعم حظوظه في تحقيق قبول عالمي بمجرم سيستعيد، بتجديد امتلاكها، معظم المدن السورية الأساسية، وسيبتز الثائرين عليه في مجالس المفاوضات بأن لديه ما ليس لديهم.
تقطعت السبل بحلب حيث تهطل عليها البراميل وتحلق في سماواتها أحدث الطائرات الحربية لتلقي الصواريخ “الذكية” فتهبط حيث يتجمع الأبرياء، وانخفض مستوى الأدرنالين في شرايين النظام المدعوم، وهو يتهيأ الآن لدخول المناطق التي خرج منها منذ أربع سنوات، ويعتقد بأن مستقبله يكمن في الحارات المدمرة والأفئدة المكلومة والطوابير الطويلة من المهجرين والمشردين.
حلب التي ذكرها ابن بطلان فقال “وما في حلب موقع خراب أصلاً” نجحت قذائف القصف الروسي وحممه في نزع آخر خيوط الأمل من قلوب سكان قسمها الشرقي المحاصرين واستحال جامعها الأموي والأسواق المسقوفة آثاراً ينفع التنقيب عنها. ولم يبق صامداً سوى قلعتها الأثرية المهددة هي الأخرى بالسقوط إذا ما استمر الحال على هذا المنوال.
لا تستطيع حرارة البارود وبلادة الحديد الاستيلاء على الموسيقا، وربما سيكون كل ما حصل حافزاً لإنتاج نوع جديد من المقامات، التي توظف أكبر عدد من العلامات الموسيقية. ولا خوف على الصناعات الحلبية العريقة، فالزعتر والصابون هما بالأصل صناعتان يدويتان تعتمدان على الأرض البكر التي لا يقدر كائن على إلحاق الأذى بها، أما اقتصاديات السوق “المغطى” فرأسماله النوايا الطيبة، وكل ذلك باق ما بقيت الشمس تشرق على حلب.
*كاتبة من سورية
ضفة ثالثة
محاولة نظر إلى وجه المنتصر في حلب/ حازم الامين
انتصار آخر حققه بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس واللبنانيون والعراقيون في حلب. فقد تمكنوا من الانتصار على الصورة. على صورتهم وهم يقتلون سوريين. فالعالم تواطأ معهم إلى حد صار فيه قولهم إنهم يقتلون إرهابيين أصدق من صورتهم التي تكشف أنهم يقتلون أطفالاً ومدنيين. وهذا نصر يفوق في النهاية نصرهم على الفصائل السورية المعارضة.
وهو درس مفاده أن للمجرم مكاناً محفوظاً في هذا العالم. المجرم الذي لا يُمكن أن يُعرَف بغير هذه الصفة. هي مجال تفوقه الوحيد، وهي مصدر الاعتراف الدولي به. كن مجرماً وستنال اعتراف العالم بحقك في أن تكون موجوداً. هذا هو درس حلب. لا شيء يُفصح عن هذه المعادلة الرهيبة أكثر مما يجري في حلب. انتهت جولة من جولات القصف والقتل، وعلينا أن ننتظر تصريحاً من المندوب الأممي دي ميستورا يطلب فيه من الفرقاء التعامل مع الوقائع الجديدة الناجمة عن جولة القصف الأخيرة، وقد لا يخلو تصريحه من تضامن مع الضحية.
والحال أن تواطؤ العالم على أهل حلب فاقه أمر آخر، هو أن يعلن محور الممانعة النصر على المدينة. «المقاومة» انتصرت في حلب، وهي انتصرت هناك في اليوم الذي كانت طائرات إسرائيلية تقصف مواقع لها بالقرب من دمشق، ومن دون أن تواجه بغير الصمت.
صمت في دمشق، وشجاعة المدافع في حلب. نصر هنا ونصر هناك. انتصار أذلاء دمشق على حفنة محاصرين في حلب، وعلى ما تبقى في المدينة من فقراء. و «النصر» إذ يعلن عن نفسه في صحف اليوم لا يخجل من صمته على هزيمة موازية.
إنه «نصــر» هائل فعلاً، ذاك أن ما يجري في المدينة هو سحق لأي قيمة ترتفع عن القوة أو تسعى لغيرها. بشار الأسد، ومن حوله أشرار العالم، لهم الحق في قتل هؤلاء المدنيــين. الصور قالت ذلك. الحـــيرة في إطلاق الحـــكم على الفعلة. سعي العالم لإيجاد لغة تقبل ما يحصل، وتنسجم معه. «نريد أن نفاوض أحداً حول ما يجري»! أو «لا بد من التعامل مع الأمر الواقع»! أو «لا يمكن استــبعاد الروس عن أي تسوية سياسية»! هذه عبارات من قبيل اعتراف العالم بحق بشار وأشراره في قتل من يقتلون في حلب، وهي قيلت أثناء شن الغارات، وفي اليوم الذي انتشرت فيه صور فظيعة من المدينة.
ليست التجربة الشيشانية هي ما يكرره الروس في حلب. هذه المرة ثمة شيء أقوى من تدمير مدينة وقتل أهلها. الجديد في حلب أن القتل والتدمير يحصلان تحت أنظار العالم. كل العالم. في غروزني، وصلت صور الدمار بعد أكثر من سنة على حصولها، وفي ذلك الوقت منعت الصحافة من تغطية الجريمة. أما في حلب فيصل إلينا لهاث الأطفال، وتصلنا قصصهم لحظة بلحظة، وهم يموتون قبل أن تصل أنظارنا إليهم في صورهم، فيكون لنا السبق في هذه المحادثة البائسة مع القتيل. الطفلة الحلبية لم تتمكن من معرفة أن «هاري بوتر» الذي تحبه أرسل إليها كتبه عندما علم بشغفها بكتبه. ماتت الطفلة بقذيفة روسية ووصلت الكتب لاحقاً إليها. هذا كله لم يثنِ القاتل عن الإمعان في القتل، وهذا فارق هائل، فالمهمة في حلب تتخطى تدمير المدينة وقــتل أهلها، لتـــشمل أيضاً إنهاء أي وهم بقيــمة القتل وبمعناه، وجعله فعلاً عادياً ومألوفاً ومعترفاً به بصفته تفوقاً أصلياً وجوهرياً يمارسه القوي، فقط لأنه قوي، حتى لو كانت القوة في هذه الحال غريزة حيوانية. وهي أيضاً اعتراف العالم بحق القوي في القتل، وهذه معادلة لن تبقى بعد اليوم مقتصرة على حلب. فـ «الشرعية» التي اكتسبتها الجريمة موثقة هذه المرة، ولن يتمكن أحد من دحضها. المجرم أينما كان سيستحضر حلب ليقول للعالم أن جريمتي لا ترقى إلى هذه الجريمة التي قبلتموها جميعكم.
لا ينطوي هذا الكلام على أي مبالغة. التكالب على المدينة لا اسم آخر له، وممارسوه لا يسعون أصلاً لدفع هذا الاسم عن أنفسهم وعن فعلتهم. «فليمت من يموت، الأهم أننا نريد المدينة». «العالم يرى أننا حفنة ذئاب؟ لا بأس، فهو سيقبل شركاء ذئاباً»، وهم محقون في ما يعتقدون، ذاك أن «البحث عن شركاء في العملية السياسية» أملى قبول التعامل مع قاتل وانتظار فراغه من مقتلته.
هل من شيء أكثر استدراجاً للذهول من حقيقة أن العالم ينتظر بشار الأسد حتى يفرغ من تدمير حلب وإفناء أهلها حتى يُباشر «العملية السياسية». فليتخيل المرء نفسه هناك، طفلاً أو امرأة أو مقاتلاً. المعادلة تقضي بأن العالم سيتدخل فور إنجاز بشار الأسد مهمة قتله!
حين باشر بوتين مهمته في المدينة، استحضر العالم تجربة غروزني. لقد ضُرب صمت على ما حصل هناك أيضاً. لكن الصمت وجد مخرجاً له يتمثل في أن أحداً لم يُعاين ما جرى في العاصمة الشيشانية، وكثيرون منا فشلوا في الوصول إلى الشيشان حينذاك. ليست هذه حال حلب. الصمت لن يسعف العالم. المدينة أُحيلت ركاماً تحت أنظاره. القيم أيضاً صارت ركاماً، وأي ادعاء بعد اليوم لن يستقيم.
غير أنّ ثمة قبولاً أخطر من قبول العالم، بصفته هيئات سياسية وقيمية، بأن تُدمر مدينة ويُقتل أهلها تحت أنظاره. إنه قبول الجماعات والمجتمعات حول المدينة، وصمتها حول ما يحصل فيها. نعم، نحن نهضم ما يجري هناك بشيء من الغضب، ولكن بميل إلى القبول وبإشاحة النظر عن وجه الضحية وعن وجه القاتل.
وبعد اليوم لن تقوى كرامة على النهوض في وجه جلاد. الدرس الحلبي كبير جداً على هذا الصعيد. ولكي تكون منتصراً عليك أن لا تخجل بارتهانك لإرادة القوي، وأن تكون بلا قيم وبلا كرامة، وأن تعلن انتصارك على ضعفاء قومك بلا وجل ولا خجل، وأن تضرب صفحاً عن الطائرات الإسرائيلية حين تأتي كل يوم لتأديبك.
هل تذكرون التظاهرة الإسرائيلية في تل أبيب عشية حصار بيروت؟ لم يجرِ لحلب ربع ما جرى لبيروت في تل أبيب.
الحياة
رسالة عن العالم إلى مؤرخ في المستقبل/ سامر فرنجيّة
قد تُدعى إلى مؤتمر يناقش جذور انهيار منطقة الشرق الأوسط، أو ربّما أردت دراسة هذه المنطقة التي تشكّل فيها أهلك قبل أن يهاجروا نتيجة ذاك الانهيار، أو أنّ أحداثاً جرت قبل نصف قرن أثارت فضولك. لا أدري، لكنك في جميع الأحوال، ستعود يوماً ما إلى هذا العام المفصلي لتفهم حاضرك الذي تأسّس على الانهيار. ستذهب إلى مكتبة وتجد مئات الدراسات عن أسباب الانهيار، من صعود النزعات العرقية إلى الركود الاقتصادي وصولاً إلى انهيار هذا «الوهم» الذي سميناه الوسط.
ربّما اعتاد حاضرك على حكم اليمين المتطرف وطبّع مع عنصريته. لا أدري. وقد تكون هذه الموجة انتهت، بعد حروب أوقعتها ودمار تسببت به، بحيث تعود في بحثك إلى محاسبة الأجيال السابقة على قبولها بهذا الصعود.
في جميع الأحوال، لن تستطيع العودة إلى هذه المرحلة إلا من خلال المكتبات العديدة التي تفصل بين حاضرك وماضيك، أي حاضرنا. ستجد كماً من الدراسات التي كتبت عن «الربيع العربي»، وإلى جانبها عدد أكبر عن «الخريف العربي». يمكنك أن تتجاهلها بسهولة. فهي كتبت بسرعة بالغة وكانت غايتها الوحيدة تأمين بعض الشهرة لمثقفين كان اكتشافهم الوحيد اللعب على فكرة الربيع والخريف.
ويمكنك أيضاً أن تتجاهل مكتبة أخرى، غالباً ما يكون غلاف كتبها أسود اللون، عن تنظيم كنّا نسميه «داعش» قد لا تعرفه. فهذا التنظيم الأصولي شكّل مادة لجميع هواجسنا، هذا قبل أن نكتشف أن الحرب عليه استمرت لعقود بعد زواله وحتى نسيانه. أنتجنا العديد من الكتب آنذاك لإخافة ذاتنا، فكنّا نعاني بعض الملل وأتى ما يسلينا ويخيفنا.
في المقابل، لن تجد العديد من الكتب عن سورية، هذا البلد الذي كان أساس ما تعرفه اليوم بـ«سورية المفيدة». والقليل الذي ستجده سيتكلّم عن ثورة بدأت في 2011، قبل أن يتّم «حرفها» عن مسيرتها النبيلة. لن تجد العديد من الدراسات عن هذا الموضوع بين 2011 و2016، فهذه كانت مرحلة من «التعقيد» على مفكري عصرنا الذين لم يفهموا ماذا كان يحصل، ففضلوا أن يسكتوا، وكانت هذه المرة الوحيدة التي يسكتون فيها. بعد هذه المرحلة من الصمت، ستتدفق عليك الدراسات عن ضرورة الحوار والمصالحة وإعادة إعمار حلب، هذه المدينة التي افتتحها بعد إعادة إعمارها نجل الرئيس الراحل بشار الأسد. ستعتقد أنه ليس من موضوع للبحث هنا، مجرّد خلافات في بلد يحكمه طاغية تقدّمي. فثمة قبائل متخلفة قامت بنوع من ثورة ريفية على المدن، استغلت الجوامع لتقضي على التنوع، وكان سببها الوحيد الجفاف. وهذا ما سيقوله لك مدرّس للغة العربية في جامعة دمشق، عندما ستزور هذه المدينة التي تتزاوج فيها الأصالة والحداثة. وهذا ما سيؤكّده لك مشرف على أطروحتك عندما سيطالبك بدراسة موضوع أهم كالخطاب الاستشراقي في دعايات السيارات أو دور الغرب في الثورات العربية. على الأرجح، لن تكون الإمبريالية الروسية قد ارتقت بعد الى موضوع بحثي.
قد لا يكون الوضع هكذا، وقد تكون سمعت بحلب وتدميرها، وقد تكون هذه المدينة، أو حياً منها، قد دخل التاريخ إلى جانب غيرنيكا أو دريسدن أو دير ياسين، كأيقونات للدمار والقتل، لا دور لها إلا التمهيد لمراحل سوداء. قد تجد بعض مسودات لوحات من هنا، أو أبيات شعر من هناك، تتحدث عن هذه المدينة. ربّما ستقرأها بحثاً عن بعض الصور لمقدمة بحثك، وسيعود هذا السؤال الذي لم تطرحه على أهلك، وإن كان دائماً يراودك: كيف قبلتم بتدمير وقتل وتهجير كهذا؟ وهنا تكمن نصيحة هذه الرسالة: قف عند هذا السؤال وعند حلب وعند الثورة السورية، فهنا بدأت القصة. ربّما لم تظهر مفصلية الثورة السورية من حاضرك، لكون هذا الصمت التي حدّثتك عنه من قبل قد أضاعها. وربّما ستجد الكثير من الكتابات تتّهم من استعمل كلمة «ثورة» بأدلجة تتناقض مع الواقع، وربّما من منظورك بدا اتهام كهذا محقاً. لكن اليوم، أي قبل خمسين سنة على قراءتك هذه الرسالة، حلب تحترق، وكلمة ثورة هي كل ما لدينا كي لا نشارك في هذا القتل. فاعذرنا لسوء استعمالنا المفاهيم.
عد إلى حلب واسألنا كيف قبلنا. لا تضع وقتك بالبحث عن علاقة ما بين أسعار النفط والمجزرة، أو عن تنامي الإمبراطورية الروسية والدمار أو التحاليل الما – ورائية عن الخطاب وتعقيداته. ابق على السطح واسألنا كيف قبلنا. لا تحاسبنا لأنّك على الأرجح كنت قبلت بهذا الدمار مثلما نحن قبلنا. لكن لا تسامحنا أيضاً. ابق على السطح حيث ستجد كل شيء. فإذا أكّد لك نص أو كتاب أنّنا لم نكن ندري، فكذّبه من دون أي حرج آت من مسافاتك عن الحدث. كنّا نعلم وندرك ونعرف، كنا جميعنا نعرف القتيل بالاسم، لنا صور عن كل رضيع استشهد وفيديوات عن كل جريح سقط. قد لا تجدهم في مكتبتك، لكنّهم كانوا متوافرين في عصرنا. حاول أهالي حلب التواصل معنا، بالرسائل والصور والفيديوات والدعاء والنكات والصرخات. لكن لسبب ما، لم نُجبهم. كنّا ندري، فلا تتخلَّ عن سؤالك: كيف قبلتم.
ابق على السطح لأنّ لحظة حلب هي اللحظة التي قرّر العالم فيها أن يفقد عمقه ليصعد كل المكبوت إلى السطح. ربّما لم تعش لحظات كهذه، وهذا لحسن حظّك كونها لحظات سوداء. فحلب هي اللحظة التي قرّر العالم فيها أنّه ضجر، حتى من رفع العتب. هي اللحظة التي يُنتخب فيها مهرج إلى رئاسة الجمهورية، ويصبح طاغية بطل العالم الحر، ويتنافس قادة الدول على مد اليد إلى مجرم. ربّما لم تفهم كيف وصلنا إلى هذا القاع، ولم نفهم أيضاً، لكنّنا كنّا نعلم. بعد هذه اللحظة، سقط الحياء بعدما سقطت المؤسسات، ليصبح العنف هو القاعدة. إذا كنت مهتماً بالانهيار، فلا تذهب بعيداً، ابق على سطح حلب المدمر لتفهم كيف أنه في لحظة ما ينهار كل شيء.
لا أدري ماذا حصل بين هذه الرسالة وحاضرك، ربّما تعلّم العالم من حلب واستفاق من حفلة الجنون هذه. وربّما أدى هذا الجنون إلى حروب، ما أجبر العالم على مواجهة لحظة التخلّي هذه. وربّما لم يحدث هذا كله، وما زلت تعيش في عالم يعتبر أن آل الأسد أفضل ما يمكن أن تقدّمه هذه المنطقة. لا أدري، لكن ما بات أكيداً، وفي جميع الأحوال، أن هذه المنطقة انهارت. وأنه إذا ما بقي شيء يمكن أن ننقله إليك من فوق هذا الانهيار، فهو أن تتذكر حلب، ليس كأيقونة لبطولات مستحيلة أو كثمن لأدلجة ثورية، بل كلحظة، لحظة قرر فيها العالم ببرودة أعصاب ومعرفة كاملتين أن يتخلى عن نفسه.
* كاتب لبناني
الحياة
ليلة الإسراء والمعراج… في حلب!/ عقل العويط
يمكنني من الآن أن أقول مبروك لكَ الفوز، أيّها العالم الرديء جدّاً. فبعد قليل، سيتوقّف عمل الأوركسترا الكونية في حلب، ويستتبّ الزمان لصاحب الزمان، وينتهي كلّ شيء.
لا لزوم للقلق بعد الآن حول مصير حلب. اطمئِنّ كثيراً وعميقاً، أيّها العالم الرديء جدّاً. ثمّ هدِّئْ روعكَ. وروِّق بالكَ. فليس عليك سوى أن تمسِّد ضميركَ بأيدي الدم المشطوفة، وأن تغنِّي له لينام قريراً. إن غداً لناظره قريب، أيّها العالم. ففي غد، سيطيب لكَ العيش. وستقيم الاحتفال. وستنادي على القتلة، ملوك الأرض وأسيادها، ليجلسوا حول المائدة. وستكون الوليمة لأهل الولائم الفائزين. وليعلم الجميع أن إلهكَ هو الفائز، وأن صناعة الموت والعدم هي الدين الأسمى والأعظم.
وليُعلَن في الأرض كلّها أن يد الجزّار السوري ويد حلفائه في الأرض أقوى من كلّ يد. وأعلى.
كاسك، أيّها العالم الرديء جدّاً. اشربْ مليّاً، وبرويّة، واملأ كأسكَ ثانيةً، وثالثة. وإذا بقيتْ في قعر هذه الكأس ثمالةٌ قليلة، فاسكبها على الضريح الحلبيّ العظيم. حيث لم يبقَ حجرٌ على حجر. ولا حضارةٌ فوق حضارة. ولا إرثٌ بعد إرث، ولا كتابةٌ تحت كتابة. وحيث لم يبقَ هواءٌ، ولا ظلٌّ، ولا شمسٌ حيية.
طوبى لكَ أيّها العالم الرديء جدّاً. وهنيئاً. لقد فشّلتَ عمل الروح في حلب. فابسطْ روحكَ القبيحة على سطح الغمر، وعلى المسكونة كلّها!
أيّها الساسة، في إيران، وتركيا، والسعودية، وروسيا، والصين، وأميركا، وأوروبا، وفي الأصقاع كلّها؛ لا تبحثوا غداً عن لوعة القمر، ولا عن ألم النجوم. لا تبحثوا عن الأطفال، ولا عن شهداء البحر، ولا عن التائهين في سراب البرّ وبيادي السماء، ولا عن الكتب، ولا عن الأمهات والصبايا، ولا عن العشّاق الفتيان، ولا عن أشجار الياسمين، ولا عن العبقريات، ولا عن الأسواق، ولا عن البساتين، ولا عن الشعراء، ولا أيضاً عن الحبّ.
أنتم يا حثالة هذا العالم الرديء جدّاً، يا حثالة السياسة، وحثالة المصالح، والمطامع، أنتم مرتكِبو المقتلة في حلب. وهي لمقتلةٌ فريدةٌ من نوعها في التاريخ الحديث.
سأسمّي هذه المقتلة غير المسبوقة: وجع الله على الأرض. لكنّي سأسمّيها أيضاً ليلةً للإسراء والمعراج، إنما على طريقة الشعراء، وبأساليبهم. هذه دعوةٌ للشعراء لكي يسرجوا كلماتهم، من أجل حلب. أيّها الشعراء، أكتبوا خجلكم المدوّي من هذا العالم الرديء جدّاً. واكتبوا اللعنة عليه. وأكتبوا أن الأحرار والموتى لن يأكلوا فتات هذه الوليمة القميئة. واكتبوا، إلى أن تقوم القيامة على المنتصرين و”القياميين”!
النهار
عن حلب بلا أجنحة/ سنان أنطون
في العام 1938 زار الشاعر الإنكليزي و. ه. أودن (1907-1973) متحف الفنون الجميلة في بروكسل واطّلع على عدد من لوحات الرسّام الشهير بيتر بروغل الأكبر (1525-1569)، وخاصّة «منظر طبيعي مع سقوط إيكاروس» التي تعود إلى العام 1558. وكتب واحدة من أجمل قصائده (وكانت الحرب العالميّة الثانيّة تلوح في الأفق) بعنوان «متحف الفنون الجميلة» ونشرها العام 1940. وهنا ترجمتي لها:
«بخصوص الألم، لم يخطئوا أبداً/ الأساتذةُ القدامى فهموا مكانهُ جيّداً/بين البشر: كيفَ يحدثُ/بينما يأكلُ شخصٌ آخر، أو يفتح نافذة، أو يواصلُ المشيَ برتابة/كيف أنّه بينما ينتظرُ الكبارُ الولادةَ الأعجوبةَ بتبجيل وشغف/لا بد أن يكونَ هناك أطفالٌ ما أرادوا لها أن تحدث/يتزلّجون على بحيرةٍ بالقربِ من حافّة الغابة/لم ينسوا أبداً/أنّ الاستشهاد المروِّعَ هو الآخر لا بُدَّ أن يأخُذَ مجراه/على أيّ حال/وفي زاوية، في بُقْعةٍ مُهْمَلَةٍ/حيث تستمرُ الكلابُ في حياتِها الكلبيّة/ويحكُّ حصانُ المُعذِّبِ مؤخّرتَهُ البريئةَ بشجرةٍ. . . في «إيكاروس» بروغل، مثلاً: كيف ينصرفُ كل شيء/بتمهّل، بعيداً عن الكارثة؛ لربما كان الحارِثُ قد سمع/صوتَ الارتطامِ بالماءِ والصرخةَ المخذولةَ/ولكن، بالنسبة له، لم يكن ذلك فشلاً مهمّاً؛ سطعتْ الشمس/ كما كان عليها أن تفعل، على الساقين البيضاوين وهما تختفيان في الماء الأخضر/والسفينة الثمينة الأنيقة، التي شاهدت بالتأكيد شيئاً عجيباً. صبيّ يسقط من السماء/ كان عليها أن تصل إلى مكانٍ ما فواصلت الإبحار بهدوء.»
نقرأ قصيدة أودن لإعادة طرح تساؤل أزلي يعاودنا اليوم في زمن يزحف فيه الخراب وتُقتل فيه المدن ومن فيها (في سوريا واليمن). والتساؤل هو «بخصوص الألم» (العبارة التي تفتتح القصيدة). ألم الآخر/ين الذي يقع في بقعة ما من اللوحة/العالم. ويمكن للّوحة أن تكون مصغّراً للمجتمعات الإنسانيّة أو استعارة لها. تتّضح في إطارها علاقتنا بألم الآخرين وفجيعتهم، وردود أفعالنا إزاءه وإزاء الكوارث.
في القسم الأول من القصيدة إشارتان مضمرتان إلى لوحتين أخرييْن، إحداهما «مذبحة الأبرياء» عن مذبحة هيرودس الذي أمرَ، بحسب إنجيل متّى، بقتل كل الأطفال الذكور في بيت لحم لكي لا يولد المسيح. وكانت اللوحة استعارة للمذابح التي اقترفها الإسبان في زمن بروغل وفي وطنه. والثانية هي «التعداد في بيت لحم». هناك حدثان (الولادة الأعجوبة والاستشهاد المروّع). لا يأبه الأطفال للأوّل لأنّهم منهمكون في براءتهم. وتستمر الحيوانات بأفعالها، دون أن تدرك فداحة الثاني. ماذا عن البشر؟ ينصرفون «بتمهّل، بعيداً عن الكارثة»، ويمارسون حياتهم اليوميّة كأن شيئاً لم يكن.
تقول الأسطورة الإغريقيّة التي دوّنها الشاعر الروماني، أوفيد، في «التحوّلات» إن مينوس، ملك كريت، حبس الحرفي الماهر ديدالوس وإبنه إيكاروس في برج. فصنع ديدالوس زوجَي أجنحة من الريش ملصوقة بالخشب والشمع، لكي يطير، هو وإبنه، إلى الحريّة. قال لإبنه ”قد يحجب مينوس عنّا الأرض والموج لكن السماء تبقى مفتوحة. . . قد يملك مينوس كل شيء لكنّه لا يملك السماء.» حذّر ديدالوس إبنه من التحليق عالياً والاقتراب من الشمس كثيراً لئلا يذوب الشمع. لكنه نسي ذلك فأذابت أشعة الشمس الشمع وسقط ليغرق ويموت.
حلب الآن، هي إيكاروس، الذي يغرق في الموت والركام، في بقعة صغيرة على هامش العالم، لأن النظام السوري وحليفه الروسي هما مينوس الذي يملك السماء وأدوات الموت. وسفينة اللامبالاة والتجاهل تواصل الإبحار بهدوء. إنّه منظر (غير) طبيعي.
السفير
حلب بداية النهاية لسورية معارضةً و… نظاماً؟/ جورج سمعان
الأزمة السورية دخلت مرحلة ما بعد الحل السياسي قبل الحرب على حلب. تجاوزت مرحلة الديبلوماسية والسياسة. تفاهمات فيينا طوت بيان جنيف. وسلسلة اللقاءات العقيمة بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي تجاوزت فيينا وأهداف أطرافها. كانت عملية تقطيع للوقت. حتى اللقاء الأخير بينهما في روما لم يخرج عن هذا الإطار. الوزير جون كيري يستحق مع اقتراب نهاية ولاية إدارته تقديراً كبيراً على نشاطه وجلده. لكنه لا يستحق تقديراً للنتائج. نظيره سيرغي لافروف أظهر تفوقاً في المناورة. وهو حتى هذه الساعة لا يزال يؤكد أن الحل في سورية ليس عسكرياً! مع أنه يعرف أن الجميع يعرفون أن الحل لم يكن يحتاج إلى هذا المقدار من الحشود العسكرية في بلاد الشام وسواحلها في المتوسط. ويعرف أن ما يحصل على الأرض، خصوصاً في حلب، يناقض تماماً تأكيده. تدخل روسيا، منذ أيلول (سبتمبر) الماضي، قلب المشهد رأساً على عقب. والحرب على حلب ستبدل المشهد مجدداً على نحو جذري هذه المرة. موسكو تريد فعلاً هدنة في المدينة. تسعى إلى تخفيف الضغط السياسي والإعلامي الذي يندد بما تفعله قواتها وجيش النظام وميليشيات إيران. تستعجل إدخال بعض المساعدات إلى الأحياء الشرقية من عاصمة الشمال، قبل اجتماع باريس لمجموعة «أصدقاء سورية» السبت المقبل.
حرص روسيا على العامل الإنساني لا يعكس بالطبع جوهر سياستها. كانت ترغب في حصار حلب فقط لاستخدامها ورقة للمساومة مع إدارة الرئيس باراك أوباما. لكن الأخير لم يبد رغبة في أي مقايضة. موقفه واضح منذ بداية الأزمة. عبر عنه صراحة: الولايات المتحدة لن تخوض مواجهة مع روسيا في سورية. ولن تخوض حرباً في هذا البلد لأنه ببساطة لا يشكل أهمية لواشنطن! لذلك، استعجل الرئيس فلاديمير بوتين إعادة حلب إلى حضن الشرعية أياً كان الثمن وأياً كانت الاعتراضات. يستهدف فرض وقائع جديدة أمام الإدارة المقبلة لدونالد ترامب التي ترث تركة حافلة بالتعقيدات والفوضى في الشرق الأوسط. حتى اطمئنانه إلى تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب لا يشكل ضماناً يمكن الركون إليه، خصوصاً أن وزير الدفاع المقبل في الإدارة الموعودة، الجنرال المتقاعد جايمس ماتيس، كان استقال قبل ثلاث سنوات احتجاجاً على موقف الإدارة من الأزمة السورية. نادى قبل ذلك، عام 2012، بتسليح المعارضة لإسقاط الرئيس بشار الأسد. واقترح خطة لمحاربة إيران وتنظيم «داعش»، على رغم أنه أيد الاتفاق النووي. وانتقد تراجع تأثير بلاده في الشرق الأوسط. أي أن «الكلب المسعور» قد يعارض سياسة تفاهم مع الكرملين ينادي بها سيده، وقد يبعث الصراع مع الجمهورية الإسلامية التي بدأت تتململ نتيجة تجديد الكونغرس العقوبات عليها، فيما الرئيس المنتخب يتوعدها بإعادة فتح ملف الاتفاق النووي. وفي ذلك ما يعيق استراتيجية موسكو الساعية إلى بناء تحالف واسع في المنطقة يعيد إليها دورها «السوفياتي» وموقعها قطباً دولياً. أو في أحسن الأحوال ستـــشهد العلاقات بين الكرملين والسيد الجديد للبيت الأبيض مرحلة تعاون وصراع تبعاً للقضايا موضوع النقاش بين الطرفين، وهي كثيرة تبدأ من أوكرانيا والعقوبات ولا تنتهي في سورية.
كان واضحاً أن موسكو لن تسمح بتغيير النظام في دمشق أو إسقاطه. كان هدفها منذ بداية تدخلها ترسيخ أقدامها في سورية قاعدة انطلاق لتحقيق مصالحها الإقليمية والدولية أولاً. وقد تحقق لها ذلك. وهي إن أبدت في الظاهر شيئاً من التعاون لحل مشكلة حلب، إلا أنها لم تخف رغبتها في إفراغ المدينة من كل العناصر المسلحة، على غرار نموذج داريا. اقترحت فتح طرق لخروج المقاتلين، خصوصاً جماعة «فتح الشام» (النصرة). لكن الفصائل لم تبدِ تجاوباً لشعورها بأن ما تريده موسكو فعلياً هو استعادة عاصمة الشمال إلى حضن النظام. لكنها الآن تفاوض في أنقرة مسؤولين روساً على إخراج عناصر «النصرة» من المدينة في مقابل وقف الحرب. لكن ما عرضته روسيا قبل أشهر فاته الزمن. والمطلوب الآن خروج الجميع. تأخرت الفصائل والمعارضة السياسية في الرد على التحدي الذي فرضه التدخل الروسي قبل أكثر من عام ونصف العام. لم تعرف كيف تبدل في خطابها السياسي أو توحده وكيف توحد صفوف المقاتلين. ويخشى الآن أن ترتفع أصوات المدنيين القابعين تحت القصف والدمار للمطالبة بخروج جميع المقاتلين من حلب لتجنيبها الدمار الكامل. حتى تشكيل «جيش حلب» لم يرق للوزير لافروف الذي عده «مناورة جديدة» تتبعها «النصرة» التي كانت بدلت اسمها قبل مدة لتفادي وقوع الحرب القائمة اليوم.
لا جدال في أن الرئيس بوتين أحسن إدارة الصراع في سورية. غازل الكرد في سورية وأبدى استعداداً لتفهم مطالبهم. وضمن علاقة تنسيق جيدة مع إسرائيل، وكذلك مع الأردن الذي يمسك بحركة الفصائل في الجنوب. واستعاد علاقات حميمة مع تركيا التي تمسك أيضاً بالفصائل الناشطة في الشمال السوري. لذلك، كان ولا يزال لافتاً هذا السكون الذي يلف باقي الجبهات فيما حلب تصلى هذه النار القاتلة. أنقرة التي كانت تطمئن بعض أطياف المعارضة إلى مصير حلب يبدو أنها اكتفت بشريط ضيق شمالاً لمنع تمدد الكرد إلى غرب الفرات. وهي إلى الآن لم تتوجه إلى منبج على رغم التلويح والوعيد والتهديد. حتى مدينة الباب التي تقترب منها فصائل «الجيش الحر» قد تقفل الأبواب لوصول القوات التركية إليها. ولعل الغارة الأخيرة التي شنها طيران النظام السوري على هذه القوات كانت رسالة روسية صريحة في هذا الاتجاه. بات واضحاً أن الزعيمين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان يمارسان اللعبة ذاتها ويتبادلان الأدوار. يستخدم كلاهما علاقاته مع الآخر ورقة مساومة وابتزاز وضغط في وجه الولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي. الرئيس التركي لم يتورع عن التهديد بفتح حدود بلاده أمام موجات اللاجئين إلى أوروبا. ولوح بأن لديها خيارات بديلة من الاتحاد. طرح فكرة الانضمام إلى «منظمة شنغهاي للتعاون» التي تضم الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى. أما نظيره الروسي فيؤخر العلاقة مع الولايات المتحدة إلى درجة دنيا بعد مشروع التكامل الأوراسي، والتوجه نحو الصين والهند واليابان. يريد في النهاية مساهمة فاعلة في بناء النظام الدولي الجديد الذي أسف لعدم قيامه مستقراً إثر انهيار الحرب الباردة.
نجح القيصر في التربع على قلب سورية، أو بالأحرى في سورية المفيدة موزعاً بعض الأطراف على شركائه في الجنوب والشمال والغرب المحاذي للبنان، هو الذي كان يسأل بعض ضيوفه أو مضيفيه في بداية الأزمة: هل يريد الرئيس الأسد أن يكتفي بهذه السورية وقلبها الساحل؟ لذلك، لم يعد أمام المعارضة بشقيها السياسي والعسكري سوى البحث عن استراتيجية مختلفة. لم تنجح في مواجهة النظام. لم تنجح في ترسيخ شعار الدولة المدنية بعدما استفحلت الحروب المذهبية والعرقية. لم تنجح في بناء جسم مستقل إلى حد ما عن «الأصدقاء» الكثر في الإقليم وخارجه. في حين أجاد النظام لعب ورقة «الإرهاب». وعلى رغم أنه بدأ يربح علناً أصوات قيادات في الخارج من الرئيس ترامب إلى المرشح الفرنسي للرئاسة فرنسوا فيون، إلى آخرين لم يترددوا في إعادة علاقات أمنية مع أجهزته، إلا أنه فقد سلطة القرار الفعلي سياسياً وعسكرياً. باتت هذا بيد موسكو وإن شاركتها إيران أو زاحمت. ولن يكون أمام المعارضة في الأيام المقبلة سوى القبول بالمصير المكتوب لحلب: إما نموذج غروزني والتدمير الكامل، وإما نموذج بيروت التي حاصرتها إسرائيل حتى أحرجتها فأخرجت منظمة التحرير من مقارها وشوارعها إلى الشتات البعيد من تونس إلى ما كان يعرف باليمن الجنوبي. المعارضة السورية التي لم تفلح في إسقاط النظام لألف سبب وسبب ذاتي وموضوعي، هل تستطيع أن تقاوم جيوشاً روسية وإيرانية مدججة بكل أنواع السلاح الثقيل؟ التحدي كبير. ثورات عادلة كثيرة في التاريخ فشلت، لكن ثورات أخرى فازت حين عرفت كيف تبدل في استراتيجياتها سياسياً وعسكرياً. تسليم المعارضة القياد للشركاء و «الأصدقاء» في الخارج وتشتيت الجهود سياسياً وعسكرياً يعنيان ببساطة أنها لن تكون قادرة على مقاومة الحلول أو الصفقات المفروضة. خروج حلب من سيطرتها هل يكون بداية نهايتها أم بداية لشكل آخر من الصراع؟
الحياة
أي معادلة بعد سيطرة النظام على حلب؟/ روزانا بومنصف
شكل الموقف الذي اعلنه المنسق الدولي لسوريا ستافان دو ميستورا بقوله ان معركة حلب لن تطول كثيرا وانه يشعر بأن هذه المعركة ستنتهي بنهاية هذا العام مؤشرا على المعلومات التي يمتلكها كما كل العواصم المعنية بأن روسيا تؤمن الغطاء لاعادة سيطرة النظام بدعم من حلفائه الايرانيين وسواهم من الميليشيات على حلب وان اي خطط او اتصالات لن تنجح بمنع ذلك على رغم الكلام عن جهود متجددة لوزير الخارجية الاميركي جون كيري لا تبدو مجدية ما دامت روسيا تستغل الوقت الضائع الاميركي لتسجيل امر واقع جديد في سوريا فيما يؤكد تصريح مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي فيديركا موغيريني بأن سقوط حلب لن يعني نهاية الحرب في سوريا بأن الغرب استسلم لهذا الواقع من دون مقاومة تذكر. يعتقد مراقبون ديبلوماسيون كثر ان استعادة نظام الاسد السيطرة على حلب توفر له السيطرة على المدن الرئيسية وتمنحه سوريا المفيدة مع حليفتيه ايران وروسيا ما قد يعطيه قوة لاستمكال محاولة السيطرة على مناطق حيوية اخرى لفرض شروطه على المعارضة في الوقت الذي يعني سقوط المدينة التي كانت ولا تزال رمز المعارضة ومركزها الاساسي هزيمة كبيرة لها. واللافت ان التعامل مع سقوط حلب من الخارج انما يركز على معنى ذلك في ميزان الحرب الاهلية السورية بين النظام ومعارضيه فيما يغفل امر اساسي يتصل بواقع ان هزيمة المعارضة التي تركت لمصيرها انما يعني ايضا هزيمة محور اقليمي داعم للمعارضة او انه معارض لبقاء بشار الاسد في الحكم ايا تكن التحولات التي حصلت في المواقف السياسية. فمحاولة تركيا مثلا موازنة ما يحصل في حلب بالاصرار على ان الاسد ليس مؤهلا لان يحكم سوريا لا يعني اضطرار تركيا الى المساومة على هزيمة المعارضة لقاء التسليم ببقاء الاسد او تحملها نسبة لا بأس بها من المسؤولية عن هزيمة المعارضة. وكذلك بالنسبة الى الدول الاقليمية او الدول الغربية اذ انه في الوقت الذي يتم التسليم في الغرب بامتلاك روسيا الاوراق السورية والقدرة على التحكم بها يهمل المسؤولون الغربيون الاقرار علنا بان مساعدة بشار الاسد في استعادة السيطرة على حلب لا تعني فقط مكسبا له او لروسيا بل هو ايضا لمحور اقليمي ايراني منخرط عسكريا في الميدان على نحو يكرس هيمنة ايرانية من المرجح ان تجعل سوريا نموذجا مكررا عن العراق اي دولة فاشلة ايا تكن مكاسب النظام او الانتصارات التي يحققها في غياب عربي ملموس مع خسارة للمحور العربي ازاء المحور الايراني في سوريا، ولو ان روسيا في الواجهة اكثر من ايران ازاء التعاطي الدولي مع ما يحصل في سوريا، ولو ان سوريا لم تعد سوريا السابقة وهي لن تعود باعتماد الاسد على الدعم الخارجي لبقائه في السلطة مع جحافل الجيوش التي تتألف في سوريا وتنخر نظامها كما فعلت سوريا ابان وصايتها على لبنان من خلال اشرافها على انهاء لبنان كما كان وقولبته وفقا لمصالحها واهدافها وموقعها.
الام يمكن ان يؤدي فرض امر واقع جديد في سوريا من جانب روسيا. وهل هزيمة المعارضة في حلب تعني خروجها او اخراجها من الصورة نهائيا لمصلحة منطق النظام وحده بأن لا معارضة ضده بل ارهابيين؟. واستكمالا او استتباعا هل اعادة النظام السيطرة على حلب تمنح النظام نقاط قوة تمهد لعودة التواصل الخارجي معه مع تغيرات اساسية في الرئاسات او الادارات الغربية التي تصل الى السلطة في انتخابات رئاسية على اساس خطاب نقيض للادارات السابقة في السياستين الداخلية والخارجية على حد سواء كما حصل في الولايات المتحدة ومن المحتمل ان يحصل في فرنسا ؟. فبريطانيا مثلا مع سلطة حديثة تسعى الى ان ترسم على نحو مبكر وقبل ان يتسلم الرئيس الاميركي المنتخب مهماته حدود موقفها على قاعدة رفض ما تقوم به روسيا في قصف حلب ومسؤوليتها عما يجري ولا تعتبر الاسد مؤهلا لان يبقى في الحكم. لكنه سؤال اساسي تتوقف عليه معالم المرحلة المقبلة انطلاقا من قول الرئيس الاميركي المنتخب انه سيتعاون مع الاسد من اجل دحر تنظيم الدولة الاسلامية على رغم ترجيح مراقبين كثر ان المسألة باعادة النظام السيطرة على حلب قد تنحو في اتجاه تعزيز النظام اوراقه التفاوضية ازاء معارضيه ليس اكثر في حين ان لا ايران ولا روسيا يمكنهما ان تعملا بالمبدأ الذي تلاحق به الولايات المتحدة في العراق اي انه تقع عليهما مسؤولية اصلاح سوريا ما دامتا مسؤولتين عن كسرها وفقا لمقولة وزير الخارجية الاميركي السابق كولن باول ابان تحذيره الرئيس جورج دبليو بوش من الذهاب الى احتلال العراق واطاحة صدام حسين انه في حال كسرت العراق يتعين عليك ان تصلحه. فلا روسيا ولا ايران يمكنهما اعادة اعمار ما دمرته حربيهما مع النظام في سوريا ولا بقاء الاسد في السلطة يمكن ان يساعد على ذلك ايضا خصوصا متى كان بقاؤه عنوانا لاستمرار الانتفاضة ضده بأساليب ووسائل مختلفة وعنوانا لعدم انتهاء الحرب بالملايين من لاجئيها ومئات الالوف من قتلاها ومهجريها ضمن سوريا بالذات والتي يتحمل الرئيس السوري المسؤولية المباشرة عنها جميعا باقرار الامم المتحدة ومجلس الامن بحيث لا يمكن رؤساء الدول ايا تكن السياسة الجديدة التي سيعتمدونها تحمل محو السجل الحافل للنظام الذي اتهم بمسؤوليته عن جرائم حرب ارتكبها في بلاده.
النهار
هل قامت الدول الغربية بما يلزم لإنقاذ حلب؟/ روزانا بومنصف
لا يفترض ان تريح سلسلة التعيينات التي بدأها الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ( ولا كذلك ايران بالطبع) قياسا على الغزل الذي قام بين الرجلين ابان الحملات الانتخابية الاميركية وقياسا على الارتياح الذي كانت اثارته مواقف ترامب من سوريا في شكل خاص ابان حملاته الرئاسية. فوزير الدفاع الجنرال المعين جيمس ماتيس الذي فاخر ترامب بلقبه الكلب المسعور، له مواقفه المعروفة من الموضوع السوري وكان استقال بدفع من خلافه مع الرئيس الاميركي المشارفة ولايته على الانتهاء باراك اوباما حول الموضوع.وعدد من الاسماء المرشحة لوزارة الخارجية توحي بمسار مختلف عن ذلك الذي يأمل فيه بوتين على الارجح استكمالا لابتعاد الولايات المتحدة عن المنطقة وترك افاقها مشرعة امام النفوذ الروسي والهيمنة الايرانية خصوصا في ظل مؤشرات عدم ود تجاه ايران من ضمن التعيينات التي يجريها ترامب كما في ظل كونغرس يسيطر عليه الجمهوريون ولا يكنون مشاعر تعاطف مع ايران ، بل ان الرئيس الايراني دعا الرئيس الاميركي اوباما الى التصدي لفرض عقوبات جديدة على ايران. لا بل ان وزارة الدفاع يمكن ان تحدد سياقا للسياسة الخارجية الاميركية خصوصا بعدما ساهمت تحفظات وزارة الدفاع الاميركية برئاسة اشتون كارتر في فرملة الاتفاق بين وزير الخارجية الاميركي حول سوريا في ايلول الماضي والذي كان يقضي بتعاون عسكري بين البلدين. وفيما الترقب سيد الموقف فان التعيينات التي يجريها الرئيس الاميركي المنتخب والدلالات التي يمكن ان تحملها هذه التعيينات بدأت ترسم مسارا يتحوط من خلاله المترقبون لها للخطوات التي تحمي مصالحهم على نحو مسبق .
فيجد المراقبون ان روسيا التي تمهلت طويلا في شأن حلب بدأت تسابق الوقت من اجل اعادتها الى بيت طاعة النظام قبل تسلم ترامب الرئاسة في 20 كانون الثاني المقبل فيما تغدق المديح على وزير الخارجية الاميركي جون كيري فيما يتذرع نظيره الروسي بلقاءات مرتقبة جديدة معه في اليومين المقبلين لايجاد مخرج لحلب تحت عنوان عمل خبراء اميركيين وروس من اجل اخراج المسلحين من حلب في محاولة التفاف واضحة من روسيا على مشروع قرار في مجلس الامن يطلب هدنة لحلب لسبعة ايام واستباقا لاجتماع حول حلب دعت اليه فرنسا في العاشر من الجاري لمجموعة اصدقاء سوريا. فاقحام الاميركيين في المساعي الثنائية يقي روسيا بعض الضغوط . اذ بين مشروع قرار امام المجلس وصفه لافروف بانه استفزاز على رغم تعديلات اجريت عليه منذ وضعه بالصيغة الزرقاء في 29 من الشهر الماضي على نحو يلائم روسيا ان لجهة تقليل ايام الهدنة من 10 الى 7 ايام او سوى ذلك بحيث لا يعطيها ذريعة لاستخدام الفيتو وبين دعوة كندا الجمعية العمومية الى اجتماع طارىء هذا الاسبوع مبدئيا بدعم من المملكة العربية السعودية وتركيا للقيام بمهمات لا يقوم بها مجلس الامن اضافة الى اجتماع اصدقاء سوريا في باريس، تشعر روسيا بالضغوط الديبلوماسية لكن من دون ان تتخلى عن تطوير مطلبها من خروج عناصر النصرة او فتح الشام من حلب الى خروج كل المقاتلين تحت وطأة اعتبارهم ارهابيين .
هل قامت او تقوم الدول الغربية بكل جهد ممكن لانقاذ حلب او ان الارادة الروسية ستغلب في نهاية الامر ؟
تقول اوساط ديبلوماسية ان بعض الدول المؤثرة تحاول القيام بكل ما يفترض القيام به وما تستطيعه، مع الاخذ في الاعتبار التعطيل القسري الاميركي بين ادارة تستعد للمغادرة واخرى لم تستلم بعد مما يترك القرار الاميركي ضائعا فعلا، بغض النظر عن نجاحها في ذلك ام لا ، في حين تقوم روسيا في المقابل بكل ما تستطيع القيام به لمواجهة الضغوط الديبلوماسية التي ليست قليلة وذلك في الوقت الفاصل عن تسلم الادارة الاميركية مهامها. فثمة اقتناع بان روسيا ستتمسك بكل الذرائع الممكنة ان كان لجهة الفصل بين المقاتلين او وصفهم بالارهابيين من اجل استمرار عملياتها العسكرية وتبرير دعمها النظام في القصف الجوي الذي يواصله ضد احياء شرق حلب على رغم انها تفضل تفادي تدمير المزيد من حلب او التسبب بقتل المدنيين نظرا لما يمكن ان يتركه ذلك من انعكاسات عليها من جهة وفي علاقاتها مع بعض الدول العربية من جهة اخرى . لكن ليس من المرجح ان يكون صدور قرار عن مجلس الامن كافيا حتى لو اقر من خلال عدم تعطيله بالفيتو الروسي وذلك من اجل تجنيب حلب ما يواجهها او اتاحة وصول المساعدات الانسانية اليها.وبالنسبة الى هذه الاوساط فان لافروف حين يقول ان الخبراء الروس والاميركيين سيعملون على اخراج المسلحين من حلب انما يستبق ويستهين باي قرار يصدر عن مجلس الامن او عن الجمعية العمومية علما ان ما يصدر عن هذه الاخيرة ليس ملزما وكذلك الامر بالنسبة الى اجتماع اصدقاء سوريا. اذ احتمت روسيا دوما بالتواصل مع الاميركيين في هذا الشأن من اجل ابعاد كل الدول المعنية الاخرى التي انزعجت من ابعادها وواصلت عتبا على الولايات المتحدة فيما القرارات السابقة التي اتخذت في مجلس الامن حول سوريا لم تر النور ، واي بند او اجراء في هذه القرارات يطاول النظام ومسؤوليته عن قصف المدنيين تولت روسيا تعطيله بما في ذلك الاجراءات ضد استخدام بشار الاسد الاسلحة الكيميائية ضد شعبه.
النهار
حلب.. المجزرة “الكوزموبولوتية”/ زياد توبة
في خضم المجزرة المفتوحة في حلب بحق أهلها نساءً وأطفالاً ورجالاً، لا يسع بعض المحطات التلفزيونية المحلية إلا أن تقارب هذه المجزرة عبر الفذلكة الثقافوية. في الوقت التي تبدو فيه أشلاء الناس المدنيين على أرض حلب كوصمة عار علينا، وفي الوقت الذي تبدو فيه ذواتنا الإنسانية على المحك، يحلو لبعض الإعلاميين والصحافيين والعاملين في حقل إنتاج “المعرفة” أن يضع مقاربته لأفعال القتل في إطار التباكي على بعض معالم مدينة غارقة في دم أهلها. لم نعد ندري ما هو الأكثر هولاً مع تلك المقاربات في المادة الإعلامية المعروضة علينا. كأن يريد البعض منّا أن نقفز فوق جثث الضحايا ونتجاهل حجم الفاجعة من أجل كومة أحجار ما زالت صامدة على أطراف مدينة المجزرة.
لا تكتفي بعض وسائل الإعلام المرئية بتعديل مقارباتها وصياغة أخبارها على نحو يُجهّل هوية القاتل أو يخفف من وطأة القتل لصالح صناعة مشهد موت إعتيادي، لا بل يبدو أن المحطات تتعمد تأخير الخبر الوارد من المجزرة عبر ترتيب الأولوية الزمنية لعرض الخبر.
في نشرتها الإخبارية المسائية بتاريخ الأول من كانون الأول 2016، تختار محطة “الجديد” منتصف النشرة بالتوقيت لعرض مجريات الحرب على حلب. تبدأ ببث تقرير تحت عنوان “آغاتا كريستي مرت بحلب”. تقرير يصلح أن يكون ضمن تصنيفات جديدة في علم الإعلام كفانتازيا الحرب مثلاً!
يبدأ التقرير بصور الأشلاء والضحايا المنثورة في أزقة حلب. ضحايا تنام إلى الأبد بجانب حقائبها التي كانت معدّة للهرب من المجزرة المفتوحة هناك. تنتهي المشاهد الفظيعة بجملة: “هل تعلم أن الكاتبة آغاتا كريستي قد مرّت في الشهباء؟” ويمضي التقرير الى الحديث عن فندق “بارون” التاريخي وتحولاته على وقع معطيات المجزرة.
هل تعلم معدّة التقرير أن الدماء الساخنة على إسفلت الشهباء ليست مادة إعلامية تستعين بها كمدخل لإعطائنا درساً في الرواية البوليسية والعمارة التقليدية في حلب؟
لا يبدو لي أن هذا النوع من الإعلام منفكّاً عن ثقافة القتل هناك، وصناعة مشاهد الموت واستغلالها كمادة يتم صياغتها لتسويغ فعل القتل عبر تنميط مشهديته وجعله حدثاً عابراً. لا تكتفي معدّة التقرير بالحديث عن رحلات آغاتا كريستي المشرقية ورواياتها التي كتبتها في حلب، لا بل تستطرد حول فندق “بارون” ودوره التاريخي، وتستعرض لنا أهم النزلاء عبر التاريخ وكيف تحوّل إلى ملجإ للنازحين من الحرب.
يبدو التقرير أنه في زمن الرخاء الجميل لحلب، وأن ما يجري من حوله مجرد تهويمات أو مشاهد روائية من قصص كريستي عن الإجرام. دروس في الرواية والعمارة والتاريخ في تقرير عن مجزرة تحملها المعدّة كأسئلة لنائب رئيس تحرير جريدة “الأخبار” بيار أبي صعب الذي سرعان ما يستحضر ثقافته الوايكيبيدية حول حلب ليقول على وقع المجزرة: “حلب مدينة كوزموبوليتية.. الأديان، الثقافات، الحضارة، الإنفتاح، الطرب… عبد الوهاب…”. لم يكن ينقص حلب المبادة سوى تلك التعريفات وصفّ الكلام الذي يشكل دخاناً في وجه الناظر للموت الجلي هناك.
حلب مدينة كوزموبولتية فعلاً. فجنسيات مختلفة تمارس قتل أهلها يومياً تحت عنوان “معركة حلب بدأت”. هذا العنوان بالذات يبدو بسيطاً بالشكل في حين أنه مشحون بمدلولات كافية لجعله جريمة إضافية. إن الإبادة الحاصلة تبدو معركة بين طرفين في الإعلام، بين طائرات وبراميل وجيوش وميليشيات من جهة، وبين مدنيين من جهة أخرى قرروا النوم في الشوارع بجانب أمتعتهم التي استطاعوا حملها قبل الموت.
كثيرة هي العبارات التي تصنع وعينا حول المجزرة، فبعد هذا التقرير تابعت المحطة أخبارها حول مجزرة حرب بجملة بسيطة أيضاً: “يواصل الجيش السوري وحلفاؤه التقدم في حلب…” نعم يتقدم وهو الجيش الذي يخوض حروب النزهة فوق جثث أهل المدن والأرياف.
لا حياد أمام المجزرة حتى لو كانت مجزرة كوزموبوليتية فالضحية محليّة أهلية كانت تقطن للتو في هذا المنزل المدمّر الآن، كانت تركض منذ دقائق حيث شاهدناها مستلقية أرضاً نتيجة كوزموبوليتية القتلة.
المدن
أُحرقنا يوم أُحرقت حلب/ عديد نصار
قد يصمد مقاتلو المعارضة المسلحة في ما تبقى من حلب المحاصرة لأيام، وربما لأسابيع. وربما تنهار خطوطهم بسرعة أكبر من المتوقع. ولن تتمكن المعارضة “التفاوضية” من إقناع الدول التي رعتها خلال السنوات الماضية من عمر الثورة، والتي طالما راهنت على تلك الدول، لن تتمكن من إقناع أي منها في إبداء أي موقف عملي يغير من اتجاه الأحداث في حلب. وبالمناسبة، فإن الموقف التركي الأخير يعد نموذجا لمواقف الدول الراعية لتلك المعارضة، حيث تراجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن موقفه بشأن بشار الأسد حتى لا يعكر صفو علاقاته بموسكو.
وفي هذه الأثناء، سوف تتواصل حملة التدمير الممنهج للمدينة وتستمر، وتتكرر المجازر بحق أبنائها تحت سمع وبصر العالم كله. وسيكون نصيب من ينجو من القتل من أبنائها كمصير الملايين من السوريين الذين تم تشريدهم في أربع جهات من الأرض لتتحول قضيتهم من قضية ثورة لإسقاط الاستبداد إلى قضية لاجئين، صحيح أن كل ذلك لن يطوي حكاية مدينة مع الثورة، ولن يعيد للعصابة الأسدية السيطرة الكاملة أو حتى المنقوصة على عموم البلاد السورية، ولن يمكن للاحتلالين الروسي والإيراني أن يتقاسما النصر والأرض بهدوء واطمئنان، باختصار أن ذلك لن ينهي الثورة السورية ولن يجعل من صيرورتها أثرا بعد عين، ولكنها ستتواصل بصور وأشكال مختلفة في حلب وفي غير حلب حتى إسقاط العصابة الأسدية وإزالة كل أشكال الاحتلالات التي تطأ اليوم أراضي سورية.
نعم! كلنا يشهد اليوم على التدمير الممنهج لمدينة طالما تغنى الناس بأمجادها وبعراقتها، وجميعنا يشاهد صور وأفلام المجازر بحق أبنائها حتى وهم يهمون بالخروج منها إلى لا مكان. فإذا كانت مصالح الدول والأنظمة والحكام تملي عليهم التعامي والتواطئ والمشاركة في ذبح المدينة، فماذا عن الشعوب؟ وماذا عن مدن العالم وأهلها؟ هل يراهنون بعدُ على طيبة وإنسانية وإخلاص حكامهم لهم؟
تتجمع اليوم مجموعة من العناصر التي تنذر بمستقبل قريب قاتم، ليس في سوريا وحدها، بل في الكثير من البلدان بما فيها مراكز الهيمنة الدولية التي تبدو عصية على الثورات، بدءا بأزمة نظام رأس المال ووصولا إلى تسلم اليمين المتطرف والعنصري مقاليد السلطة، إذ لم تعد سيطرة التطرف والاستئثار المافيوي والقوى العنصرية حكرا على الدول المخلفة، بل وصلت إلى واشنطن نفسها بعدما كانت عبرت الجهة المسيطرة في روسيا عن طبيعتها المازوشية في الحكم المافيوي والسلوك الإمبريالي الموتور. وإذا ما تعمم هذا النموذج في البلدان الأوروبية وتحكمت النزعة القومية الشوفينية والتمييز ضد المهاجرين والقوميات الأخرى، فإن ذلك سيمثل من قبل المنظومة الرأسمالية المسيطرة بحلتها المافيوية محاولة للهروب الى الأمام من أزمة هذا النظام التي تضرب في طبيعته وتشكله البنيوي، لكنها ستضاعف بشكل غير مسبوق من الضغوط على المجتمعات ودفع الملايين من أبنائها إلى التهميش والإفقار المدقع والتشرد.
هذه الأزمة البنيوية التي يعيشها نظام رأس المال العالمي اليوم تختلف تماما عمّا اعتاد عليه هذا النظام من أزمات دورية خلال شبابه، تلك الأزمات التي كانت في ما مضى تعبيرا عن فاعلية الاقتصاد المنتج (الحقيقي) في مقابل تباطئ الأسواق، في حين أن الأزمة الراهنة، التي تمادت منذ سنة 2008 والتي تجذرت وتواصل التعمّق رغم كل الادعاءات بالانفراجات الاقتصادية والمالية في الولايات المتحدة وغيرها من مراكز هذا النظام، تضرب في بنيته وطبيعة تكوينه.
فبعد الهيمنة الكاملة للاقتصاد الحقيقي (التشغيلي)، الصناعي تحديدا (والزراعي أيضا) حصل الالتحام بين الاقتصادين الحقيقي والنقدي (الريعي) ثم انقلبت الهيمنة تماما للأخير فآلت السيطرة إلى الطغم المالية التي باتت تتحكم بالإنتاج وتوزع مراكزه على البلدان وبطبيعة السلع المنتجة وبكمياتها بما يضمن لها السيطرة الدائمة والفعالية المطلقة والأرباح الكثيفة بعيدا عن الانشغال بالقضايا الاجتماعية والعمالية والنقابية وقضايا التوزيع والتنمية والبيئة.
وأصبحت البنوك والبيوتات المالية والتعاملات النقدية والبورصات والأسهم هي المجالات الاقتصادية الأكثر ديناميكية والأسرع في مراكمة الثروات لدى قلة تتقلص كل يوم لتتركز الثروة بيد مجموعة من الأشخاص يعدون على الأصابع، ما راكم المديونية على الدول وفرض التراجع عن مجمل تقديمات دولة الرعاية بما في ذلك حق الرعاية الصحية والاجتماعية للمواطنين.
هذه الأزمة المتفاقمة التي أرخت بظلالها بشدة على البلدان الطرفية وخصوصا العربية حيث باتت السيطرة لمافيات عائلية تبتلع الاقتصاد وتهمش المجتمع، أدت منذ أواخر 2010 إلى انتفاضات وثورات اجتماعية امتدت كالنار في الهشيم ووصلت أصداؤها إلى كبريات مدن العالم في الشرق وفي الغرب، ووجهت بشتى صنوف التحايل والقمع وصولا إلى الإبادة التي نراها اليوم في سوريا التي استجلب نظامها الدموي كل شذاذ الآفاق والمرتزقة في العالم لإدامة سيطرته، أو دعونا نقول: استغلت المنظومة الدولية دموية نظامها والميليشيات الطائفية المسعورة والمأجورة من أجل إسقاط الشعب بدل إسقاط النظام! وبالتالي فإن من يقاتل إلى جانب العصابة الأسدية إنما يقاتل بها دفاعا عن المنظومة الرأسمالية بحلتها المافيوية وعن سيطرتها في العالم كله.
هذه الأزمة وهذه الانتفاضات وما نشأ عنها وتراكم حولها، وخصوصا في سوريا وما نشأ عن القمع الدموي لثورتها من أزمة لاجئين كان لأوروبا منها نصيب وافر، وبعد تفشي الإرهاب الذي ضرب في قلب المدن الأوروبية، كل ذلك يدفع بقوى التطرف والعنصرية إلى السلطة في مراكز نظام رأس المال الرئيسية بدءا من واشنطن حيث فاز المرشح دونالد ترامب الشهير بمواقفه الصفيقة بمنصب الرئاسة. وصول هذه القوى اليمينية المتطرفة إلى السلطة سيضاعف بشكل متسارع من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية على المجتمعات المدينية في مختلف بلدان العالم ومنها مدن الغرب الرئيسية، ما سيؤدي حكما إلى انتفاضات وانفجارات شعبية.
إن الطريقة التي واجه بها النظام العالمي تحويل مدينة بحجم حلب إلى مقبرة لأبنائها، وسكوت شعوب العالم على ذلك، سيجعلان من مدينة حلب نموذجا يعممه النظام العالمي بقياداته اليمينية المتطرفة على مدن العالم في حال انتفضت نتيجة الضغوط التي نوهنا بها أعلاه. وسيصرخ أهالي شيكاغو وبوسطن وشنغهاي وليل وسان بطرسبورغ دون أن يجيبهم أحد: أحرقنا يوم أحرقت حلب!
العرب
أين العرب يا حلب/ علي الأمين
لم يسبق أن شهدت مدينة هذا الإصرار على تدميرها من قبل من يدّعي أنّه صاحب السلطة والشرعية في حكمها، هذا ما يفعله نظام بشار الأسد في مدينة حلب مستعينا بالطائرات الحربية الروسية وبالميليشيات الإيرانية بهوياتها المتنوعة اللبنانية والعراقية والأفغانية وغيرها، الإصرار على التدمير والقتل إلى حدّ الإبادة. فماكنة التدمير والقتل لم تتوقف في شرق حلب منذ أشهر، وهي تفعل فعلها في أبناء المدينة وبنيانها وفي تاريخها ومستقبلها، كلّ ذلك يجري وسط صمت العالم. وإن برزت بعض الإدانات، إلاّ أنّ الثابت هو عدم التحرك الجدي والمفيد لوقف المجزرة واللازمة الدائمة “محاربة الإرهاب”.
المفارقة أنّ روسيا هي التي قامت بمحاولة تحقيق انتصار كامل من دون المزيد من الدمار. فممثلوها جلسوا مع ممثلي الفصائل المسلحة في رعاية تركيا وعلى أراضيها، اقترح الروس، بداية، سحب مئتي مقاتل ممن يندرجون ضمن عناصر المجموعات الإرهابية من شرق حلب، مقابل وقف النار وإدخال المساعدات الغذائية وإزالة الحصار. وافقت المعارضة على الطلب الروسي، لكن انقلبت روسيا على عرضها وطلبت سحب كلّ المسلحين من المدينة، وهذا ما كشف أنّ القرار الروسي يبحث عن إنهاء أيّ شكل من أشكال المعارضة في حلب وتسليم حلب الشرقية إلى النظام السوري وحلفائه.
مجزرة حلب مستمرة لأنّها خوض في أرواح ودماء الأبرياء. لن يقف أحد من هذا العالم الذي يدعي الحرية، ليقول “أوقفوا هذه المجزرة”. ربما قال البعض ذلك لكن أحدا لن يكلف دولته أن تقوم بما يجعل القاتل مترددا أو متحسبا من عقاب أو رد فعل. يذكر الجميع وفي العام 2013 كيف أنّ واشنطن التي هددت بالتدخل إثر استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام السوري ضد شعبه، كيف أنّ النظام استعجل الاستجابة لتسليم السلاح الكيماوي. بالتأكيد لم يكن التدخل الأميركي للذود عن الآلاف من القتلى المدنيين، بل لأنّ السلاح الكيماوي خط أحمر في الحسابات الأميركية، ويتصل بمصالح دولية لا تعني الشعب السوري. المهم أنّ النظام السوري عندما لمس جدية التهديد الأميركي كان سريع الاستجابة وسلم ما يريدون وما لا يريدون.
لذا فالوظيفة الأكثر وضوحا ضمن سياسة نظام القتل والاستبداد في سوريا، والتي لا يمكن تبرئة المجتمع الدولي من التورط في رعايتها أو غض النظر عن مجرياتها الكارثية، هي تدمير المجتمع السوري بالتهجير إلى الخارج وبالتغيير الديموغرافي داخل البلد. فأكثر من عشرة ملايين سوري خرجوا مكرهين من ديارهم، فيما تشكل وظيفة تأمين الاستقرار على الحدود الجنوبية مع إسرائيل عنصرا استراتيجيا في توفير الحماية للنظام السوري الذي برع في الالتزام بشروط الهدنة مع إسرائيل، بل تأمين كلّ ما يتيح استقرار الجولان تحت سلطة الاحتلال.
وظيفة النظام السوري الثانية وهي الأهم ومتصلة بالأولى، توفر له الحماية الإستراتيجية، وتكمن في عدم تجاوزه الخطوط الحمر تجاه إسرائيل. سوى ذلك فهو مطلق اليد في إبادة الشعب السوري، وهو لن يتوقف عن القيام بهذه الوظيفة طالما توافر له الغطاء الدولي. وفي المقابل ثمّة وظيفة لا تقلّ أهمية وهي أنّ الحرب السورية أصبحت عنصر استنزاف للقوة الإيرانية والروسية، وأغرقت حزب الله في حرب من الصعب أن يخرج منها، وصار وجوده مرتبطا بنتائج هذه الحرب ومصيرها.
القتل مستمر في حلب وآلة الدمار التي توغّلت في هذه المدينة وأهلها تجعل الإنسان مجردا من كلّ القيم الإنسانية، تحيله إلى مخلوق لا غاية له إلاّ القتل والتدمير. فالانتصار في حلب هو انتصار للاستبداد، لخيار قمع الشعوب ومصادرة حقها في الحياة الحرة والكريمة. ما انتصر في حلب هو الموت. هنيئا لروسيا ما دمرت، وهنيئا لقاسم سليماني استعراضه المصور في حلب قبل يومين، وهنيئا للعرب صمتهم المريب عن المجزرة السورية المستمرة من دون توقف، ومن دون حتى بيان عن الجامعة العربية ولو عن أمانتها العامة حتى لا نقول عن وزراء الخارجية العرب.
يبقى أنّ المعارضة السورية السياسية، من الائتلاف المعارض إلى الهيئة العليا للمفاوضات، تبدو الغائب الأكبر بعد الضمير العالمي. هذه المعارضة حرّيٌ بها أن تنتقل إلى الداخل السوري وأن ترتقي إلى مستوى تضحيات شعبها، فالشعب السوري الذي لم يبخل بتقديم التضحيات خلال مواجهة النظام وحلفائه، بدا أنّه يفتقد القيادة التي تستطيع أن تثمن هذه التضحيات في مشروع الخلاص الوطني من الاستبداد. فالثورة السورية ومهما قيل في وصفها اليوم، تكشف يوميا عجز آلة الدمار عن حكم سوريا. فنظام الأسد العاجز عن حكم سوريا، والذي بات أداة في يد إيران وروسيا، هو أعجز من أن يستطيع الاستمرار في حكم الشعب السوري. قد تسقط مدينة حلب وقد تسقط المعارضة السياسية وقد يعلن أمين عام حزب الله “أنّنا انتصرنا في سوريا”… لكنّ ذلك كلّه لن يعني شيئا على الأرض، سوى استمرار الأزمة التي شكل نظام الأسد عنوانها منذ انطلقت الثورة قبل ستة أعوام، وما لم يسقط هذا النظام فلا حلول يعتد بها أو قابلة للتنفيذ.
الانتصار في سوريا الذي يدعيه النظام وآلته الإعلامية، لن يكون سوريا، بل هو انتصار لآلة القتل والاستبداد. يكفي هذا الدمار والموت والتهجير ليتضح أن السوريين يرفضون نظام الأسد وأنّ هذا النظام ليس لديه غير حليفيه الروسي والإيراني ومن خلفهما إسرائيل، لكن يبقى أنّ عملية تطويع وتدجين القوى الإقليمية تحتاج إلى المزيد من استنزافها في المساحة السورية والعراقية، وهي مهمة كفيلة بأن ترسخ المنظومات المذهبية والطائفية، وتزيد من مستوى العداء والكراهية، وهذا الجرح وحده سيجعل تركيا وإيران أداتين طيّعتين للخارج الأميركي والروسي، بعدما فقد العرب تأثيرهم في المعادلتين السورية والعراقية، وسواء كانت واشنطن أو موسكو المتحكمة بقواعد اللعبة، فالأكيد أنّ إسرائيل تستبشر خيراً لعقود.
العرب
إعدام حلب رسالة جوابية من روسيا إلى منتقديها في مجلس الأمن/ حامد الكيلاني
على جدار الرواق المؤدي إلى قاعة مجلس الأمن الدولي ترتفع لوحة الجورنيكا للفنان العالمي التشكيلي بابلو بيكاسو بنسخة مكبرة؛ يمر بها في كل اجتماع، الأعضاء الخمسة الدائمون، ومنهم طبعا السفير الروسي الذي يرأس المجلس في دورته الحالية، ويتلقى ببرود أعصاب، مضطر عليها، ردود أفعال كل من سفراء بريطانيا وفرنسا وأميركا وإداناتهم المستمرة للموقف الروسي المتشنج والرافض لكل حل أو حقن للدماء في سوريا وحلب تحديدا؛ وصلت بهم وقائع المجازر إلى تجاوز اللياقة الدبلوماسية لإيصال غضبهم بعد استخدام روسيا حق النقض الفيتو لخمس مرات متتالية على مدى سنوات الحرب أو الصراع في سوريا.
لا شيء يُلهِم روسيا لتغيير موقفها؛ الرموز العظيمة التي تتفق عليها الإنسانية كذاكرة تتوقف عندها لتتأمل مصير الشعوب والسلام العالمي لا تعني لها ولمندوبها أي قيمة تؤثر في القرارات الدولية الخطيرة؛ لوحة الجورنيكا أراد منها المعنيون بتصميم المكان ودوره الوظيفي توصيل شحنة أمل وليست شاحنة استبداد على رأي أو موقف، وبالتالي المزيد من دماء وخراب المدن بما فيها من ضحايا أبرياء.
الجورنيكا قرية صغيرة في شمال إسبانيا بإقليم الباسك بالقرب من مدينة بيلباو، وهي صورة مصغرة لحلب السورية في مقاربتها المأساوية من إعادة إنتاج الموت والمداخلات الدولية والاصطفافات المنحازة والدور الروسي أيضا؛ لكن تم استبدال شبح ستالين بشبح بوتين.
الفرق يكمن في المفهوم العام أو الانطباع السائد عن موقف ثورة أكتوبر الروسية بمناصرة الثورات التحررية في العالم، وهذا ما حصل، أو يفترض أنه حصل في إسبانيا إبان الحرب الأهلية ومحاولة الثوار الخلاص من دكتاتورية حكومة فرانكو الذي كان يقف إلى جانبه عمليا وبكل قوة موسوليني وحزبه الإيطالي الفاشي وهتلر وحزبه الألماني النازي؛ بالمقابل الدعم الستاليني للثوار وتحوله إلى نقمة أدت إلى انتصار الفاشيين ونهاية الحرب الأهلية في الأول من أبريل 1939 بعد سلسلة من الاغتيالات لشخصيات وقادة في الحزب الشيوعي، لأنهم كانوا لا يمتثلون لإرادة ستالين المطلقة ويبحثون لأنفسهم عن مساحة من الحرية في التوجهات الفكرية غير المنسجمة مع تصلب شخصية ستالين؛ لحظة الفراق المباشرة وقعت في مايو 1937 وفي مدينة برشلونة عندما أصدر مدير الشرطة أوامره بقمع التظاهرات بالقوة، وهو من الشيوعيين الستالينيين وبمساندة ميليشيات الحزب الشيوعي الإسباني؛ شن عملية تطهير واسعة للشيوعيين الذين كانوا يميلون بأفكارهم الخاصة إلى زعماء آخرين مثل تروتسكي، وكان ستالين يرى فيهم أعداء له ولمركزيته.
أي أن الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة ضد الدكتاتورية ضاعت في تخبط المصالح وتغير المواقف بما أفرزته الحرب وانتشارها، ومشاركة أعداد كبيرة من الحالمين، كتابا وأدباء وفنانين وصحافيين وشعراء حتى من خارج إسبانيا، في عالم متحرر من الطغاة وسجون الرأي وانعدام حقوق الإنسان؛ رغم أنها كانت ساحة أولية للصراع الدولي حينذاك بين إيطاليا وألمانيا من جهة، والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى، تم فيها تجريب الأسلحة والسياسة أيضا كما يحدث في حلب اليوم؛ يمكن القول إنها كانت نزالا تمهيديا في طريقه إلى الحرب العالمية الثانية الكارثية بكل المستويات لدول المحور أو دول الحلفاء، ولم تنته إلا بالضربة النووية للمدن اليابانية المنكوبة.
في 26 أبريل 1937 ولأغراض الترويع والصدمة بادرت طائرات السلاح الجوي الألماني بجحفل أو لواء الكوندور النازي ومعهم وحدة أفياتزيوني الإيطالية بقصف وحشي ومهاجمة قرية الجورنيكا، معظم قاطنيها كانوا من كبار السن والنساء والأطفال لخلوها تقريبا من الرجال المقاتلين المتواجدين أصلا في الجبهات، وحدثت المجزرة التي صنعت من الجورنيكا في اليوم نفسه أشهر أيقونة لفداحة الحروب الأهلية بعد أن نشرت جريدة “ذا تايم أرتيكل” تقريرا من صحافي يدعى جورستير عاش مأساة القرية ونقل أهوال الجريمة.
ما خلد المدينة، تكليف الفنان بيكاسو برسم لوحة جدارية عن الجورنيكا بعد أيام فقط من الجريمة لمعرض باريس الدولي، اللوحة الأصلية موجودة في أحد متاحف مدريد، وأُريدَ لها أن تكون في ممر قرارات السلم العالمي بحجم كبير ظاهر للعيان، لتذكر الجميع ببشاعة الحروب وبالذات ما تعنيه الحروب الأهلية.
سنوات طويلة بعد جريمة الجورنيكا، وفي مارس 1999 اعترفت الحكومة الألمانية بمسؤوليتها عن الهجمات على القرية الوديعة بأثر رجعي، وفي نفس العام أعلن البرلمان الإسباني أن القصف نفذته قيادات فرانكو، غير أن الحكومة الإسبانية لم تعتذر من جورنيكا ومواطنيها؛ ذلك جزء من تداعيات رغبة الانفصال عن إسبانيا وتشكيل جمهورية لإقليم الباسك التي خاضت بعض منظماتها أعمال العنف والتمرد على مدى العهود الأخيرة.
استمر حكم فرانكو إلى غاية وفاته في العام 1975 وبقيت فرنسا وبريطانيا على موقفهما منه كدكتاتور أودى بحياة الآلاف من شعبه في حرب أهلية ألقت بأحمالها على العالم؛ اليوم النظام الحاكم في سوريا والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكل الفصائل الطائفية الإيرانية يصنعون من حلب أيقونة لصمود الشعب السوري بوجه أعتى الدكتاتوريات، رغم كل حملات التضليل وخلط الأوراق وصناعة الإرهاب وتدمير المدن الممنهج، خاصة بعد أن شارفت المنافسة على لعبة الوقت على نهايتها بإعلان سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي الاستمرار بالعمليات العسكرية في حلب، واعتبار كل المقاتلين مجموعات إرهابية.
الأمر يتعلق ببقاء النظام في سوريا، وهذا الهدف الذي من أجله كانت المفاوضات الدولية ومناورات جنيف وغيرها، كسب الوقت وإحداث الفرق في موازين القوى، وهو ما كنا نؤكد عليه دائما، لكن للسياسة ثمن دفعه الشعب السوري من دمه وعذاباته لانفراد الذئاب الدولية والطائفية بالثورة، مستغلة فراغا تاريخيا أنتج لنا التفرد الروسي وسيلا من حماقات ملالي إيران تجاه أمتنا العربية.
أيام التهيئة للعدوان الأميركي واحتلال العراق اضطرت المنظمة الدولية ومجلس أمنها إلى إخفاء لوحة الجورنيكا بحجاب من قماش الخجل، لأن أصوات الحرب وطبولها لا تتناسب أبدا مع عبرة المضامين في اللوحة التي تقدم بشاعة الحرب ووحشيتها، لتصنع الفارق وتعيد بناء قصر العدل، أو بالأحرى قصر العقل وبنايته الشاهقة التي بذخت البشرية على مدى تعاقب أجيالها الملايين من أرواح أبنائها لتستنير بالحكمة والمعرفة ولتنعم الشعوب بالأمن والاستقرار ولقمة عيش وسقف بيت وفرصة عمل وتعليم وصحة.
اليوم، روسيا تعيد مأساة الجورنيكا في حلب، ومباشرة ضد الثورة، ودون قناع أو استمالات، وتقف إلى جانب الحاكم الظالم المستبد، وتجاهر بلامبالاتها بالمواقف الدولية التي تزدري التعنت الروسي الشائن الذي اختار الانحياز كاملا إلى لعبة الوقت واستثمار الإبادة كورقة واضحة سرعان ما ستتم معالجتها بالتسويات الدولية الجاهزة أو مساعدات ما بعد الموت لتوصيل رسالة الحاكم بالسماح للشعب بالعيش تحت إرادته ومزاجه وصلاحياته المطلقة وأيضا صلاحيات الولي الفقيه الإيراني ومظلة الاحتلال الروسي.
حلب، هل هي هدية بوتين للرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل توليه الرئاسة الفعلية الشهر القادم؟ وماذا بعد حلب؟ وهل ستنجو إدلب بعد أن تم التهجير القسري للمقاتلين وعوائلهم إليها في حملة التغيير الديموغرافي لسكان المدن والأحياء السورية المعروفة بصمودها؟
حلب، لوحة لجريمة حرب صداها يتردد في أروقة الحياة، وليست رواية أو قصة أو سيناريو في أقبية المخابرات لفبركة مصالح نظام أو مزاج رئيس دولة كبرى أو معتوه طائفي أو تنظيم إرهابي أو ميليشيا حاكمة. يبدو أن المارين إلى قاعة مجلس الأمن لم يعودوا ينظرون إلى لوحة الجورنيكا، أو ربما انزوت الجورنيكا في حضن بيكاسو خجلا من حلب لتشاركه الأسى وخيبة الأمل بالمُثُل العليا.
كاتب عراقي
العرب
المراوغة الروسية/ سلامة كيلة
تزيد روسيا من وحشيتها ضد حلب وإدلب والريف الشمالي، وهي تمارس عملية إبادة شاملة، على الرغم من أنها تراوغ من خلال التواصل تحت حجة البحث عن حل، لكنها تعتبر أن فشل الوصول إلى حل ناتج عن تمسّك بعض الأطراف بإزاحة بشار الأسد. ولهذا، تزيد من ضغطها ومناوراتها، من أجل “إقناع” هذا البعض بالتخلي عن مطلبه هذا.
فشل الوصول إلى حل ناتج عن “معضلة” بشار الأسد، فالمواقف تفترق حين التطرق إلى وضع الأسد، وتفشل المفاوضات، لأنها لا يجب أن تتناول وضعه. وإذا كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يعتبر أن سبب الفشل هو نتيجة التمسك بإزاحته، فيمكن أن نقول العكس، أي أن سبب الفشل هو نتيجة تمسك الروس ببقاء بشار الأسد، فقد تمحور الصراع، منذ بدء الثورة، حول رحيله. لهذا رفع الشعب شعار إسقاط النظام، وضحّى، وعانى، وواجه وحشية النظام وإيران وروسيا من أجل إزاحة بشار الأسد، فكيف يمكن أن نعتبر أن سبب فشل المفاوضات هو التمسّك بإزاحة بشار الأسد؟
قبول الذين خرجوا لتغيير النظام بالحل، بالتالي، ينطلق من إزاحة بشار الأسد. وإذا كان الرئيسان في تونس ومصر أزيحا بهدوء، ومن دون تضحيات كبيرة، فكيف يمكن أن يقبل الشعب بقاء رئيسٍ دمّر نصف البلد وهجّر نصف سكانه، وقتل مئات الآلاف، واعتقل مئات الآلاف كذلك؟
لا ترى روسيا ذلك، بل إنها تساهم فيه، وتساهم فيه بجدارة، معلنةً أنها تجرّب أحدث أسلحتها، ومؤكدها أنها تهدّد العالم بتفوق قوتها. وقد رأت في كل الثورات “مؤامرةً” أصلاً، لأنها تتخوّف منها، وتعرف أن الثورات الآن لن تصبّ في مصلحتها، لأن الشعوب تريد التحرّر من السيطرة والاحتلال والاستغلال والنهب، ولا تريد قبول بديلٍ آتٍ من أجل السيطرة والاحتلال والاستغلال والنهب. وتعرف أن الوضع العالمي ينحو نحو انفجار الثورات، وبالتالي، يمكن أن تصل إلى موسكو من دون أن تستطيع مقاومتها. وتعرف كذلك أنه لا أحد في الدول الإقليمية والإمبريالية يسعى إلى دعم ثورةٍ أو السماح بانتصارها، لأنه يرى نتائجها عليه، حيث أن وضعها جميعاً متأزم، وتخضع لأزمةٍ اقتصاديةٍ عميقةٍ، لا حلّ لها.
لهذا، تقدّمت إلى سورية، لكي تستولي عليها، وليس لكي تتوصل إلى حل سياسي، فهي تريد التوسّع بعد أن باتت إمبريالية، حيث تحتاج إلى الأسواق والسيطرة على الجغرافيا السياسية، وإيجاد أسواق لأسلحتها وسلعها. لهذا، فرضت على بشار الأسد أن يوقّع معها اتفاقية احتلال “غير محدّد” الزمن، ولقد سرّبوه هم. وبالتالي، بات بشار الأسد المشرِّع لوجودهم، وواجهة هذا الوجود. ومن ثم أصبح من البديهي ألا يجري طرح مسألة إزاحته، واستغراب أن هناك من يطرح ذلك.
مسألة فشل الحل هي بالضبط نتيجة التمسّك ببشار الأسد، لأنه ليس من حلّ في ظل استمرار سلطته، بعد أن رفع الشعب شعار إسقاط النظام، وبعد كل ما فعل. وعلى الرغم من كل التوافق الدولي الذي حصل، ويمكن أن يحصل بشأن وضع بشار الأسد، فإنه لا حلّ من دون أن يبدأ بإزاحة الأسد. طبعاً على الرغم من كل الوحشية الروسية، ووحشية إيران وعملائها، ووحشية النظام الذي بات الأضعف في معادلة السلطة في سورية. فقد كان رئيساً يحكم قبل الثورة ومع انطلاقها، وحاول أن يقاوم الثورة بالقوى التي يملكها، ثم بات خاضعاً لسلطةٍ أعلى، إيران في المرحلة الأولى، حيث باتت تتحكّم بالقرار العسكري السياسي، ومن ثم روسيا التي تتحكّم بكل القرارات وبالسلطة، وبالتالي تحكم بشار الأسد. لهذا بالضبط لا تريد أن يتحدّث أحد عن مصيره، وهي مصممة على ألا يدخل في بورصة التفاوض.
ذلك كله حتى وإنْ فرض الوضع تدمير ليس حلب فقط بل ما تبقى من سورية. فإذا كان الأسد قد عمّم ما فعله حافظ الأسد في حماة سنة 1982 على كل سورية، فيبدو أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين آتٍ لكي يعمم ما فعل هو في غروزني على كل سورية، ليعود الى الشعار الأثير: الأسد أو نحرق البلد، الأسد أو لا أحد. هذا هو بالضبط موقف روسيا.
من أفشل الحل السياسي هو من تمسّك ببقاء الأسد، لأنه لا حلّ ممكن في وجوده، ليس لأن هناك من يتمسّك بذلك من الدول أو المعارضة، بل بالضبط لأن الثورة لم تعد تسمح ببقائه، فكل حلٍّ يبقيه يعني بقاء الصراع.
العربي الجديد
بوتين أحرق حلب وبكاها العرب/ ثائر الزعزوع
لم يكن مستغربا أن يرفع المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة ذراعه مستخدما حق النقض الفيتو، وأن يحذو حذوه المندوب الصيني خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي لإيقاف تمرير مشروع قرار إنساني مصري نيوزلندي إسباني. كان يقترح هدنة مدتها سبعة أيام فقط يتم خلالها إيصال المساعدات للسكان المحاصرين في القسم الشرقي من مدينة حلب.
وقد بررت روسيا رفضها لمشروع القرار كما في مرات سابقة بأنه لا يفي بالغرض، واستطرد وزير خارجيتها ليقول إن اتفاقا لخبراء روس وأميركيين يبحث عن حل سينهي الأزمة بشكل كامل، وقد أُعلن لاحقا أن الخبراء لم يتفقوا، بدلا من هدنة تتيح الفرصة للمقاتلين ليستعيدوا قواهم التي خسروها منذ أن أطلقت موسكو ومعها نظام دمشق حملتهما العسكرية الأخيرة، التي وصفت على مستوى عالمي بأنها الجحيم مجسّدا في حلب.
لا يبدو مجديا الحديث عما حدث خلال الجلسة الأخيرة والاستنكار الذي أطلقته بعض العواصم الغربية تحديدا والتي تبدو غير قادرة، وربما غير راغبة في البحث عن أساليب مختلفة تكون أكثر نجاعة من مجلس الأمن الذي باتت روسيا تعتبره، منذ قرابة ست سنوات، سلاحها المفضل لصفع المجتمع الدولي والضمير الإنساني كلما أتيحت لها الفرصة لفعل ذلك. ولعل استعادة شريط الجرائم الروسية في سوريا والذي تميل بعض وسائل الإعلام لمقارنته بالجرائم التي ارتكبها ويرتكبها تنظيم داعش، لن تكون مجدية أيضا، فالأمر بات واضحا للجميع.
بل إن موسكو نفسها لا تمانع من التفاخر بما تقوم به من جرائم تؤكد قدراتها العسكرية، وتفوق آلتها التدميرية في مواجهة فصائل وكتائب لا تمتلك أي وسيلة للرد على ذلك القصف الجوي المتواصل وغير المسبوق، وخاصة بعد أن وقفت واشنطن، ومنذ سنوات، سدا منيعا أمام أي محاولة لتمرير مضادات للطيران لخشيتها من أن تقع في أيدي جماعات متطرفة. كما عللت ومازالت تعلل، وقد رفضت الكتائب والفصائل المعارضة، في أعقاب مفاوضات مع ممثلين عن الإدارة الروسية في العاصمة التركية أنقرة، الانسحاب وإخلاء حلب مشترطة انسحابا روسيا إيرانيا بالمقابل، إلا أن ذلك لن يتحقق، ما يعني بالضرورة المزيد من القتل والتدمير والتهجير.
لكنه قد يعني أيضا حرب عصابات طويلة الأمد لا تريد روسيا لها أن تحدث، فهي تعرف تماما أن قوات النظام والميليشيات الطائفية الموالية لها لن تستطيع تحقيق أي انتصار على الأرض، إن لم يكن مدعوما بغطاء جوي كثيف، وهذا لن يكون ممكنا في حال المواجهة المباشرة على الأرض. ثم إن موسكو تسابق الزمن لحسم موضوع حلب قبل أن يحدث التغيير المرتقب في واشنطن، وتبدأ حقبة جديدة في السياسة الأميركية لا يستطيع أحد التكهن بملامحها الخارجية، رغم الخطوط العريضة التي أعلن عنها الرئيس المنتخب دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية والتي تؤيد التوجهات الروسية، بل ربما لا تستبعد التحالف مع موسكو في حربها على ما تسميه كلتاهما الإرهاب.
على الضفة الأخرى تبدو أوروبا في حالة من التردد السياسي، فهي لا تستطيع التصرف منفردة بعيدة عن الحليف الأميركي خاصة وأن كبرى دولها قد تشهد تحولات جذرية مع صعود اليمين في فرنسا وإعلان مرشحه فرنسوا فيون أنه يوافق على السياسة الروسية. وكذلك تفعل زعيمة اليمين المتطرف والمرشحة المحتملة للرئاسة الفرنسية مارين لوبن التي لا تخفي تأييدها لترامب وبوتين على حد سواء، فيما تخشى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تبقى وحيدة في حال تمكن اليمين الفرنسي من حسم المعركة الرئاسية لصالحه، وهي بدورها تستعد لخوض معركة انتخابية قد تحمل متغيرات لا تحبذها، وربما لا تريد التفكير فيها على الإطلاق.
بالمقابل فإن المملكة المتحدة مازالت منشغلة بترتيب بيتها الداخلي والخارجي في آن معا بعد التداعيات التي خلفها وسوف يخلفها لاحقا خروجها من الاتحاد الأوروبي.
هذه الساحة الدولية المرتبكة يفضلها بوتين لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها في سوريا منذ بدء التدخل الروسي المباشر قبل أكثر من عام، وكانت نتائجها كارثية على المدنيين وعلى الجغرافيا السورية، وسوف تستمر تلك الحصيلة بالتصاعد ما دامت روسيا قادرة على فعل ما تريده دون أن يستطيع أحد ردعها، أو حتى التفاوض معها على أنصاف حلول.
وحتى يعود الهدوء للعالم ويعرف يمينه من يساره، وتعود عجلة السياسة الدولية لتسير من جديد، فإن حلب ستظل مشتعلة، فليس ثمة من يطفئ حرائقها ولا من ينقذ نساءها وأطفالها، وقد تكون جلسة مجلس الأمن الدولي التي شهدناها مطلع هذا الأسبوع آخر جلسة يرد فيها اسم مدينة حلب تلك التي كانت حتى وقت قريب واحدة من أقدم مدن العالم. وقد يكتب المؤرخون مستقبلا: بوتين أحرق حلب، ثم بكى عليها العرب.
كاتب سوري
العرب
سقوط حلب ليس هزيمة لأميركا/ حسان حيدر
لا يمكن أن تخسر دولة ما حرباً لم تخضها. هذه هي حال الولايات المتحدة مع معركة سورية عموماً وحلب خصوصاً. فالذين يعتبرون أن سقوط المدينة في أيدي ميليشيات الأسد وإيران يشكل انتصاراً للروس مصيبون، لكنهم يجافون الحقيقة عندما يرون فيه هزيمة للأميركيين. فالمدينة المنكوبة لم تدخل يوماً قائمة أولويات باراك أوباما، ولن تدخل بالتأكيد لائحة دونالد ترامب للمهمات الملحة.
وليس صحيحاً أن هناك أي طرف آخر غير فصائل الثورة السورية تصدى ولا يزال للمذبحة الجارية في حلب منذ بدايتها، وخاض مواجهة غير متكافئة مع طيران دولتين إحداهما كبرى، وواجه مجموعات من المرتزقة الإيرانيين المسلحين بالخبرة والحقد، وقاتل وحدات جيش نظامي لا تختلف عن الميليشيات بشيء.
الجميع تركوا الثوار لمصيرهم بإمكاناتهم المحدودة. البعض تذرع بأن بين مقاتلي حلب «إرهابيين»، وكأن نظام الأسد ليس إرهابياً، فيما هو تخلى عملياً عن كل المعارضين والمدنيين على السواء. والبعض الآخر أبدع في التضامن اللفظي والتحذيرات الشفوية للتخفيف عن ضميره ورفع العتب عن كاهله. أما الأميركيون بشكل خاص فلم تشكل معركة المدينة، ولا حتى حرب سورية كلها، همّاً لهم، لأنهم لم يروا في المشاركة فيها أي عائد، وفضلوا الاكتفاء من بُعد بالتحليلات التبريرية الباردة التي لا تقيم وزناً للمعاناة الإنسانية.
الإمدادات القليلة من السلاح والغذاء لن تكفي لصمود المدينة التي قد يحسم مصيرها في الأيام المقبلة، إذ يحرص بوتين على أن يقدم احتلال حلب هدية إلى ترامب لمناسبة تنصيبه، ودفعة على حساب تعاونهما في «المعركة المشتركة ضد الإرهاب». وهو بالتأكيد لا يشعر بأي حرج من أعمال التدمير والقتل التي يرتكبها، والتي سبق له أن تدرب على مثلها في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا أمام عالم يكتفي بالتفرج.
أما المسرحيات الأميركية الممجوجة عن المفاوضات لإنقاذ المدينة وتوقفها المتكرر فلم تنطلِ على أحد. قبل يومين فقط صرح بن رودز نائب مستشار الأمن القومي لأوباما أن هذا الأخير لم يقتنع يوماً بضرورة التدخل في سورية، وأنه استناداً إلى «التجربة العراقية» واصل التشكيك في «جدوى أي عمل عسكري محدود ضد نظام بشار الأسد وإمكان أن يحدث تغييراً كبيراً في مسار الحرب الأهلية والطائفية الجارية في سورية». وهذا ما اختبره السوريون والعالم مع الخطوط الحمر التي كان أوباما يرسمها ثم لا يلبث أن يمحوها كلما جرى تجاوزها.
وفي المذكرة التي أصدرها البيت الأبيض قبل أيام عن استراتيجية مكافحة الإرهاب ممثلاً بتنظيم «القاعدة»، أكد أوباما أن بلاده غيرت إلى الأبد مفهوم «التدخل العسكري في الخارج لنشر الديموقراطية» الذي تحول إلى توجيه ضربات محددة في المكان والزمان بطائرات من دون طيار، أو عمليات كوماندوس نتائجها شبه مضمونة.
ومن شبه المؤكد أن يستمر هذا النهج مع ترامب الذي أكد أمس أن بلاده «ستتوقف عن الركض للإطاحة بأنظمة أجنبية لا نعرف عنها شيئاً ولا يفترض أن نتورط معها، وبدلاً من ذلك يجب أن نركز على هزيمة الإرهاب وتدمير داعش»، مشيراً إلى أن إدارته «لا تريد جيشاً (أميركياً) مستنزفاً بسبب انتشاره في كل مكان وقتاله في مناطق لا يفترض أن يقاتل فيها».
أما مرشحه لمنصب مستشار الأمن القومي الجنرال المتقاعد مايكل فلين فقال إنه «يرى في روسيا شريكاً عسكرياً محتملاً في سورية وفي أماكن أخرى».
أميركا لم تخسر معركة حلب. السوريون فقط يخسرون المدينة ويخسرون بلادهم. أما «المنتصرون» فلن ينعموا طويلاً بما أنجزوه، وخصوصاً نظام الأسد الأشبه بفزاعة تقف على رجلين من صنع موسكو وطهران.
الحياة
ما بعد سقوط حلب/ كايل أورتون
سيطرة التحالف الأسدي في سورية على حلب في الأيام أو الأسابيع القادمة لن تنهي الحرب، ولن تئد المعارضة، بل ستطوي الخطر الاستراتيجي للتمرد على نظام بشار الأسد، وتفاقم اعتماد الانتفاضة على المتطرفين. والتحالف الموالي للأسد في حلب قوامه سلاح الجو الروسي ونظيره السوري، وقوات برية تقودها إيران جمعتها من فلول قوات الأسد الأمنية والكتائب الدولية من الجهاديين الشيعة المتطرفين. وفي شباط (فبراير) المنصرم، تذرعت القوى الموالية للأسد بالمفاوضة على وقف إطلاق نار، لتقطع خط إمداد حلب الأخير من تركيا، وفي تموز (يوليو) حوصرت مناطق المعارضة في شرق حلب. وأفلح الثوار في كسر الحصار موقتاً، ولكن طوقه عاد ليشتد. وحقق هجوم معارض بعض النجاحات قبل أن يهزم في مطلع الشهر الجاري.
ثم لجأ نظام الأسد الى تكتيك الحصار والتجويع، وهو سبق أن استخدمه في هزيمة المعارضة في مدينة حمص وضواحي دمشق. ودمرت البنى التحتية المدنية. وحُظر إدخال السلع الغذائية الى أحياء المعارضة طوال 4 أشهر. وبرر هذا كله، أي الحصار وتدمير البنى المدنية، بالزعم أن إرهابيين يسيطرون على المدينة، في وقت لا تزيد نسبة فرع «القاعدة» («فتح الشام»، «جبهة النصرة» في السابق) عن 2.5 في المئة من المتمردين في حلب المدينة. وإثر إنهاك الثوار والمدنيين، شنت القوى الموالية للأسد هجوماً أخيراً على حلب. وتقدم التحالف «الأسدي» بمساعدة حزب «العمال الكردستاني» السوري، وسيطر على ثلث الجيب الذي يسيطر عليه الثوار في حلب.
والمعارضة تنتظر خسارة ما تبقى من أراض بيدها في حلب إذا لم تُمد بمساعدة خارجية مكثفة وسريعة. ومثل هذه المساعدة مستبعد، في وقت حيدت الديبلوماسية الروسية القوتين القادرتين على إطاحة التحالف الموالي للأسد، أي تركيا والولايات المتحدة. ورمت روسيا حين تدخلت في سورية في أيلول (سبتمبر) 2015 الى ضمان بقاء الأسد في السلطة عسكرياً، وإرساء أهليته السياسية من طريق إطاحة عناصر المعارضة القادرة على الإنجاز، والنأي بتوازن القوى الإقليمية عن الهيمنة الأميركية. والهدف الأول والثالث من التدخل الروسي بُلغ الى حد ما في الأشهر الثلاثة الأولى على التدخل، والتزمت مذّاك موسكو خطوات – تزامنت مع خطاب مكافحة «داعش» ومهاجمة، دورياً، المعارضة المعتدلة التي تدعمها أميركا- في سبيل بلوغ هدفها الثاني.
وسقوط حلب سيعزز قوة الأسد العسكرية، وموسكو هي اليوم اللاعب الأبرز في شطر راجح من المنطقة. وإرساء أهلية الأسد السياسية، أي بعث مكانته السياسية، عسير بسبب هول جرائمه وصمود الثوار بعد سقوط حلب. ويسعى النظام السوري الى استعادة مكانته في المجتمع الدولي من طريق دعوة المؤسسات الدولية الى تسليمه أموال إعادة الإعمار. وهذا شطر مما رمى اليه مؤتمر البروباغندا الأخير في دمشق. فتسليم نظام الأسد أموال إعادة الإعمار هو اعتراف ببقائه في السلطة، ويساهم عملياً في تيسير عملية بسط نفوذه من جديد، بعد شنه حرب إبادة على شعبه. والدول هي وحوش باردة القلب، وسقوط حلب سيحمل بعض الحكومات على التعايش مع الديكتاتور.
وتشير حسابات سياسة الأمر الواقع (الريلبوليتيك)، الى أن الأسد لا يطاح من غير اجتياح خارجي. ولن تجد القوى الأجنبية الداعمة للثوار التي لن تغير ما درجت عليه من دعم بعد حلب – ولو أقر الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، السياسة الأميركية الموالية للأسد، رسمياً، ولفظ الثوار بالكامل-، لن تجد أمامها غير قوى أكثر تطرفاً.
والأغلب أن يعلن الجهاديون المتطرفون أنهم كانوا على حق بعد سقوط حلب. وفي مقدور «القاعدة» استمالة عدد كبير ممن يرغب في مقاومة الأسد. والتدخل التركي حشد الثوار فألحقوا ضربات قاسية بـ «داعش»، وفي مقدوره دعم قوة راجحة منهم من أجل دحر «القاعدة» ومنح المتمردين خياراً بديلاً عنه. ولكن إذا سقطت حلب، خسرت العملية التركية صدقيتها بسبب وقوفها موقف المتفرج. وتنظيم «القاعدة»، على خلاف تركيا، حاول على الأقل كسر طوق الحصار.
وعلى رغم أن أهالي حلب يواجهون خطر القصف، فإنهم لم يفروا مخافة سجون الأسد حيث يعز الموت، والأرجح أن يغادر قسم كبير منهم مع وقوع المدينة في يد النظام، عوض مواجهة جزاء «التعاون مع الإرهابيين». وموجة اللاجئين الناجمة عن سقوط حلب ترسخ واقع أن النازحين عن سورية، والبالغ عددهم 5 ملايين نسمة، لن يعودوا يوماً أدراجهم، ما سيفاقم التوترات في دول الجوار وينفخ في الديناميات التي كانت وراء بروز الشعبوية والقوى اليمينية المتطرفة المنفتحة على الكرملين في أوروبا. وفي سورية، الشعور بالخيانة سيحول دون رص صفوف القوى الثورية، وسينظر الى الغرب على أنه متآمر، ولو ضمناً، مع الفظاعات التي ستقع لا محالة في حلب. فتتعزز قبضة «القاعدة» وغيره من التنظيمات التي ترفض الحوار. خلاصة القول إن سقوط حلب لن يرسي السلام في سورية، بل سينشر التطرف والفوضى في البلاد والخارج.
* محــلل وباحــث في شــؤون الشــرق الأوســط، عن موقع «تي أر تي وورلد» التركي، 29/11/2016 ، إعداد منال نحاس.
الحياة
تقسيم سورية واتجاه المعارك إلى الرقة/ ليونيد إيسايف
خطا الجيش السوري خطوة أخرى نحو السيطرة على حلب، وقطع أوصال مناطق سيطرة المتمردين. وصارت السيطرة على المدينة كلها مسألة وقت فحسب.
إضعاف مواقع المتمردين في حلب هو نتيجة عدد من العوامل، محليّة ودوليّة على حد ســـواء. ويعود التقويض هذا إلى الخلافات داخل الائتلاف المعارض «فتح حلب»، الذي يوجه دفة الدفاع عن عاصمة الشمال السوري. وبدأت الصراعات بين المتمردين في إدلب وحلب، إثر تغيير اسم «جبهة النصرة» للتقارب مع قوى معارضة أقل تطرفاً. ومن جهة، كان هذا التغيير يساهم في رص صفوف المتمردين، ولكن من جهة أخرى، رأى المجتمع الدولي أنه يطعن في صفتهم «المعتدلة».
وأدّت الخلافات في «فتح حلب» إلى انسحاب المجموعات الموالية لتركيا. وصار هذا التغير واضحاً مع بدء العملية العسكرية التركية «درع الفرات» في آب (أغسطس) 2016. وكان الهدف الرئيسي للأتراك بسط سيطرتهم على الحدود مع سورية، والمنطقة الواقعة بين جرابلس وأعزاز. والخطوة التالية هي السيطرة على بلدة الباب. وهذه السيطرة هي الجسر إلى شرذمة أوصال الكانتونات الكردية في شكل نهائي، وتمهد الطريق نحو الرقة. والسيطرة على الباب يقتضي نشر الجيش التركي أكبر قدر ممكن من القوات الموالية له في شمال محافظة حلب، وليس في المدينة نفسها التي انحسرت أهميتها العسكرية الإستراتيجية.
ومع ذلك، يشير نجاح قوات الحكومة السورية في حلب إلى أن الأسد لا يزال يمتلك قدرات تعبئة، والحديث عن استنزاف النظام أمر مبالغ فيه إلى حد ما. وما لا يقل أهمية هو أن مشاركة روسيا في المعارك الأخيرة ثانوية. فموسكو – التي جوبه قصفها للمدينة بتنديد المجتمع الدولي وأضرّ بسمعتها ما يعوق الحوار مع الغرب – قررت، في الأسابيع الأخيرة، الامتناع عن شن ضربات جوية مباشرة في حلب المدينة، والانصراف إلى ضرب محورها الجنوبي – الغربي لمنع محاولات المسلحين كسر حلقة الحصار والانتقال إلى الهجوم المضاد.
ويبدو أن موسكو تراهن على عودة محتملة للحوار الأميركي – الروسي حول سورية، إثر تولي دونالد ترامب إدارة البيت الأبيض، ما يحملها على خطوات مدروسة العواقب في سورية. فالمصالح الروسية أهم في حسابات الكرملين، والصراع السوري لا يستحق إطاحة العلاقات المتوترة مع الغرب.
وحلب تقع اليوم عند تقاطع مصالح (مناطق نفوذ) روسية – تركية – كردية (أي أميركية). والتطور الأنسب لروسيا هو استتباب السيطرة على حلب في 2017، باللجوء الى أدنى مشاركة ممكنة للطائرات الروسية. ويساهم في تذليل المعوقات أمام مثل هذا الاستتباب، تراجع أهمية حلب في سلم أولويات معظم اللاعبين الإقليميين وانحسارها إلى مراتب ثانوية، وهو أمر طبعاً يفاقم عسر أوضاع المتمردين في الأحياء الشرقية من المدينة. وليس الاستيلاء على حلب بعيد المنال، ولكنه لن يؤدي على الأرجح إلى «تغييّر جذري»، وهي عبارة لا يمل السياسيون السوريون والروس من تكرارها. وعلى الأرجح ستلقى حلب مصير تدمر، التي كانت قيمتها الرمزية تفوق قيمتها العسكرية الإستراتيجية.
ويبدو أنّ السبيل اليتيم إلى تسوية النزاع السوري هو تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ مع الحفاظ الإسمي على وحدة أراضيها. إن سورية التي تعاني فعلياً من نفوذ اللاعبين الخارجيين على أرضها، ستلقى مصير ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن مع عواقب أكثر خطورة. ولم تحسم بَعد مسألة من سيسيطر على الأرض التي يحتلها تنظيم «داعش». ويحمل الغموض كلاً من الأتراك والأكراد والأسد على الإعداد لهجوم محتمل على عاصمة الإسلاميين، الرقة. فالمواجهة في سورية تتجه تدريجاً إلى الشرق.
* أكــاديــمي مخــتص في شؤون شرق الأوســط، عن «أر به كا» الروســية، 29/11/2016، إعداد علي شرف الدين
الحياة
“صباح حلب حلو” من مفتي النظام… فيما تُدمَّر ومغزى زيارة غير مريحة للمرجعيات المسيحية/ روزانا بومنصف
بادر مفتي سوريا أحمد حسون في قصر بعبدا بعد لقائه الرئيس ميشال عون بتوجيه التحية بالقول “صباح حلب الحلو”. بدا الامر غريبا ومستغربا الى حد بعيد، اولا لانه تزامنا مع زيارته، تقصف طائرات النظام وحلفائه من غير السوريين اهالي المدينة واطفالها وشيوخها، وثانيا كيف يمكن ان يكون صباح حلب حلوا؟ واي حلب هي المقصودة؟ علق احد الوزراء على الفور بأنه عندما تحدث المفتي السوري عن حلب أجهش بالبكاء كل من سيف الدولة وأبو الطيب المتنبي. لعل الوقع الثقيل لهذه الكلمة من حيث الموقع الذي اطلقها منه او الظروف غير المناسبة، دفع على الارجح الى سحب هذه العبارة من كلمة المفتي السوري لتعذّر أن يحملها قصر بعبدا، لان قولها في الموقع والسياق غير مقبول. كما ان الاستغراب يطاول الزيارة في ذاتها، اذ لا سياق او معنى لها، ولو ان الرئيس الجمهورية قد يكون احرج بالزيارة التي قد لا يكون يرغب في ان يستخدمها النظام من اجل فتح قنوات توحي بفك عزلته او تضغط على لبنان وصيغته الهشة من خلال محاولة اللعب على طوائفه عبر استخدام انفتاح العلاقة مع المسيحيين، كما توحي زيارة حسون لكل من بعبدا وبكركي. إلا أن منتهى التوظيف في القول عن “صباح حلب الحلو” من لبنان، وكأن لبنان شريك كدولة ومنبر للتعبير عن الغبطة بما يصيب المدينة. وعلى رغم انقسام البلد وانخراط فئة كبيرة منه، هي “حزب الله”، في الحرب في حلب، فإن الاغتباط بصباح حلو في حلب على لسان مفتي النظام السوري يهدف الى جعل لبنان شريكا في انتصار زائف يستعد له النظام على دماء ابنائه. واذا كان لقصر بعبدا عدم القدرة على رفض الزيارة، فكان يتعين على الكنيسة المارونية في رأي مصادر سياسية عدة ان تعتذر عن الزيارة وتوقيتها في زمن تدمير حلب في شكل خاص، وفي ضوء استغلال المفتي الموالي للنظام السوري والمبشر بأفضاله، المنبر المسيحي في لبنان من بعبدا اولا، ثم من بكركي، فيما هناك قطيعة كاملة مع الطائفة السنية التي يستهدفها النظام في سوريا، ولن يجد من يستقبله بين ابناء هذه الطائفة في لبنان. لعل النظام يعتقد وفق ما بات يعرف اللبنانيون عنه جيدا انه يستطيع ان يضع المسيحيين في مقابل السنة في لبنان، او ان يخترق الواقع السياسي ويتلاعب به كما كان يفعل سابقا. ثمة توازنات دقيقة يشكو منها المسيحيون في لبنان، في الوقت الذي لا يمكنهم، في ظل محاولة اقتناعهم بأداء دور متوازن بين السنة والشيعة في لبنان، بحيث يتعين عليهم الا يؤخذوا منبرا او واجهة للنظام أو لأي فريق آخر في مواجهة الافرقاء الداخليين. اقحام موضوع حلب من مفتي النظام جاءه الرد عليه من مرجعين لبنانيين، أحدهما الزعيم الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي غرد قائلا : “عملية قتل وفرز وتهجير وتدمير لحلب وأهاليها”. فيما غرد الرئيس سعد الحريري بدوره : “أكثر من أي يوم آخر نؤكد تضامننا مع الشعب السوري ومع مدينة حلب في مواجهة سياسات القمع والابادة”. ثمة انقسام كبير في لبنان حول سوريا لا يغفله او يقفله انتخاب رئيس جديد ولا تأليف حكومة جديدة نتيجة اختلاف جذري في الموقف من الوضع السوري. وكثر يثقون بأن النظام السوري، ولو انه يعتمد في بقائه على ايران وروسيا، يسعى الى تثبيت حضوره أو وجوده من خلال لبنان عبر ترجيح كفة الحكم الجديد لمصلحته، في حين أنه مشروع او وهم متجدد للهيمنة السورية على السياسة اللبنانية، في ظل محاولة تصوير او توظيف انتخاب العماد عون على انه مكسب او انتصار للنظام نفسه في لبنان. واذا قيست الامور من زاوية الرهان على سيطرة النظام على حلب والوهم بأن ذلك يمكن ان يثبت سيطرته او يوسعها على سوريا، فيما سبق ان لمح “حزب الله” في بعض مواقفه الاخيرة الى ضرورة مراجعة البعض حساباته، وهو ما سيدفع بلبنان الى ان ينفتح على النظام السوري ويعيد العلاقات معه تفهم محاولات القوطبة او الالتفاف على الحكم في لبنان ومحاولة استدراجه الى ان يكون في محور معين على نحو قسري، او على الاقل اشعار الجميع بأن الامور ستكون في اتجاهات معينة، وهي لن تتغير كثيرا عما سبق، بناء على زيارتين سوريتين لقصر بعبدا حتى الآن، خلال شهر وبضعة ايام على وصول العماد عون الى القصر الجمهوري.
لعل من المفارقات ان المفتي السوري، وهو ينقل التحية من “صباح حلب الحلو”، فاته ان يقرأ قبيل زيارته لبنان، وفيما تدمر المدينة مسقط رأسه على رؤوس ابنائها، ما قاله مرشد الجمهورية الاسلامية الايرانية علي خامنئي من “اننا ندافع عن ايران في حلب”، في معرض تبرير القتلى الايرانيين في سوريا وردا على معارضة واضحة في ايران لوقوع ضحايا ايرانية في حلب، وليس في المزارات الشيعية التي قالت ايران انها تدافع عنها في معرض انخراطها في الحرب السورية، او هو ايضا لم يطلع على آخر المواقف الروسية المهددة بأن من لم يخرج من حلب بعد سيعتبر ارهابيا وسيقتل. لذلك ليست مريحة ولا بريئة زيارة المفتي السوري لاستخدام لبنان منبرا لكي يسمع الخارج صوته، غير المسموع من دمشق.
النهار
لافروف مرَّغ كيري في الوحل الحلبي!/ راجح الخوري
منذ أربعة أعوام ونحن نشاهد سيرغي لافروف وهو يمرغ صدقية جون كيري في الوحول السورية الدامية، لم يكن هذا ليحصل لو لم يبتلع باراك أوباما خديعة فلاديمير بوتين ويلحس تحذيره بتوجيه ضربة الى النظام السوري بعد قصف غوطتي دمشق بالسلاح الكيميائي، مفترضاً انه بذلك يمكن ان يساعد في بداية حل يوقف المأساة السورية.
آخر إبداعات لافروف، التي لن أستغرب ان يبتلعها كيري غداً، قوله إن كيري وافق على خروج كل المقاتلين من شرق حلب، أولئك الذين في خانة الإرهاب أي “جبهة النصرة” وأولئك الذين دربتهم واشنطن والذين تعتبرهم من المعتدلين. صحيح ان كيري نفى وقال إنه ليس على علم بأي مفاوضات مع الروس يمكن ان تجري في جنيف حول هذا الأمر، لكن مسلسل تراجعات كيري الدائمة أمام صلف لافروف يجعلنا لا نستبعد ان يرضخ لهذا في النهاية.
كانت الأحابيل الروسية واضحة منذ البداية. ففي أيلول من عام ٢٠١٤ ومع نزول الروس عسكرياً في سوريا قال بوتين ما معناه إن كل معارض للنظام السوري هو إرهابي. صحيح انه مارس ديبلوماسية التعمية على إميركا والمعارضة وأصدقاء سوريا عندما استدعى بعض المعارضين الى موسكو ليقول إنه يفاوض الجميع بحثاً عن حل سياسي، لكنه كان دائماً يركز على الحل العسكري الذي يندفع فيه الآن في شرق حلب، التي يحذر العالم من ان تتحول مقبرة أسطورية.
إستعمال موسكو الفيتو للمرة السادسة أول من أمس لاسقاط مشروع القرار المصري الإسباني النيوزيلندي ليس مفاجئاً على الإطلاق، المفاجئ محاولة التعمية عندما كرر المندوب الروسي في مجلس الأمن كذبة لافروف عن المفاوضات مع الأميركيين في جنيف لوقف النار، وهو ما كذبته فوراً المندوبة الأميركية وفي وجهه، لكن كل هذا الهراء لا يوقف قذيفة أو طلعة جوية لتدمير المدينة.
الأكثر إثارة ان لافروف كان في هذا الوقت يدير من بعيد مفاوضات تعمية أخرى جرت في تركيا بين ضباط روس وممثلين للمنظمات المعارضة المعتدلة في شرق حلب، وقيل إنها توصلت الى اتفاق من أربع نقاط: وقف النار – إخراج مقاتلي النصرة – إدخال المساعدات الانسانية بضمانة روسية – ابقاء الادارة المحلية في شرق حلب في انتظار الحل النهائي.
موسكو نكلت فوراً عن هذا الإتفاق لأن ايران والنظام لم يوافقا عليه، على رغم ان في وسعها ان تفرض أرادتها، لأن ثقلها العسكري هو الذي أنعش النظام الذي كان يتهاوى، كما سبق لبوتين ان أعلن صراحة. والأسوأ من كل هذا ان لافروف طرح معادلة جديدة: يخرج كل المعارضين من شرق حلب ومن يبقى يعتبر من الارهابيين ويُدمّر… لكن صورة روسيا وهيبة العالم تتدمران ايضاً في تلك المدينة المقبرة!
النهار
اليوم حلب وغداً أمر!/ نهلة الشهال
لا يدور الصراع الدولي “على” سوريا، بل هو يجري “فيها” بما لم يعُد يقيم اعتباراً بأي درجة لمصير البلاد نفسها، لأي شيء يخصّها، وكأنها أرض خلاء يتبارز فيها أصحاب القوة، ومصلحة كل منهم تُعرَّف بمعيار وحيد: أن يغلب الآخر.. ليوظف ذلك في حسابات لا دخل لسوريا بها. لعل هذا الذي يجري الآن هناك فريدٌ بالفعل. لعل خاصيته تلك هي ما يفسر مقدار العنف المنفلت من كل عقال، قصفاً مجنوناً بعد 150 يوماً من الحصار على شرق الشهباء، حيث كان يقيم 200 ألف إنسان لعل أغلبيتهم الساحقة ليسوا “إرهابيين” ولا “تكفيريين”، وإنما لم يكن لديهم خيارات أخرى غير البقاء، حيث بيوتهم ثم أنقاض بيوتهم. وهي حلقة مفرغة. فبعد وقت قصير يصبح الخروج مستحيلاً: لا المسلحون يتركون الناس على هواهم إذ يستخدمون وجودهم كدروع بشرية، ولا القوات النظامية تُعفي الهاربين من التنكيل والخطف والتصفية بحجة الاشتباه بهم، ولا بساط النار الجهنمي الممتد فوق رؤوسهم يترك لهم سبيلاً.. فـ “يقول الإنسان يومئذ أين المفرّ”!
وعدا روسيا التي قررت أن استعادة أمجادها الإمبرطورية (قيصرية أم سوفياتية، لا يهمّ!) ستتحقق هنا، فهناك سائر المجانين: داعش الذي راح يُنظِّر لزوال دولته بتغيير اسم نشرته من “دابق” إلى “رومية”، تناسباً مع تغيّر أهدافه (بحكم الواقع والبرغماتية) من
مقالات ذات صلة:
وعود شراب اللوز الحلبي
حلب.. السيْر في الظهيرة
حلب: ثرثرة فايسبوكية داخل غرفة صغيرة
“باقية وتتمدّد” إلى “دهس الكفار” بالشاحنات في شوارع أوروبا. والإدارة الأميركية الحالية (قبل تسلّم ترامب، فأبْشِروا) التي ترى على لسان وزير الدفاع اشتون كارتر أن داعش وإيران وكوريا الشمالية هي أولوياتها في العداء، مضيفاً أنه لن يترك مجالاً لمقاتلي داعش غير الموت: داخل حلب أو الرقة أو الموصل أم خارجها (لا يهمّ أيضاً! وهذه أقواله حرفياً). وهذا بعد تجاوز اللاعبين الإقليميين أنفسهم وحساباتهم الخاطئة دائماً..
فيما يبدو كل السوريين من دون استثناء، من الرئيس إلى أجهزته إلى معارضاته، أشباحاً لا وجود لهم إلا ذاك الافتراضي… وفيما يموت السوريون (ولا يهمّ على يد مَنْ)، ويعمّ العجز والعبث.
السفير
حلب ومشروع إعمار سوريا/ عصام الجردي
قلَب التدمير الهائل والمنهجي لحلب المدينة وجوارها كل التقديرات المتعلقة بتكلفة إعادة اعمار سوريا التي وضعتها المؤسسات الدولية في 2014 و2015. فالمحافظة تمثل العاصمة الإقتصاديةلسوريا بحصة كبيرة من الناتج المحلي. فيها عشرات آلاف المصانع والمحترفات والمنشآت الصغيرة والمتوسطة من بينها ألوف مصانع لقطاع النسيج فقط والمواد الغذائية والأدوية والمستحضرات الطبية. وتستوعب نحو 25 في المئة من قوة العمل السورية. بالاضافة إلى المرافق السياحية والأثرية.
ذهبت التقديرات الدولية من المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي و”إسكوا” إلى نحو 150 مليار دولار أميركي و200 مليار تكلفة مشروع الاعمار. وهي ليست خسائر الحرب الاجمالية في سوريا. فهناك فاقد الناتج المحلي لسنين ست منذ 2011 تقدر بنحو 170 مليار دولار أميركي. ونحو 70 ملياراً خسائر خزين رأس المال. سيتكشف مزيد من التكلفة الاعمارية وفاقد الناتج بعد أن تُكتب خاتمة الحرب في سوريا. ومعلومات أكثر دقة عن الخسائر الانسانية والبشرية الهائلة. وتهجير نحو نصف السكان محلياً والى خارج سوريا. ونزف الموارد البشرية والكفايات. ووقوع نحو 80 في المئة من السكان في براثن الفقر المدقع. (1.90 دولاراً أميركياً يومياً للفرد بحسب المصرف الدولي).
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والنظام السوري تجاهلا حين استخدما كل صنوف التدمير والصواريخ والبراميل أن “سوريا المفيدة” هي سوريا الوطن والناس وليست “سوريا الأسد”. حيث مناطق نفوذهما ومرتع ترسانتهما العسكرية. ولم يأبها لأي حل يؤذن بنهاية الحرب باتفاق سياسي يقرر من خلاله الشعب بخياراته الحرة مستقبل وطنه. كلاهما تجاهل أيضاً أن التحدي الحقيقي ليس بقاء النظام، بل إعادة اعمار البلد واستعادة وحدته وسيادته وبناء اقتصاده، والتصدي للآفات الاجتماعية والمجتمعية الخطيرة التي استولدتها الحرب.
ويستمر المشهد التدميري. روسيا ملتزمة حماية النظام. والنظام يعد روسيا بالتزام الاعمار. وأوان الاعمار لم يحن بعد. لكن تقدم قوات النظام في حلب الشرقية حرّك مكاتب الوساطة المالية والعقارية الدولية. وسطاء لبنانيون مقربون من دوائر النظام السوري بدأوا ينشطون محلياً ومع وكالات في الخارج. وسوريا مازالت بعيدة من إعادة بنائها. ومشروع الاعمار دونه شروط بحجم أزمتها.
أولاً: مشروع الاعمار لن يكون من خارج الحل السياسي. لأن مصادر تمويله ليست متاحة من موسكو. لا نتحدث عن قدرات روسيا وخبراتها في بناء البنى التحتية، ولاسيما الكهرباء والمياه. بل لأن بدء الاعمار يكون مع نهاية الحرب. فإذا كانت الشركات الروسية القريبة من بوتين، أو شركات الدولة تعتقد في سهولة انسياب الدعم والقروض إلى سوريا من أطراف أخرى دولية أو عربية لسداد التزامات الاعمار، وإدارته من النظام فباطل اعتقادها. من دون الحل السياسي لن يحصل تمويل عربي لمشروع الاعمار لأنه تمويل لاعمار النظام من جديد. ولا الاتحاد الأوروبي في وارد الدعم إلاّ في إطار مشروع الحل السياسي. صحيفة “ذي تايمز” البريطانية، نقلت عن ممثلة الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني استعداد الاتحاد لتقديم دعم مالي لسوريا في حال موافقة جميع الأطراف على الحل السياسي. ونحسب أن قادة الاتحاد يرون في ذلك السبيل الأنجع لمعالجة مشكلة اللاجئين من سوريا التي باتت مادة سياسية وانتخابية مرهقة للأحزاب الحاكمة في أوروبا.
ثانياً: أي نوع من الدعم الأوروبي لسوريا قروضاً ومساعدات هو اقتصادي أيضاً للدول الأوروبية التي تعاني تباطؤاً وبطالة وأزمات ديون. ومن الطبيعي أن تربط دول الاتحاد دعمها بالحصول على مشاريع تنفذها شركاتها العاملة في قطاع التشييد والبناء والخدمات. بما في ذلك توريد المواد والسلع. وكذلك في قطاع النفط والغاز الذي لروسيا فيه الحصة الأكبر منذ ما قبل الحرب. مشروع مارشال الأميركي لإعادة بناء أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لم يبدأ عملياً قبل 1948. أي بعد سنوات ثلاث على نهاية الحرب. وركز على إعادة اعمار البنى التحتية لإطلاق عجلة الإقتصاد. ولم يهتم في بناء المنازل والحيازات الخاصة. وهي الأكثر تضرراً في حالة سوريا. الشركات الأميركية هي التي تولت الأمر. وأسهم المشروع في نهوض الإقتصاد الأميركي من جديد بعد كارثة الكساد الكبير التي ضربت الولايات المتحدة 1929- 1931. أما المؤسسات الدولية، كالمصرف الدولي وصندوق النقد الدولي الجاهزين لتقديم قروض ميسرة طويلة الأجل ودعم أنظمة الدفع والموازنة تقنياً، فلا تشكل استثناء، طالما تتحرك في فضاء الدول الصناعية التي تهيمن على مجلسي المؤسستين التنفيذيين وسلطة القرار فيهما.
ثالثاً: تبقى لازمة أي مشروع اعماري بعد الحرب بإعادة بناء الإقتصاد وتحفيز النمو وتحقيق الاصلاحات الإقتصادية والاجتماعية. فحجم الإنفاق الاعماري الضخم يفترض أن يكون في سياق خطة تنمية اقتصادية واجتماعية بعيدة المدى. وعملية الاعمار لو توقفت الحرب الآن قد تستغرق 20 عاماً بحسب المصرف الدولي. اللازمة التنموية تلك، تستدعي حشد الموارد البشرية والعلمية والإستثمارية السورية. نعود إلى مربع الحل السياسي. فحشد المدخرات السورية وتقدر في الخارج بنحو 100 مليار دولار أميركي مستحيل من دون معرفة مستقبل سوريا. الأمر نفسه في عودة الكفايات البشرية وانخراط المحلية منها في عملية الاعمار والتنمية، بينما تقصى بالقمع والترهيب عن المشاركة في القرار السياسي والوطني
المدن
سوريا..السنوات الخمس المقبلة/ ساطع نور الدين
معركة حلب كانت ولا تزال حافلة بالرموز والدلالات . لكن إعتمادها قاعدة للحكم على مسار الحرب ومصير النظام ومستقبل الثورة في سوريا يحتاج الى الكثير من التروي . مآلاتها الراهنة تشكل منعطفا حاسما بالنسبة الى جميع أطرافها ،لكنها لا تمثل نهاية الطريق ، بل ربما بداية جديدة لخمس سنوات اخرى من العذاب والخراب.
الاجماع الحاصل بين الموالين والمعارضين على ان سقوط شرق حلب في يد النظام لن ينهي الحرب ، يموه النقاش الدولي المتواصل في الغرف المغلقة حول الحل السياسي ، وربما يسعى الى تعطيله. ثمة اعتراض سوري عام على فتح هذا النقاش الان، بوصفه عملا انتهازيا او اقصائيا او على الاقل سابقاً لأوانه. الظرف ليس مؤاتياً لطرفي الحرب من اجل الجلوس حول طاولة المفاوضات. هذا ما يشاع حاليا، وهذا هو الواقع فعلاً.
ليس من قبيل الصدفة ان يقرر الرئيس بشار الاسد ، في اعقاب التحول الاخير في معركة حلب، التحدث الى جمهوره من خلال صحيفة محلية، ويعلن انه لن يوقف القتال قبل تحرير بقية المدن والاراضي السورية ، ولكي يؤكد انه لن يعيد ملايين النازحين السوريين الى مساكنهم، لكي لا يخرقوا “الانسجام الاجتماعي” الذي باتت سوريا تنعم به.
وليس من قبيل الحكمة ان يلمح الاسد مجددا الى ان الحريق السوري يمكن ان يمتد الى لبنان، وان يطالب حليفه الرئيس ميشال عون بالاستعداد للتخلي عن اللاسياسة التي يعتمدها لبنان ، او سياسة النأي بالنفس، والبدء بالانخراط المباشر في الحرب السورية بشكل مختلف، وبما يتجاوز الحملات الامنية التي تشنها السلطات اللبنانية على المعارضين السوريين في لبنان، والتي تتخطى في بعض الاحيان تفكيك شبكات الارهاب الاسلامية.
انه خطاب النصر ولا شيء سواه. وقد سبق للاسد ان أطلق مثل هذا الخطاب اكثر من مرة طوال السنوات الخمس الماضية. لكنها المرة الاولى التي يبدو فيها الموقف متصلاً بالوقائع الميدانية التي أفرزها التدخل الجوي الروسي والتدخل البري الايراني في حلب وغيرها من مناطق التوتر السورية.. من دون ان يسقط من حسابه طبعا ً ان المعركة مستمرة وان القاء السلاح ما زال بحاجة الى المزيد من “التضحيات”الروسية والايرانية الكفيلة بتعديل موازين القوى العسكرية.
وليس من قبيل الصدفة ايضا ان تبدو المعارضة السورية وكأنها تلقت في معركة حلب ضربة مؤلمة كادت تفقدها توازنها وقدرتها على الحركة، بعدما حرمتها من صلتها بجمهورها الذي لم تستطع ان تحميه ، او ان توفر له البديل او حتى الملاذ الآمن.. مع ان المعركة بحد ذاتها يمكن ان تكون مناسبة لاسترداد تلك الصلة، وتنحية التنظيمات والشبكات الاسلامية جانباً وتحميلها المسؤولية الرئيسية عن الفشل في إدارة الصراع مع النظام، وعن تكوين إجماع دولي ينفر من المعارضين السوريين او لا يثق بهم.
من الصعب التكهن بطبيعة المراجعة التي تجريها المعارضة لمعركة حلب وبطبيعة القرارات التي ستتخذها لاكمال المواجهة. لكن استمرار التسامح مع التنظيمات والشبكات الاسلامية التي رسمت الصورة الأبشع والأسوأ للمعارضين السوريين، سيكون بمثابة وصفة للمزيد من الضياع، والفراغ الذي ستسده خلايا إسلامية أخطر من داعش والنصرة . الشتات يوفر قاعدة صلبة لاطلاق حركة سياسية أكثر جدية، تستفيد من تجارب حركات تحرير وطنية، وجدت نفسها في المنافي مع الملايين من مواطنيها المحرومين من حق العودة، والممنوعين من اكتساب هوية وجواز سفر.
هذا هو عنوان السنوات الخمس الباقية من ولاية الرئيس الاسد الثالثة، والتي يقال انها ستكون الاخيرة اذا ما نضجت المعارضة السورية وتبدلت وتطورت، واكتسبت شرعية عربية ودولية شبيهة بتلك التي حازتها في العامين 2014 و2015 .. تتحدى الروس والايرانييين الذين يخوضون اليوم حرباً ضارية من أجل نظام لا يشاركونه إحساسه المفرط بالنصر ، ولا بحتميته.
المدن
الدرس الحلبي/ سميح صعب
بعد حلب ليس كما قبلها. الحرب في سوريا تسير في الاتجاه المعاكس للاتجاء الذي كانت تسير فيه منذ أكثر من خمس سنوات ونصف سنة. المعارضة السورية بات يلزمها الكثير لتتعافى من أقوى ضربة توجه اليها منذ تعسكرت بعد أشهر من بدء الاحداث في سوريا. وحتى داعمو المعارضة من واشنطن الى الاتحاد الاوروبي الى تركيا الى دول الخليج العربية لا بد ان يعيدوا حساباتهم بعد حلب.
وليس المشهد الحلبي وحده الذي يفرض اتجاهاً آخر للحرب، وإنما مشهد خروج مقاتلي المعارضة من بلدات حول دمشق، يوحي أيضاً بالمسار المختلف للحرب. وأي محاولة لداعمي المعارضة السورية لن تكون سوى من قبيل تمديد أمد قتال عبثي غير محكوم بأي أفق سياسي.
ولا شك في أن روسيا فرضت ايقاعها على وجهة الحرب وكان لتدخلها العسكري منذ اكثر من سنة التأثير الحاسم في تبدل موازين القوى. وعندما شعرت واشنطن بأن مزيداً من تدخلها العسكري في سوريا سيعني اصطداماً مباشراً بروسيا، اتخذت قراراً بالتراجع. ومنذ أن اتضح للولايات المتحدة ان سوريا باتت تحت المظلة الروسية المباشرة، بدأت تبرد الرؤوس الاميركية الحامية الداعية الى تدخل أوسع. ولا يغير في واقع الحال شيئاً قرار الكونغرس الاميركي زيادة المساعدات العسكرية للمعارضة السورية. إن زيادة المساعدات للمعارضة السورية من الان فصاعداً يعني مخاطرة أميركية أكبر بتسليح “جبهة النصرة” وتحمل تبعات ذلك مستقبلاً.
لا بد انه بعد حلب تذهب القراءة الهادئة لصانعي القرار الاميركي في اتجاه العنوان العريض الذي يضعه الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب والقائل بأنه لا يتعين على اميركا العمل على تغيير أنظمة الدول في الخارج وإنما العمل على القضاء على “داعش”. وأوروبا من دون الولايات المتحدة لن تكون قادرة على خوض مغامرات التدخل العسكري في الخارج على نحو ما جرى في أفغانستان والعراق وليبيا. ولن يجدي التهويل الفرنسي بأن سوريا ستنقسم “سوريا المفيدة” في رعاية روسية و”داعشتان”، لإقناع أميركا بخوض غمار حرب فيها لتغيير المعادلات العسكرية الجديدة في الميدان.
ومثلما هي حلب نقطة عسكرية مفصلية في الحرب السورية، يمكنها أيضاً ان تكون محطة للانتقال الى البحث الجدي عن حل سياسي ليس مبنياً على اسقاط نظام وتنصيب آخر مكانه. تلك تجربة عبثية كلفت سوريا الكثير. حان الوقت للتفكير في مقاربة جديدة تنقذ ما تبقى من سوريا، وتسخر الامكانات لمحاربة وحش التطرف الزاحف على الجميع. الإصرار على لازمة السنوات الخمس الاخيرة لن تجلب إلا مزيداً من الدمار.
النهار
واشنطن: تسقط حلب وتستمر الحرب/ راجح الخوري
أسقط الفيتو السادس الذي استعملته روسيا قبل يومين، لإفشال مشروع القرار المصري – الإسباني – النيوزيلندي لإعلان هدنة لمدة أسبوع في حلب، آخر فرصة ممكنة لفتح ثغرة في جدار الحل العسكري، يمكن أن تؤسس لإحياء الحل السياسي عبر إخراج «جبهة النصرة» من شرق حلب، بما يساعد ستيفان دي ميستورا على إنجاح رهانه على إحياء مفاوضات جنيف عبر هذه التجربة.
على هذا الأساس لم يكن غريبًا أن تتزامن تصريحات دي ميستورا عن إمكان سقوط شرق حلب في يد النظام وحلفائه الإيرانيين، مع التصريحات المتناقضة التي تراشق بها سيرغي لافروف وجون كيري حول مسألة خروج كل المقاتلين من شرق حلب، ففي حين أعلن لافروف أن واشنطن وافقت على هذا، نفى كيري أن يكون قد حصل مثل هذا الشيء، لا بل إنه ذهب بعد اجتماعه في بروكسل مع نظرائه في حلف الأطلسي يوم الأربعاء الماضي، إلى خلاصات يائسة إن لم أقل إنها تيئيسية، لكنها انطوت ضمنًا على تحذيرات من اليوم الثاني بعد سقوط حلب في يد النظام وحلفائه.
تقول واشنطن بلسان كيري إنه حتى لو سقطت حلب، وقد يحدث ذلك وربما لا، فإن التعقيدات الأساسية التي تقف وراء هذه الحرب لن تنتهي، «الحرب ستستمر.. العنف سيستمر»، لكن المحللين الروس كانوا في الوقت عينه ينقلون عن لافروف أجواء تقول «إن ما بعد حلب ليس كما قبلها»، بما يعني أن الفيتو الروسي السادس لدعم الحل العسكري في سوريا من جهة، وإقفال الفرصة على أي تفاهم بين موسكو وواشنطن على السعي فعليًا لوضع أسس لحل سياسي من جهة ثانية، أكدا نهائيًا رغبة فلاديمير بوتين في حسم الأمر في حلب قبل تسلّم دونالد ترامب مهماته في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل.
يبدو هذا الاتجاه جليًا بعدما استنفد لافروف كل مناوراته، التي بدأت بمطالبة الأميركيين بالفصل بين «جبهة النصرة» وباقي المنظمات، وكان هذا مستحيلاً في ظل القصف الروسي المدمر والبراميل التي تتساقط على الأحياء، مما يؤكد رغبة روسيا الدائمة في فرض النظرية الأولى التي أطلقها بوتين صراحة في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي بعد تدخله العسكري، عندما اعتبر أن كل معارض للرئيس بشار الأسد والنظام إرهابي!
لافروف قال قبل أيام إنه تفاهم مع كيري على خروج كل المسلحين من شرق حلب، ورغم نفي كيري، أضاف قائلاً إن على جميع المسلحين مغادرة حلب أو الموت، وإنه في كل الأحوال من يرفض المغادرة طوعًا سيتم القضاء عليه ولا توجد أي خيارات أخرى، ومن الطبيعي أن يعيد ذلك الأمور إلى مربع القتل الأول الذي كان بوتين قد أعلنه قبل 18 شهرًا.
هذه خلاصة الموقف الروسي حيال الأزمة السورية، وقد كان من الواضح دائمًا أن كل المحادثات والمشاورات والشروط العرقوبية التي طرحها لافروف على كيري، إنما هدفت إلى تغليف المضي في الحل العسكري، بإثارة غبار التعمية عبر الزعم أن موسكو تسعى إلى الحل السياسي على قاعدة أن الشعب السوري هو من يقرر مصيره.
قبل ثمانية أشهر، تباهت موسكو بأنها تستقبل شخصيات من المعارضة السورية في سعي للبحث عن حل سياسي، كان واضحًا أن معظم الذين ذهبوا هم من معارضة الداخل التي فبركها النظام، والذين لم يكونوا كذلك عادوا بالخيبة، وآخر إبداعات لافروف أنه استجاب قبل ثلاثة أسابيع لوساطة تركية، تمثّلت باستضافة أنقرة محادثات بين ضباط روس وممثلين عن المعارضة المعتدلة في حلب، وكان من نتيجة المحادثات أنه تم التوصل إلى اتفاق من أربع نقاط، وهي:
1 – وقف إطلاق النار في حلب الشرقية. 2 – خروج عناصر «جبهة النصرة» وهو ما طالبت به موسكو دائمًا وعرض دي ميستورا أن يواكب شخصيًا خروج هؤلاء. 3 – إدخال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين وبينهم كثير من الجرحى. 4 – الإبقاء على الإدارة المحلية القائمة في تلك الأحياء من أعوام في انتظار الحل النهائي.
عندما رفض النظام والإيرانيون هذا الاتفاق وتمسكوا بالمضي في الحسم العسكري بعدما ساعدتهم حملات القصف الروسي المكثفة، وجد لافروف مخرجًا سريعًا لإسقاط هذا التفاهم، عبر الإعلان المفاجئ أن الأميركيين وافقوا مع موسكو على خروج كل المقاتلين من شرق حلب، وهو ما دفع المنظمات المعتدلة التي شاركت في المفاوضات في تركيا إلى الإعلان أنها لن تنسحب وستقاتل في شرق حلب حتى الموت.
المثير أن واشنطن نفت أن تكون وافقت على ما أعلنه لافروف، وحتى إعلانه أن هناك خبراء روسًا وأميركيين سيجتمعون نهاية الأسبوع في جنيف لبحث الجوانب اللوجيستية، وتفيد التقارير بأن تركيا التي استضافت المحادثات كانت تراهن على التأسيس لمقايضة تسمح لها بالوصول إلى مدينة الباب الاستراتيجية، لقطع الطريق على الأكراد في مقابل تسليم رقبة «جبهة النصرة» في شرق حلب، وهنا ليس من الواضح أين هي حدود الرهان الأميركي الذي كان يراقب ما يجري.
لم يكن جون كيري في حاجة إلى إثارة التقزز من خلال محاولة التعمية على الفشل الأميركي الفاضح والمتمادي في سوريا، عبر تحميل المعارضة السورية مسؤولية رفض الهدنة منذ البداية، بالقول إنها رفضت اتفاقًا لوقف النار كانت قد وافقت عليه إيران وروسيا خلال الاجتماعات الأولى لمسار فيينا، ذلك أن الظروف في ذلك الحين كانت مختلفة، على الأقل لأن واشنطن كانت في حينه تتحدث عن حتمية الحل في إطار انتقال سياسي، وهو ما كانت موسكو قد رفضته، لا بل أفشلته دائمًا منذ مؤتمر جنيف الأول في عام 2013، الذي عقد على أساس البنود الست التي وضعها كوفي أنان في حينه، الذي سيتهمه النظام بالانحياز في وقت لاحق، كما حصل مع الأخضر الإبراهيمي ويحصل الآن مع دي ميستورا!
في أي حال بدا حديث كيري الوداعي في خلال آخر اجتماع له مع وزراء خارجية حلف الأطلسي، كأنه يقفل باب اهتمام إدارة أوباما بما يجري في حلب، التي تذبح على عيون العالم، لكنه جاء بمثابة وصية لافتة يجب ألا تنسى، عندما يقول إن بشار الأسد لن يمكنه توحيد بلاده وجمع أهلها مع بعضهم بعضًا، كما أنه لن يتمكن من إعادة تحقيق الإعمار، لأن ذلك سيحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات، والمجتمع الدولي لن يساعد في ذلك ما لم تكن هناك تسوية سياسية، وهو ما يصرّ الأسد دائمًا على رفضه!
الشرق الأوسط
هل من «درس» جزائري للسوريين؟/ كميل الطويل
أما الآن وقد شارفت مدينة حلب على السقوط كلياً في أيدي قوات الحكومة السورية، فإن من الطبيعي أن تسعى فصائل المعارضة، على اختلافها، إلى استخلاص العبر من نكستها هذه. سيقول معظمها، على الأرجح، أن اللوم في المقام الأول يقع على روسيا وإيران. فالأولى وفّرت الغطاء الجوي للقوات الحكومية، فيما وفّرت الثانية عشرات آلاف المقاتلين الشيعة من جنسيات مختلفة، إضافة إلى آلاف «المستشارين» من الجيش النظامي و “فيلق القدس”. وزيادة على ذلك، هناك من سيقول أيضاً أن اللوم يقع كذلك على الغرب الذي امتنع عن تقديم السلاح «النوعي» للمعارضين.
كل ما سبق صحيح، بلا شك. لكن ألا يقع اللوم أيضاً، ولو في جزء منه، على المعارضة نفسها؟ ومحور التساؤل حول هذا «اللوم» هنا يتعلق تحديداً بالعلاقة بين ما يُعرف بـ «المعارضة المعتدلة» وتلك «الإرهابية»، ومدى تأثير ذلك في «نكسة حلب» لاحقاً. وعلى رغم أن الروس تحديداً، هم من جادل على مدى شهور بضرورة «الفصل» بين هاتين المعارضتين (لتوريطهما ربما في صراع مسلح)، فإن الأميركيين، حلفاء المعارضة المفترضين، لم ينفوا أبداً هذا الواقع، لكنهم جادلوا بأن الفصل «غير ممكن» عملياً.
وسواء كان الفصل ممكناً أم لا، فإن «المعارضة المعتدلة» لا بد أن تُقر بأنها عجزت في نهاية المطاف عن اتخاذ موقف من «المتشددين» في الوقت الملائم. ويعود ذلك بالطبع إلى اعتبارات مختلفة ليس هذا مجال تعدادها، وإن كان أبرزها عدم القدرة عسكرياً، وسياسات النظام نفسه التي دفعت، بوحشيتها، المعارضين إلى الارتماء في أحضان المتشددين، كونهم الأقدر على رد الصاع صاعين.
لكن أحداث الجزائر، في تسعينات القرن الماضي، كان يجب أن تشكّل عبرة للمعارضة السورية (ربما لم يفت بعد أوان الاستفادة منها). بدأت تلك الأحداث مطلع عام 1992 عقب إلغاء نتائج الانتخابات التي فازت بها «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، وسرعان ما تطورت إلى حرب أهلية. التحق آلاف الإسلاميين بالجبال وشكّلوا جماعات مسلحة سيطرت على مساحات شاسعة من الأرياف، ومدّت نشاطها إلى داخل المدن. وبحلول عام 1994 كان الإسلاميون يتحضرون للزحف إلى العاصمة. لكن خططهم وآمالهم سرعان ما انهارت لأسباب عدة بينها بلا شك فشل «المعتدلين» في فصل أنفسهم عن «المتشددين». والمقصود بـ «المعتدلين» هنا هم الذين حملوا السلاح لأن النظام حرمهم الفوز في الانتخابات. أما «المتشددون» فهم من حملوا السلاح لهدف مختلف تماماً كونهم لا يؤمنون أصلاً بالانتخابات والديموقراطية.
هذه الخلفية الجزائرية يمكن بسهولة إسقاطها إلى حد كبير على الحالة السورية، مع تغيير الأسماء. فـ «الجماعة الإسلامية المسلحة» هي «جبهة النصرة». وكما حصل مع مناصري «الإنقاذ» الذين رفضوا فصل أنفسهم عن «الجماعة» – على رغم تشددها – لمجرد أنها تقاتل النظام (الذي في الوقت ذاته اخترقها وتلاعب بها)، تكرر الأمر ذاته مع المعارضين السوريين الذين رفضوا تصنيف «النصرة» بالإرهاب بحجة أنها تقاتل النظام.
تسبب تطرف «الجماعة» الجزائرية في نهاية المطاف في إلحاق الهزيمة بـ «الإنقاذ» من خلال السماح للحكومة بالظهور بمظهر من يتصدى للإرهاب. وحتى عندما أدرك بعض قادة «الجماعة» خطأهم هذا في نهاية التسعينات وحاولوا تداركه من خلال «تغيير اسمهم» المرتبط بالتشدد (نشأت «الجماعة السلفية» بدل «الجماعة المسلحة»)، كانت الكفة قد مالت لمصلحة النظام الذي نجح في الوقت ذاته في إقناع شرائح من المسلحين الموالين لـ «الإنقاذ» بعقد هدن محلية وتسليم السلاح والمصالحة مع الحكومة. ويتكرر هذا الأمر اليوم في سورية من خلال عقد النظام هدناً محلية مع معارضين سلّموا سلاحهم و «نفوا» المصرّين على القتال إلى «قندهار إدلب». كما أن تغيير «النصرة» اسمها إلى «جبهة فتح الشام» لم يؤدّ، كما يبدو، إلى تغيير النظرة دولياً إليها بوصفها «إرهابية» نتيجة ارتباطها بـ «القاعدة».
ما نتيجة كل هذا السرد؟ النتيجة واضحة: خسرت «الإنقاذ» في الجزائر لأنها فشلت في أن تنأى بنفسها في الوقت الملائم عن «الجماعة».
هل تخسر المعارضة السورية اليوم نتيجة السبب ذاته، أي فشلها في النأي بنفسها عن «المتشددين»؟ سيقول بعضهم أن هؤلاء «المتشددين» هم من يحقق «الانتصارات» ضد الحكومة. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن «نكسة حلب» لا بد أن تستعيد «الدرس الجزائري»، فلعل في تجربة «الإنقاذ والجماعة» عبرة للسوريين.
الحياة
قيادات بارزة في المعارضة السورية لـ«القدس العربي»: حلب صامدة وخسارتها لا تعني نهاية الثورة وما يحدث اتفاق أمريكي روسي لإفراغ المدينة/ إسماعيل جمال
إسطنبول ـ «القدس العربي»: شدد مسؤولون في المعارضة السورية والائتلاف الوطني على ان المقاتلين ما زالوا صامدين في أحياء حلب الشرقية المحاصرة التي تتعرض لهجوم روسي بغطاء أمريكي، على حد تعبيرهم، مؤكدين على أن خسارة المدينة لصالح النظام لا يعني نهاية الثورة السورية وأن المعركة هي «جولة من جولات الثورة».
ولفت المتحدثون إلى أن المأساة الأساسية تكمن في المدنيين الذين يتعرضون لغارات جوية ومدفعية ومجازر على مدار الساعة، مؤيدين أي اتفاق تهدئة يساعد في حماية المدنيين والحفاظ على حياتهم وإدخال المساعدات الطبية والغذائية للمحاصرين.
رمضان: مفاوضات مع روسيا والتحول لحرب العصابات
المعارض السوري أحمد رمضان شدد على أن «المخطط الروسي يقوم على احتلال حلب وضمِّها إلى منطقة النفوذ الخاضعة لها، والممتدة من الساحل إلى شمال سوريا، ولذلك تقوم بحملة وحشية لتدمير المدينة، وتهجير سكانها، وتستعين بميليشيات إيرانية وأفغانية على الأرض ترتكب الجرائم لدفع الأهـــالي للهجرة من حلب، بل من سوريا كلها».
وقال رمضان عضو الائتلاف الوطني السوري ورئيس حركة العمل الوطني من أجل سوريا في تصريحات لـ«القدس العربي»: «التصعيد الروسي مستمر، رغم الحديث الإعلامي عن تخفيف القصف، ويوم الخميس شنَّت الميليشيات الإيرانية هجمات على تسعة محاور في المدينة، ولم تتمكن من تحقيق اختراق في أي منها، وقتل العشرات من المرتزقة، وتم أسر أربعة إيرانيين أحدهم ضابط كبير، وشعرت القوات الغازية أن المعركة لن تكون سهلة مما دفعها للبحث عن مخرج سياسي».
وأضاف: «هناك الآن مفاوضات تجري في أنقرة بين وفد عسكري روسي وممثلين عن فصائل حلب، والحديث يدور عن إخراج المدنيين والجرحى وخاصة الأطفال والنساء، والمقاتلين الذين لهم صلة بجبهة فتح الشام، وبقاء المدينة تحت سلطة الجيش الحر عسكرياً والمجلس المحلي لحلب مدنياً. ورغم موافقة الروس على ذلك في البداية إلا أنهم بدأوا بالتراجع ومحاولة فرض شروط جديدة، من خلال استغلال معاناة الأهالي والمدنيين نتيجة القصف والحصار للضغط على العسكريين، وصولا إلى تهجير أهالي حلب بالكامل».
وشدد رمضان على أن «معركة حلب هامة، ولكن لن تكون سوى جولة في الصراع، واعتقد أنها تولد الآن فرصة لإعادة النظر في استراتيجية العمل الوطني السوري على المسارات السياسية والعسكرية والثورية والمدنية، وترتكز على مبدأ تنظيم العمل العسكري من خلال إنشاء جيش وطني منظم ومقاومة شعبية تستطيع التحرك وفق مبدأ حرب العصابات ضد قوات الاحتلال الروسية والإيرانية، وبناء استراتيجية سياسية جديدة تراعي الواقع الراهن والمتغيرات في المحيط الدولي، وتصاعد وتيرة الصراع بين القوى الكبرى».
سميرة المسالمة نائبة رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض أكدت على أن «من غير المقبول والمفهوم طرح مثل هذا الأمر وحتى قبل الحديث عن خروج المسلحين يجب أن يكون القرار بخروج كل المسلحين حزب الله والفاطميين والنجباء وكتائب أبو فضل العباس وكل من يحمل السلاح من النظام والمعارضة لترك المدينة بيد أهلها من المدنيين لينعموا بالأمان الذي أفقدهم إياه هذا القصف المجنون على مدينتهم من النظام وروسيا جوا ومن إيران وميليشياتها براً».
واعتبرت المسالمة أن «من يوافق على مثل هذا الطرح حتما ليس من أصدقاء الشعب السوري لأن الصداقة تفترض توفير الأمان والاستقرار وليس تشريد السكان وتهجيرهم والاستيلاء على ممتلكاتهم».
الحريري: اتفاق أمريكي روسي
نصر الحريري عضو الائتلاف الوطني السوري شدد على أن ما يجري في حلب هو تطبيق لتفاهمات روسية أمريكية و«ما يؤكد ذلك ما تحدث عنه كيري قبل أسابيع في أحد الحوارات المغلقة عن أن المعارضة سوف تنتهي خلال الأشهر القليلة المقبلة»، على حد تعبيره.
وقال الحريري لـ«القدس العربي»: «الروس يقومون بأقصى درجات الإجرام في حلب والمجتمع الدولي صامت ومتفرج والهدف الواضح للجميع هو إعادة السيطرة على المدينة من أجل التمهيد للدعوة إلى مفاوضات جديدة في جنيف لإتمام الصفقة الأمريكية الروسية في سوريا».
واعتبر أن المفاوضات الروسية الأمريكية الحالية تهدف إلى إفراغ حلب من سكانها لكنه شدد على أن موقف الثوار ثابت وواضح بعدم الانسحاب و«الأولوية لديهم حماية المدنيين لأنهم هم من يدفعون الثمن الأكبر، ومبادرة الفصائل تركز على ذلك لكنها تشترط ضمانات أممية لأن النظام مارس انتهاكات وقام بإعدامات ميدانية للمدنيين الذين خرجوا من شرق حلب إلى غربها».
وأضاف: «أمريكا وبالأخص إدارة أوباما أوهمت الشعب السوري أنها تدعمه وتقف إلى جانب ثورته لكنها اليوم تخلت عن الثورة سياسياً وعسكرياً كما تخلت عن تركيا والخليج»، وتابع: «الثورة صمدت 6 سنوات ضد المؤامرات، بدأت مدنية ولم تكن تسيطر على أي شبر من الأراضي السورية ومرت بمراحل مختلفة وصعبة لكنها لم تنته ولم تتوقف، بالتأكيد حلب معركة مهمة لكنها مثل كل المعارك السابقة، ولا يوجد منتصر لأن النظام لن يستطيع السيطرة على الديموغرافيا والعقول وهو الآن لا يسيطر سوى على 25٪ من الأراضي السورية ويحكم مناطق فارغة مدمرة لذلك لا يمكن اعتبارها معركة فاصلة أو نهاية للثورة».
نشار: إلى أين ينزح 200 ألف مدني؟
عضو الهيئة العامة والسياسية للائتلاف سمير نشار اعتبر أن «من السابق لأوانه التحدث عن خسارة حلب، فكل يوم يثبت المقاتلون أنهم صامدون وسيواصلون القتال حتى الرمق الأخير حيث تجري معارك طاحنة استخدم فيها النظام الغازات السامة وتمكن الثوار من قتل أعداد كبيرة من قوات الأسد والميليشيات اللبنانية والإيرانية».
ولفت إلى أنه «لا يزال هناك متسع لأجل تدارك الخلل والثغرات لكن المأساة في الوضع الإنساني الصعب حيث تتعرض حلب لعملية إبادة وما زال العشرات مدفونون تحت الأنقاض، وهذه الكارثة الإنسانية هي التي تضغط على المقاتلين لذلك فإن مقترحات الهدنة هي فقط فرصة للمدنيين للخروج من مذبحة القصف، فسلاح الجو الروسي يعمل على مدار 24 ساعة بلا توقف».
وشدد على أن من المبكر والسابق لأوانه الحديث عن ما بعد حلب «فالمعارك سوف تطول وسنموت واقفين، الأهم أن لا أحد من المقاتلين يقبل الاستسلام، والجميع رفض المقترح الأمريكي في هذا الإطار، متسائلاً: «إلى أين ينزح 200 ألف مدني؟ الرجال لن يذهبوا إلى الأحياء الغربية خشية تعرضهم للتصفية الميدانية».
القدس العربي
في حلب سقطت الإنسانية بين قصف وجوع وبرد وحصار/ فراس ديبة
«القدس العربي»: مع تصاعد القصف الجوي من قبل النظام السوري وحليفه الروسي على أحياء حلب المحررة، ومع دخول الحصار المطبق على الشطر المحرر من المدينة شهره الخامس، تأخذ الحالة الإنسانية في المدينة أبعاداً أكثر خطورة من كافة النواحي.
وتزايدت خطورة الأوضاع الإنسانية بعد سيطرة قوات النظام وحلفائه من الميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية والإيرانية واللبنانية، على العديد من الأحياء المحررة في المدينة، ونزوح معظم سكانها إلى القسم المتبقي من الشطر المحرر.
ويقدر عدد سكان الشطر المحرر من المدينة بـ 275 ألف نسمة حسب إحصائيات مجلس مدينة حلب الحرة، وذلك قبل تقدم قوات النظام وحلفائه في الأحياء المحررة، كما يقدر عدد الذين غادروا منهم إلى مناطق سيطرة النظام بـ35 ألفاً حسب إحصائيات غير رسمية.
وعن الأوضاع الإنسانية في المدينة يقول محمد مجد كحيل، رئيس هيئة الطبابة الشرعية في حلب المحررة: «لم يعد هناك شيء اسمه إنسانية في المدينة، لقد ذبحت الإنسانية منذ أن ذبح أهالي حلب، ولم يعد يوجد من مقومات الإنسانية شيء إلا الأشكال، فالأوضاع سيئة للغاية ابتداءً من الطبية إلى الإسعافية والإنقاذ والطوارئ إلى الدفاع المدني إلى الغذاء والدواء». ويضيف: «لا يوجد عندنا قبور في هيئة الطبابة الشرعية الآن، ونقوم بدفن الجثث بشكل جماعي بعد إحداث حفر لهم».
ويصف عمار السلمو، مدير الدفاع المدني في حلب، الوضع في المدينة قائلاً: «كل شيء متوقف إلا القصف والموت والبرد والخوف والجوع. هناك أكثر من ستين جثة في الأحياء التي أصبحت مؤخراً خطوط جبهات قتال، ونحن لا نقدر كدفاع مدني أن نسحبها».
وحول جاهزية الدفاع المدني السوري يقول: «فرق الدفاع المدني في القسم المحرر المتبقي تحاول أن تساعد لكنها حالياً شبه متوقفة عن العمل لأنها أصبحت تفتقد لكل شيء. الوضع الآن في ذروة السوء، إضافة لأننا فقدنا مراكزنا في أحياء هنانو والصاخور وباب النيرب بكامل معداتها بعد سيطرة النظام على هذه الأحياء».
ومن أكبر مخاطر نزوح أعداد كبيرة من المدنيين إلى القسم المحرر المتبقي هو ارتفاع أعداد ضحايا القصف نتيجة لارتفاع الكثافة السكانية في مساحة لا تتعدى ستة كيلومترات مربعة، إضافة لعوامل أخرى يشرحها محمد كحيل رئيس هيئة الطبابة الشرعية: «من تاريخ 15/11 حتى الآن هناك ازدياد كبير في عدد الأخوة الشهداء، وكل جريح الآن هو مشروع متوفي لأننا لا نستطيع أن نقدم لهم إلا الإسعافات الأولية وبعض المواد المخدرة، حتى أن بنك الدم خرج عن الخدمة، والكثير من الجرحى يموتون بسبب النزف الشديد وعدم القدرة على تقديم الدم لهم».
لم تتوقف معاناة أهالي حلب المحررة عند القصف الجوي والمدفعي وتقدم قوات النظام، بل تعدته إلى سوء في مختلف الأحوال المعيشية والخدمية نتيجة للحصار الذي دخل شهره الرابع، المترافق مع دخول فصل الشتاء، الذي أضاف إلى الجوع عناء آخر هو البرد.
ويتحدث كحيل عن هذه المعاناة قائلاً: «بالنسبة لوضع الشتاء فالبرد قارس، ولا يوجد مواد تدفئة سوى بعض الأخشاب والحطب، وأكثر ما يؤلمنا هم الجرحى والمصابون، والأطفال الذين أصبحوا عاجزين نتيجة بتر أيديهم أو أرجلهم أو فقدان عيونهم، الوضع الإنساني رهيب جداً لا يمكن أن يوصف».
وعن الوضع الخدمي والمعيشي يقول الناشط الإعلامي مهاب عبد السلام: «إن المياه والكهرباء شبه معدومة، وتوقفت الاتصالات والإنترنت في أغلب الأماكن، والبرد يزداد ولا توجد محروقات والحطب شبه مفقود، أغلب أفران الخبز لم تعد تزودنا بالخبز نتيجة سيطرة النظام عليها، وهناك ازدحام شديد جداً على الخبز القليل أصلاً، ويعتمد الناس حالياً ما تبقى من مخزون البرغل والرز في المدينة، والذي سينتهي قريباً».
ويصف هشام سكيف، رئيس المكتب السياسي لاتحاد ثوار حلب، الوضع الإنساني في مدينة حلب بأنه «أكثر من كارثي، حيث شارف الخبز على النفاد بسبب قصف المطاحن ونفاد مخزون الطحين والحبوب البديلة، كما أن المواد الغذائية المعروضة بالسوق غالية الثمن، وخاصة بعد النزوح الداخلي من المناطق التي سيطر عليها النظام، ومع انعدام الوقود اللازم للتدفئة والشتاء تصبح الكارثة مضاعفة، إضافة لاستمرار القصف بشتى أنواع الأسلحة بما فيها الكلور، ومع توقف المشافي عن العمل إلا في بعض النقاط الطبية الاسعافية تكون الحالة الطبية أشبه بالموت المحتم لأي إصابة متوسطة».
ويطالب عمار السلمو مدير الدفاع المدني بـ«ممرات آمنة للمدنيين والجرحى الذين يرغبون بمغادرة المدينة إلى المناطق المحررة الأخرى، وهذا مطلب إنساني بسيط للبشر الذين يبحثون عن الخروج من هذه المأساة، بينما يتفنن نظام الأسد بقتل الناس وقصفهم بموافقة دولية، ومدينة حلب هي سقطة للإنسانية وللعالم».
من جانبه يرى هشام سكيف أن «الصورة قاتمة والحلول مشلولة بسبب التعنت الروسي، وضعف الضغط الأوروبي أو عدم فاعليته إلى الآن، والحلول تكمن في تدخل الأمم المتحدة سريعاً عبر المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة، تحت بند الاتحاد من أجل السلام، لتخطي الفيتو الروسي».
ورغم كل المبادرات الدولية والإقليمية والمحلية التي تطرح حول الوضع الإنساني لسكان مدينة حلب المحررة، إلا أن الموت والجوع والبرد والحصار تبقى هي الحقائق الوحيدة على أرض الواقع الذي يعيشه قرابة ربع مليون إنسان، في مساحة لا تتعدى ستة كيلومترات مربعة، محاصرة ومحرومة من كل أساسيات الحياة.
القدس العربي
محاولة أمريكية أخيرة لانقاذ حلب من التدمير الكامل وترحيل السكان المدنيين بعد سنوات من الفشل العسكري والدبلوماسي في سوريا/ رائد صالحة
واشنطن ـ «القدس العربي»: لم يدرك قادة المعارضة السورية المعتدلة ان الولايات المتحدة قد تخلت عنهم عندما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما ان مهمة الجماعات المتمردة تنحصر فقط في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» وحماية الحدود مع تركيا والأردن، ولكنهم يدركون ذلك بالتأكيد هذه الأيام وهم يحاربون لوحدهم في حلب بدون أمل ومساعدة أمام قوات النظام السوري المدعومة بكثافة من روسيا.
وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بان الولايات المتحدة ستتدخل بأي شكل عسكري في حلب المحاصرة لانقاذ الجماعات المتمردة التي وعدت بمساعدتها سابقا، ومن المرجح ان تلجأ بعض قوات المعارضة للانسحاب من المدينة التي من المتوقع ان تسيطر عليها قوات النظام خلال فترة وجيزة، وهناك اعتقاد ان واشنطن ستخسر، أيضا، المعركة الدبلوماسية مع موسكو في سوريا، واتضح وفقا لعدد من المحللين ان السلوك الأمريكي خلال المباحثات مع الروس بشأن سوريا وحلب يسوده نوع من الارتباك بسبب خلافات خطيرة داخل إدارة أوباما تجاه الصراع.
الفترة المتبقية من ولاية أوباما لا تتجاوز أسابيع، ولا يمكن الاتكاء على حل حاسم من جانب واشنطن فالخلافات واضحة بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية، ومواقف كيري غير مدعومة على الاطلاق من طرف أعضاء مجلس الأمن القومي بمن في ذلك بن رودس وسوزان رايس، والأتعس من ذلك كله، مواقف كيري لا تتمتع بمساندة حقيقية من الرئيس الأمريكي باراك أوباما وسط اختلاف وجهات النظر بين أعضاء إدارته، أما وكالة الاستخبارات المركزية فهي ما تزال تؤيد دعم جماعات المعارضة ولكنها غير قادرة وسط الفوضى السياسية على دفع الحلول شبه العسكرية.
الطائرات الحربية الروسية قصفت بلا هوادة المستشفيات والمدارس والأسواق ما أصاب البنية التحتية للمدينة بالشلل، وقوات النظام خنقت المدينة عبر الحصار وشنت هجمات برية مدمرة ضد قيادة قوات المتمردين، ولم تتدخل الولايات المتحدة بشكل حاسم بل ناقش الروس والأتراك خيارات الانسحاب بما في ذلك السماح بانسحاب المعارضة إلى الجنوب نحو إدلب مع أسلحة خفيفة أو الانسحاب باتجاه الشمال مع الأسلحة الثقيلة للانضمام إلى معركة القوات التركية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية».
التعليقات التي رصدتها «القدس العربي» من المؤتمرات الصحافية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية بشأن سوريا وحلب فاترة بطريقة لا تناسب خطورة وسخونة الواقع على الأرض، وهي غالبا تصريحات تسعى إلى تهدئة الامور وشراء الوقت وعدم انجرار الصراع إلى كارثة إنسانية محرجة تستدعي اللجوء إلى تدابير من جهة واشنطن، وفي الواقع، هناك استنتاجات تفيد ان البيت الابيض يحاول تأخير اتخاذ أي اجراءات لمواجهة الأزمة في حين برزت تقديرات أخرى تفيد ان بيرقراطية واشنطن وطريقتها البطيئة جدا في الاستجابة للأزمة هي دليل على ان البيت الأبيض قرر بانه لا يمكن انقاذ المدينة وبالتالي لا داع للمحاولة.
والمهمة الوحيدة والأخيرة التي يحاول وزير الخارجية جون كيري تحقيقها في أيامه الأخيرة هي محاولة انقاذ مدينة حلب من التدمير النهائي وانهاء الجولة الأخيرة من المعارك التي أدت إلى نسف أجزاء كبيرة من المدينة ومحاولة الحصول على مساعدات إنسانية وطبية للسكان المدنيين المحاصرين وايجاد وسيلة لهم للخروج من الحصار. ووفقا للسكرتير الصحافي للوزارة مارك تونر فقد تحدث كيري مع نظيره الروسي لافروف بشأن حلب مشيرا إلى ان المحادثات الفنية قد بدأت في جنيف وهي تركز في المقام الاول على وقف القتال وتوفير المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين وترحيلهم بشكل آمن من المدينة، وبطبيعة الحال، تصر وزارة الخارجية الأمريكية رغم الفشل العسكري والدبلوماسي الواضح للولايات المتحدة في سوريا على ان محادثات جنيف الحالية قد تكون بداية جديدة لاحياء المسار السياسي لحل الصراع الدموي.
ورفض الناطق باسم الوزارة تأكيد التقارير التي تتحدث عن اتفاق وشيك لرحيل جميع الجماعات المسلحة من شرق حلب قائلا بانه لن يستبق نتائج المحادثات والنقاشات الجارية مؤكدا ان هناك بعض القضايا التي لا تزال بحاجة إلى حل واسئلة بحاجة إلى إجابات، وقال بانه لا يستطيع الجزم بان المحادثات قريبة جدا من تحقيق نتائج.
ومن الواضح ان واشنطن لا تعلم جيدا طبيعة المفاجاة التي تنوي روسيا اعلانها بشأن حلب ولكن تونر قال بان واشنطن تتعامل مع ما قاله وزير الخارجية الروسي بشأن مفاجأة مقبلة في سياق ايجابي حيث من المحتمل ان تخرج المحادثات في أي لحظة بنتائج إيجابية. وأضاف تونر ان هدف واشنطن المباشر هو وقف العنف والحصول على هدنة مستمرة للقتال لان من الواضح ان هناك حاجة ملحة لذلك مشيرا إلى ان هناك محاولة للنظر في جوانب أخرى قد تساعد على التوصل لهدنة أكثر مصداقية مثل السماح بالمرور الآمن للبعض من المعارضة المعتدلة.
الموقف المرتبك لواشنطن تجاه المعارضة المعتدلة في حلب أثار العديد من التساؤلات من بينها: لماذا لم تطلب واشنطن بصراحة من المعارضة مغادرة المدينة؟ هل هناك محاولة من واشنطن لابقاء جزء من شرق حلب في أيدي المعارضة أم انها تحاول العثور على طرف محايد يسيطر على الأرض ويوفر الممرات الإنسانية ؟ والأنكى من ذلك كله، هناك اصرار أمريكي على ان سقوط حلب لا يعنى نهاية الصراع في سوريا أو انتصار نظام الأسد مع الإشارة إلى ان واشــنــطــن لا تعــلم على وجه التحديد بان المدينة ستسقط في وقت قريب.
هناك توقعات كثيرة بشأن سياسة الرئيس المنتخب دونالد ترامب تجاه سوريا واختلافاته الجوهرية عن سياسة واستراتيجة أوباما تجاه الحرب الأهلية ولكنهما يتفقان على شيء واحد هو انه ليس هناك الكثير مما يمكن ان تعمله الولايات المتحدة حيال سقوط حلب، فالمدينة ستقع وفقا للتوقعات تحت قبضة نظام الأسد بدعم مستمر من روسيا.
القدس العربي
تقف وراء تقدم قوات النظام وحلفائه: روسيا تلمح إلى تصفية المقاتلين الذين سيبقون في حلب/ فالح الحمراني
موسكوـ «القدس العربي»: شددت روسيا من خطابها ازاء تسوية الوضع المتعلق بحلب إثر تعرض مستشفى متنقل في حلب لقصف أدى إلى مقتل ممرضتين وطبيب، واتهمت وزارة الدفاع المقاتلين ومن وصفتهم برعاتهم بالوقوف من وراء العملية فضلا عن سحب الولايات المتحدة بصورة مفاجئة ورقة اتفاق ثنائي قدمتها للجانب الروسي بشأن التسوية، ومقتل العقيد روسلان جاليتسكي الأربعاء إثر إصابته في حي غرب حلب. وكانت روسيا قد استعملت إلى جانب الصين حق الفيتو في مجلس الأمن ضد مشروع غربي لوقف إطلاق النار في حلب لمدة أسبوع.
ويتمحور الموقف الروسي على اشتراط خروج المقاتلين من مناطق حلب التي ما زالت في قضبتهم لقاء تأمين سلامتهم. وتراهن موسكو على ان خروج المقاتلين من حلب، وبغض النظر عن اسلوب تنفيذها، سيكون انعطافا حاسما في أي تسوية لاحقة ستكون لصالح النظام، وأنها ستحرم المعارضة بكافة أشكالها وانتماءاتها من ورقة هامة في التفاوض مع النظام حول مستقبل السلطة في سوريا.
وتهدف موسكو من حراكها الدبلوماسي، كما يبدو، إلى التعجيل في سيطرة قوات النظام على حلب، وتفضل ان يكون بالطرق السلمية لأن هذا يجنبها أيضا التورط أكثر في «المستنقع السوري» وتكبد المزيد من الخسائر فضلا عن عدم تحملها مسؤولية الضحايا والدمار في المدينة التاريخية ويجنبها من موجة التهم باراقة الدماء. ويقول مدير مركز التحليلات السياسية «روسيا ـ الشرق ـ الغرب» فلاديمير سوتنيكوف ان هدف الأسد ومن يقف وراءه، روسيا وإيران، هو الاستفادة لحد أقصى من الشهرين المتبقيين للرئاسة الأمريكية الحالية، حيث يظهر ما يشبه الفراغ الزمني في الولايات المتحدة، حينما تنتهي الانتخابات الرئاسية ولكن الإدارة الجديدة لم تباشر في اداء مهامها، وبالتالي وضع دونالد ترامب أمام الأمر الواقع.
وتقول موسكو ان إعلان الهدنة من دون خروج المقاتلين هو محاولة لمنحهم فرصة لاخذ قسط من الراحة وإعادة اصطفاف تشكيلاتهم والتزود بالأسلحة والتموين. وكما أفادت على لسان وزير الخارجية سيرجي لافروف انه «سيتم تصفية المقاتلين الذي سيواصلون البقاء في حلب». موضحا «في كل الأحوال إذا ما امتنع أحد ما من الخروج فستتم تصفيته، كما أفهم، وليس ثمة طريق آخر هنا».
ويرى مراقبون قريبون من الموقف الرسمي ان الوقت الحالي غير ملائم لتخفيف هجوم قوات النظام وحلفاؤه في حلب. ويقولون ان تحقيق الانتصار بهذا الاتجاه سوف يجعل من السهل على النظام خوض المباحثات حول التسوية السلمية. وان اتساع دائرة الدول التي لا تود المواجهة الدبلوماسية مع روسيا لاحقا، سيكون ورقة إضافية بيد موسكو في المضاربة حول التسوية السورية مع الإدارة الأمريكية الجديدة التي ستباشر عملها في كانون الثاني/يناير المقبل.
وكانت موسكو قد اتهمت واشنطن بسحب وثيقة اتفاقية تسوية الوضع في حلب الذي اقترحه في وقت سابق وزير الخارجية الأمريكية جون كيري خلال اللقاء مع لافروف في روما في الثاني من كانون الأول/ديسمبر. وتراجعت واشنطن أيضا عن عقد اجتماع على مستوى مستشارين للبلدين حول التسوية في حلب الاربعاء الماضي في جنيف. كما شهد اجتماع مجلس الأمن تبادل التهم بين ممثل روسيا وممثلة أمريكا، واتهام بعضهما الآخر بعرقلة التسوية ومواصلة نزيف الدم ومضاعفة الآلام الآف الناس في حلب. الجانب الروسي يرى أيضا ان هناك قوى في وزارة الخارجية الأمريكية تعمل على احباط مبادرات جون كيري السلمية وتقويضها. ولا يستبعد ان تكون واشنطن قد عدلت من موقفها بسبب فرض موسكو وحلفاؤها النقض على مشروع وقف إطلاق النار.
وكتبت صحيفة «واشنطن بوست» ان الدبلوماسية الأمريكية قامت مؤخرا بتفعيل حراكها بشكل مبدئي على ضوء التغيرات في الوضع في حلب. وحسب ما أفادت الصحيفة فان وزير الخارجية الأمريكية جون كيري «يبذل جهودا مستميتة» من أجل ان يحصل من روسيا على موافقة بوقف العمليات القتالية، وهذا ما تشهد عليه الاتصالات الهاتفية المستمرة مع نظيره الروسي لافروف ولقاءهما الذي تم في بيرو، على هامش قمة دول آسيا والمحيط الهادي، وعلى حد تقديرات الصحيفة، ان كيري يخشى من انه وبعد مباشرة دولاند ترامب منصبه الرئاسي سيتوصل مع موسكو إلى اتفاقية أخرى حول سوريا، مما سيضع واشنطن إلى صف الأسد. ونسبت الصحيفة إلى مصدر في الخارجية الأمريكيه قوله، ان موسكو تمط الوقت بشكل مقصود من أجل ان تكرس الانتصار العسكري للأسد في حلب.
ويقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط ليونيد ايساف ان وزارة الخارجية الأمريكية غابت في الأشهر الأخيرة عن حلب عموما. منوها بان لدى الولايات المتحدة مبادئ وحسب، تنطلق منها. مثلا ان على روسيا عدم القيام بأعمال قتالية وفرض نظام وقف إطلاق النار ومراعاة القانون الإنساني. ولكن في الأشهر الأخيرة، كما يقول ايسايف، ليس لديها الاستراتيجية التي يمكن تجسيدها على أرض الواقع. لذلك، حسب الخبير، ليس لدى واشنطن ما يمكن ان تطرحه على موسكو. وحسب قوله، ان بوسع الولايات المتحدة التوصل إلى حل وسط مع روسيا، وليس مع الأسد.
من ناحيته يرى تقرير لمعهد الشرق الأوسط في موسكو، ان من السابق لأوانه التعبير عن الابتهاج المفرط بشأن الوضع في حلب. منوها بانه ورغم حصول انعطاف في عملية اخراج المقاتلين من المدينة، لكن ثمة الكثير ما يجب عمله في المناطق التي ما زالت في قبضة المعارضة المسلحة، وينبغي الكلام عن النجاحات الفعلية والتي لا تقبل الشك فقط بعد ان تفرض قوات النظام سيطرتها بالكامل على شرق حلب.
وحسب معطيات التقرير فان نجاحات قوات النظام في حلب تحققت ليس بقوة جيش النظام وانما بفضل عمل المستشارين العسكريين الروس وتقديرهم الصحيح لقدرات تشكيلات المعارضة المسلحة واحتساب تحركاتهم. وقامت هذه الاستراتجية، كما يشير التقرير، على إنهاك الخصم ما أدى في نهاية المطاف إلى تحقيق النجاحات. منوها إلى ان جيش النظام ما زال في وضع صعب يفتقر إلى المجندين والأسلحة فضلا عن القيادات الميدانية ذات الخبرة. وأضاف بانه لم يكن لدى الأسد جيش بمعنى الكلمة قبل عملية القوة الجوية الروسية. مؤكدا ان المستشارين العسكريين الروس وقفوا وراء انجازات قوات النظام في حلب. وقال، ان الضباط الروس متواجدون عمليا في كافة نقاط إدارة قوات النظام، وغالبا ما يشرفون على السوريين عند القيام بالعمليات القتالية.
القدس العربي
حلب اليتمية داخل قاعة مجلس الأمن اللئيمة/ عبد الحميد صيام
نيويورك -«القدس العربي»: لم يكن نفاق المجتمع الدولي في التباكي على مأساة حلب بأكثر منه وضوحا مثلما كان يوم الخامس من شهر كانون الأول/ديسمبر من هذا الشهر. فقد عقد مجلس الأمن الدولي جلسة استمرت أربع ساعات كاملة لمناقشة مشروع قرار يتحدث ببساطة عن وقف إطلاق النار لمدة أسبوع من أجل ايصال المساعدات الإنسانية واخلاء الجرحى والمرضى أساسا. كان المطلوب هدنة فقط يستأنف بعدها القتل الجماعي للمدنيين لكن الفيتو المزدوج كان بالمرصاد ولأسباب لا تتعلق أحيانا بالمضمون بل بالشكل وبعدم إكتمال المشاورات أو بالضغط للتصويت على عجل.
تحدث في الجلسة كافة أعضاء مجلس الأمن إضافة إلى الممثل الدائم لسوريا بشار الجعفري. وإذا قرأت بين السطور في كلمات الوفود تجد أن أطفال حلب ونساءها وشيوخها ومرضاها وجرحاها قد ضاعوا بين الشقوق وفي الكلملت والجمل الغامضة التي قد لا تعني شيئا أو تعني الشيء ونقيضه على الطريقة البريطانية وكان المظهر الأوضح للجلسة أن هذه الدول كانت في جلسة مناكفة حامية ضاع فيها أبناء حلب بين من يتهم الطرف الآخر بتمويل الإرهاب فيرد الآخر بأنه يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ولا يملك من يراقب مثل هذه الجلسات عن قرب إلا أن يقسم أن الطرفين كانا على صواب.
هناك من يريد أن يثبت أن مندوب روسيا يكذب ومن يحاول أن يتهكم على من يدعي بأنه ضد الإرهاب وهو يرعاه ومن يحاول أن يثبت للآخرين أن هذا المندوب ملطخة أياديه بالدماء. بعضهم حاول أن يمثل تبنيه لأحزان ومصائب أطفال حلب لكن التعابير الخشبية كانت تفضح ما بالداخل. بعض المندوبين كان يلقي خطابا في المجلس ولكن خطابه في الأساس موجه إلى داخل بلاده ليزيد، أو هكذا يظن، في شعبية زعيم رديء لا شعبية له.
استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) للمرة السادسة في المسألة السورية ولحقتها الصين فاستعملت الفيتو للمرة الخامسة. ولم يجدا هذه المرة يدا ترتفع معهما إلا يد ممثل فنزويلا على عكس التصويت يوم 8 تشرين الأول/أكتوبر عندما ارتفعت أيضا يد عمرو أبو العطا، السفير المصري ليثير تصويته إلى جانب روسيا غضبا عارما في السعودية أدى إلى ردح مزدوج بين البلدين.
الفيتو المزدوج أطاح بمشروع القرار الذي تقدمت به كل من مصر ونيوزيلاندا واسبانيا وأطاح بأحلام نحو 350 ألف كانوا يتعلقون بحبال من وهم ما يسمى بالمجتمع الدولي الذي سيلقي حبالا من الفضاء تنزل عليهم من سلالم الطائرات لتنتشلهم من الأقبية المعتمة الباردة التي تحولت إلى مكان للنوم والعمليات الجراحية والموت.
عينة من الاقتباسات
حجة السفير الروسي فيتالي شوركين لاستخدام الفيتو أن مشروع القرار سيعطي الجماعات الإرهابية فرصة من عشرة أيام لإعادة التنظيم والتسلح والتموضع كما أن مشروع القرار في حالة اعتماده سيؤثر سلبا على المحادثات المقترحة بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي حول انسحاب العناصر المسلحة من حلب الشرقية وقال إن مشروع القرار وضع في صيغته الزرقاء الساعة 11:28 من صباح اليوم نفسه ويجب أن يمر عليه يوم كامل قبل التصويت. مندوب نيوزيلندا رد على السفير الروسي أن مشروع القرار وضع في الصيغة الزرقاء الساعة الثامنة مساء الجمعة بينما أكد السفير الفرنسي أن مشروع القرار وضع في صيغته الزرقاء قبل أسبوع. إذن بين الروايات الثلاث يضيع 800 مدني في حلب. والآن ينتظر مئة ألف طفل في حلب الشرقية لعل الدول الثلاث تتفق فيما بينها متى وضع القرار في صيغته الزرقاء. أطفال حلب يؤكدون أن القرار وضع بصيغته الحمراء في حي سيف الدولة وقيل في بابا عمرو وقيل حي الصاخور الواقع بين كماشتين: الطائرات والجماعات المسلحة التي تمنع خروجهم.
ما يهم المندوبة الأمريكية، ميشيل سيسون، شيء آخر ليس أحزان أطفال حلب ودموعهم بل أن تثبت أن روسيا غير معنية إلا بمصالحها «روسيا تركز على الحفاظ على مكاسبها العسكرية أكثر من مساعدة المدنيين في حلب. لقد تحدثت روسيا مرارا من قبل عن اتفاقات دبلوماسية مبهمة للمجادلة من أجل تأجيل القيام بعمل في مجلس الأمن. في كل مرة أعقبت روسيا وعودها بجولة مكثفة من القصف المؤدي إلى عواقب مروعة». ثم قدمت وعدا خطيرا سيفك حصار المجوعين. فقد رفعت سبابتها وهي تؤكد أمام المجلس «مواصلة انخراط بلادي المباشر مع الدول الرئيسية بما فيها روسيا من أجل معالجة الوضع المروع على الأرض». أتريدون أفضل من هذا الانخراط الذي يؤدي إلى معالجة الوضع المروع على الأرض؟
مندوب مصر عمرو أبو العطا، تفطر قبله من الأسى ليس على أطفال حلب بل لأن مشروع القرار «المتوازن» كما وصفه، والذي صاغه مع نيوزيلندا واسبانيا استغرق وقتا طويلا من المناقشات قبل طرحه للتصويت ثم تكون النتيجة أن لا يكتب له النجاح. يا خسارة الوقت الذي ضيعه مه زميليه لصياغة قرار يمثل حبل نجاة لأطفال حلب. ثم أعلن بكل وضوح وجدية أنه ينحاز ويقف مع «مصلحة الناس العاديين في سوريا من كافة الطوائف والأديان والأعراق حتى تعود البلاد إلى وحدتها» وكأن البلاد بقي فيها طوائف وأعراق وأديان. ووجه قذيفة من العيار الثقيل لمن رفضوا القرار (يقصد روسيا والصين وفنزويلا) بـ»عدم الاكتراث بمصلحة الإنسان السوري». هل سمعتم أكثر إيلاما من هذه التهمة؟ «عدم اكتراث»؟ أعتقد أن بوتين لن ينام تلك اللية مرتاحا ومصر «أم الدنيا» تتهمه، ولو بشكل غير مباشر بأنه غير مكترث بمصلحة الإنسان السوري وهو الذي أرسل أساطيله وصواريخه وحاملات طائراته لينقذ النظام السوري حتى لو تشرد 8.5 مليون ولجأ خارج الحدود 4.5 مليون. ثم ألحق أبو العطا تهمة أخرى بمن قتل مشروع القرار حيث إن البعض «فضلوا تغليب مصالحهم السياسية الضيقة». ثم تساءل «أي دين أو عقيدة أو طائفة ما زالت قادرة على تبرير هذا الحجم من الدماء والاقتتال» ولكنه لم يسمع أي جواب وكنا نتمنى لو أنه تطوع بنفسه وقدم الإجابة الشافية والوافية فلعلها تكون الترياق لـ 974000 محاصر. ولم ينس أن يقدم رزمة من الحلول للأزمة قد يحتاج تنفيذها خمس سنوات أُخر. فقد دعا بكل جدية «مجموعة الدعم المعنية بسوريا إلى استئناف عملها الذي بدأه الأردن منذ العام الماضي للإسهام في هذا الجهد». أي تحديد من هو الإرهابي ومن هو غير الإرهابي. وبما أن السوريين تعودوا على الانتظار فلا بأس. «انتظروا سنة أو اثنتين أو ثلاث لاستكمال جهود الأردن في تحديد هويات نحو 1300 فصيل من بينهم 80 ألف متطوع من 80 بلدا.
خطاب التشفي ألقاه المندوب السوري بشار الجعفري، والذي ينتقد كل من يستخدم مصطلح النظام السوري فيصححه «بل قل حكومة الجمهورية العربية السورية». ألقى مرافعة وهو في منتهى الراحة وهو يخاطب الفرسان الثلاثة «بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة» وذكرهم بأن مثل هذه القرارات لا تخدم في النهاية إلا تقوية الإرهاب وتعزيزه في سوريا، وهو أمر لن تسلم منه أي دولة عضو في هذه المنظمة. و»أؤكد على كل من يدعي حرصه على تحقيق مصلحة الشعب السوري سواء في تخفيف معاناته الإنسانية أو التوصل إلى حل سياسي بقيادة السوريين أنفسهم كما تقولون أنتم أو القضاء على آفة الإرهاب، فعليه أن يطرق باب الحكومة السورية، والعنوان معروف للجميع». ولكن سمعت من أحدهم أن العنوان غير معروف وأنه سر يتداوله قلة قليلة من حول دائرة صنع القرار حيث يتم تغيير مكان النوم بشكل دوري. وأكد لهم أيضا أن باب المعاناة للناس في حلب مصدره واحد أحد وهو «ممارسات الجماعات الإرهابية». ووعدهم بأن حكومته «لن تخذل أهلنا ولن تتوانى عن ممارسة واجبها الدستوري والقانوني في طرد الإرهابيين من حلب». وطبعا يثير بعض المشككين أن خبرة الحكومة السورية ليست طويلة في ممارسة واجبها الدستوري والقانوني وقد تستعين بمجموعة خبراء من روسيا وإيران والعراق. فبعد تدمير حلب وطرد الإرهابيين منها ستمارس الحكومة واجباتها الدستورية والقانونية كاملة غير منقوصة على من بقي فيها على افتراض أنه سيبقى بها أحد.
فان بوهيمي، سفير نيوزيلندا، أحد مقدمي القرار، كان مشغولا بهم آخر. إذ قال «إن عدم قدرة المجلس على التصرف، على الرغم من الاحاطات الإعلامية الشهرية البيانية، والمناشدات المُلِحَّة على نحو متزايد من ستافان دي ميستورا وستيفن أوبراين وآخرين، مدمِّرة لسمعة هذا المجلس، وكارثية لشعب سوريا». سمعة المجلس هي الأهم. من العيب يا أبناء حلب أن تورطوا نيوزيلندا في مثل هذه الجهود الفاشلة التي ستضر بسمعة المجلس. ثم وجه صفعة للمندوب الروسي الذي اتهمه بأنهم لم يتشاور معه فخاطبه قائلا «وأود أن أذكر أنَّ أكثر وفد عملنا معه بكثافة، وأخذنا منه أكبر عدد من التغييرات هو وفد الاتحاد الروسي». فكيف يا سيد تشوركين تنكر أن الجماعة تعاونوا معك وقبلوا العديد من التعديلات من بينها تغيير فترة الهدنة من عشرة أيام إلى سبعة؟ وأهل حلب كانوا يتمنون لو أن الهدنة كانت عشرة ولكن من أجل خاطر بوتين تقبلوا فكرة السبعة أيام على مضض.
السفير الفرنسي، دي لاتر، تناسى أن بلاده استعمرت سوريا وجربت أن تقسمها إلى ثلاث دول واقتطعت جزءا عزيزا أهدته لتركيا. لكن يا جماعة هذه المرة فرنسا تريد أن تساعد الشعب السوري. لماذا لا تصدقوها وقد صوتت مع مشروع القرار «ما فعلته فرنسا اليوم، إلى جانب الغالبية العظمى من أعضاء المجلس، أنها تدرك المسؤولية الهائلة التي نضطلع بها لصون السلم والأمن الدوليين». ثم يبدو أنه اكتشف اكتشافا هاما إن روسيا، بتأخيرها المفاوضات لأطول وقت ممكن، ثم معارضة مشروع نص معتدل للغاية، قد اختارت أن تستمر في تجاهل نداءات المجتمع الدولي.
القدس العربي
معركة حلب: عندما تسقط بوابة العالم يخسر المقاتل مركزه ويرث الديكتاتور حطاما يسميه «سوريا المهمة”/ إبراهيم درويش
ماذا بعد حلب؟ هذا هو السؤال المعلق في الهواء على ألسنة المعلقين والمحللين السياسيين وسط صمت مريب على ما جرى في الجزء الشرقي من المدينة من انهيار للمعارضة المسلحة وتشتت المدنيين وتوغل الميليشيات الشيعية الموالية لنظام الأسد في معقل المقاومة السورية الذي سيطرت عليه منذ عام 2012. وبخسارته تصبح المعارضة بدون قلب أو مركز، ففي الشمال أقامت تركيا منطقة أمنية تهدف لمنع الأكراد التقدم في مناطق غرب الفرات وربط جيب عفرين مع الجيوب الأخرى. وفي الجنوب هناك الجبهة الجنوبية التي تتعامل مع الولايات المتحدة وغرفة العمليات العسكرية في العاصمة الأردنية عمان، وهي شبه مجمدة منذ عام بعد المفاوضات التي قام بها الروس نيابة عن نظام الأسد مع الأردن. ومن هنا فسؤال إلى أين ستذهب المعارضة يظل اشكاليا ومثيرا، فقد استخدم النظام السوري وحلفاؤه الروس منطقة إدلب الواقعة تحت سيطرة المعارضة كنقطة لإرسال كل المقاتلين وعائلاتهم الذين قبلوا تسليم السلاح بعد نجاح استراتيجية الجوع أو الركوع في تركيع المدنيين وإجبار المقاتلين على إجراء صفقات. وكما وصف دبلوماسي غربي إدلب بأنها مثل السلة التي يلقى إليها كل «البيض الفاسد» حتى يقوم الطيران الروسي بعد ذلك بضربه والتخلص منه. وتظل إدلب منطقة إشكالية، فهي واقعة تحت سيطرة تحالف من جبهة النصرة أو فتح الشام الموالية للقاعدة وأحرار الشام الجماعة ذات التوجه السلفي. وفي مسارات الأزمة السورية تجد المعارضة اليوم نفسها على مفترق طرق وتدرس خياراتها وسط أسئلة عن الانهيار. فقبل فترة كانت عصية على الهزيمة وقادت في الأشهر الماضية هجوما مضادا ضد قوات النظام في حلب الغربية وإن لم يكن ناجحا. والأسئلة عن الانهيار تتراوح بين الصفقات السرية والخيانة وفقدان القدرة على الصمود بسبب توقف الامدادات. وكانت صحيفة «فايننشال تايمز» (1/12/2016) أشارت لمفاوضات برعاية تركية بين رموز سياسية في المعارضة والروس بعيدا عن الولايات المتحدة التي بدت خارج اللعبة لوقف القتال. وجاء الحديث وسط تقدم للقوات الموالية للنظام السوري ولهذا لم يكن في وارد هذا الطرف البحث في اتفاقيات هدنة أو إطلاق النار وهو الذي ظل يخرقها دائما.
ولا شك أن هناك أسئلة كثيرة تثار حول موقف أنقرة من حلب، فهناك من تحدث عن تفاهمات تركية-روسية حول المدينة مقابل نفوذ تركي في المناطق الحدوية بين البلدين. وهناك من برر الموقف باعتباره تحولا في السياسة الخارجية الذي يؤكد على المظاهر الأمنية لا الايديولوجية ونشر النموذج التركي في دول الربيع العربي كما ناقش غالب دالي في «فورين أفيرز» (24/11/2016). وفي ضوء هذ التحول لم تهرع تركيا إلى نجدة المقاتلين السوريين في حلب وتركتهم يواجهون قدرهم لوحدهم. ويعتقد أرون لوند من موقع «سيريا إن كرايسيس» في مركز كارنيغي للسلام العالمي (2/12/2016) أن دخول تركيا إلى سوريا تم بتفاهمات مع روسيا لتقاسم النفوذ في الشمال وجاء بعد تحسن في العلاقات بين البلدين والتي ساءت عقب إسقاط الطائرة الروسية العام الماضي ومن هنا فلن تلجأ أنقرة أو موسكو إلى خطوات تعكر صفو العلاقات من جديد. وأيا كان فلو كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حريصا على دعم المعارضة لما انتظر حتى دخول قوات الأسد من أجل إنقاذها. ولا شك كما يقول لوند أن المستقبل يبدو قاتما أمام المعارضة التي لم يعد لديها مركز انطلاق وأصبحت خياراتها صعبة ما يجعل من تحقيق النصر الذي كان قويا قبل سقوط حلب أمرا صعبا في الوقت الحالي. وما يعقد الوضع هو وصول رئيس للولايات المتحدة للسلطة ولا يعرف أحد بعد توجهاته السياسية سوى تصريحاته التي أكد فيها على عدم اهتمامه بمعارضة لا يعرفها ولم يستبعد التعاون مع روسيا في قتال تنظيم «الدولة». وفي ضوء هذا كله، هل سيعود المقاتلون من جديد إلى أسلوب حرب العصابات ويقومون بشن هجمات على النظام والروس والميليشيات الشيعية أم سيتحالفون مع الجماعات الجهادية مثل فتح الشام وأحرار الشام؟ ونقلت صحيفة «واشنطن بوست» (3/12/2016) عن قادة في المعارضة تعبيرهم عن حالة إحباط من موقف الولايات المتحدة التي رفضت تسليحهم بأسلحة نوعية لمواجهة عدو مسلح بشكل جيد. وقال أحدهم إن «أمريكا لن يكون لها تأثير على المقاتلين لو أجبروا (للانسحاب) إلى إدلب» ومن هنا قد تجد الإدارة المقبلة مبررا أكبر لوقف الدعم عن المعارضة المعتدلة كليا نظرا لوجود أكثر من 10.000 مقاتل تابع لجبهة فتح الشام والمصنفة إرهابية. وفي ظل ما يراه الجنرال المتقاعد مايكل فلين، رجل دونالد ترامب المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي فإن موقف الإدارة المقبلة سيتغير كليا من المعارضة، ذلك أن فلين يرى أن التعاون بين الجماعات السورية المعتدلة والمتطرفين بدأ على المستوى العملياتي منذ وقت طويل. وقال «عندما لا تكون موجودا وتساعدهم فسيبحثون عن طرق أخرى لتحقيق أهدافهم» في إشارة للدعم المتردد والمتفرق الذي قدمته الولايات المتحدة للمعارضة، سواء عبر برامج التدريب والتسليح التي أشرفت عليها «سي آي إيه» وتلك التي أشرفت عليها البنتاغون وكلاهما أثمر ثمارا متواضعة.
دور القوى الخارجية
ويرى أوري فريدمان في مجلة «ذا أتلانتك» (8/12/2016) أن قصة حلب هي مثال عن الطريقة التي تتصارع فيها إرادات القوى الخارجية وتسهم في تسعير الحرب ومن ثم ترفض بذل الجهود لوقفها. فمقابل الجهود العسكرية التي بذلها حلفاء الأسد خاصة منذ العام الماضي قطع رعاة المعارضة عنها شريان الدعم إما عن تردد أو انشغال بحروب أخرى مثل السعودية أو تغير في أولويات السياسة كما شاهدنا مع أنقرة. ومن هنا فسيطرة نظام بشار الأسد على حلب وهو الذي كان على حافة الانهيار قبل عام هو انتصار له ولفلاديمير بوتين الذي جيش قواته وطائراته ولإيران ولميليشياتها. وستكون معركة حلب نقطة تحول في مسار الحرب الأهلية السورية التي مضى عليها ستة أعوام تقريبا ومسار المنطقة بالضرورة. فمن ناحية الأسد، تعني حلب وإن كانت جثة هامدة ومنطقة مفرغة من السكان مثلها مثل حمص وداريا وكل المناطق التي خرجت منها المقاومة، استعادة السيطرة على ما يراه أندرو تابلر من معهد واشنطن الذي كتب مقالا مشتركا مع المبعوث الأمريكي السابق للشرق الأوسط في «فورين أفيرز»(25/11/2016) هو استعادة لسوريا «المهمة» أو «الضرورية» أي سيطرة النظام على معظم المراكز الحضرية باستثناء إدلب وبالضرروة على غرب سوريا. وهذه مهمة للنظام فالمنطقة تؤمن ما تبقى من دولته وتؤمن طرق نقل السلاح الإيراني إلى حزب الله في لبنان وتحافظ على القواعد العسكرية في غرب البلاد. على المستوى الإقليمي يعتبر ما جرى في حلب والحرب الأهلية السورية عموما نتاجا لتحولات ما بعد الحرب الباردة.
ففي دراسة أعدها كريستوفر فيليبس من كلية كوين ماري- لندن ناقش فيها أن الانتفاضة ثم الحرب الأهلية السورية هي نتاج عوامل عدة منها تراجع الهيمنة الأمريكية بالمنطقة وفشل غزو العراق ما بين 2003- 2011 وتراجع أهمية النفط الخليجي بالإضافة إلى خفض النفقات العسكرية والتقشف الاقتصادي الذي تبع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 ومن ثم انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة الذي وصل للرئاسة على ورقة معارضة الحروب «الغبية» في العراق وجاء إلى البيت الأبيض بأجندة إنهاء الحروب ومنع تورط الولايات المتحدة في حروب جديدة.
وسمحت هذه الظروف منفردة أو مجموعة للاعبين إقليمين بالدخول وملء الفراغ والتنافس على سوريا والعراق إذ تحولا لساحة نزاع لتصفية حسابات أو الحصول على جوائز. وفي هذا الإطار نشطت كل من تركيا وإيران والسعودية فيما عادت روسيا إلى المنطقة بعد غياب طويل وبدأت تؤكد حضورها في سوريا وليبيا ومصر وتقيم علاقات مع دول المنطقة وتقدم نفسها كصديق للذين شعروا بالخيبة من الحليف الأمريكي التقليدي.
ويرى فيليبس أن الولايات المتحدة لا تزال اللاعب الأقوى في المنطقة مع أنها لم تعد تتمتع بالنفوذ السابق نفسه في العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي. ومن هنا حاول كل طرف دخل ساحة المنافسة تحقيق ما يمكن تحقيقه. وكان التنافس خطيرا حيث أسهم النزاع بين اللاعبين الإقليميين في تغذية النزاعات التي تحتاج لمساعدة أمريكية في حلها مثل الحرب السورية. فمن جهة كانت تركيا ودول الخليج طرفا في الحرب بالطريقة التي فشلت فيها إيران وروسيا بالتأثير على نظام الأسد وإجباره على تغيير سلوكه بل أصبحتا جزءا من أجندته الحربية نظرا لحرصهما على تحقيق أهدافهما السياسية. ويعتقد فريدمان أن نظاما جديدا في طريقه للظهور في المنطقة وهو وإن لم يبرز بسبب الحرب السورية إلا أن هذه كشفت عن الطابع الجهنمي للحرب التي ستنتهي بديكتاتور يحكم بلدا مدمرا وركاما ويحظى بدعم نظام مستبد في روسيا وحكومة ملالي في إيران ستجد الفرصة للتلاعب في شؤون المنطقة.
إيران والسعودية
ورغم دعوة صحيفة «التايمز» البريطانية (8/12/2016) المجتمع الدولي منع إيران وبالضرورة الأسد من الفوز في معركة حلب إلا أن النظام الإيراني وفي هذا العام استفاد كثيرا من تراجعات منافسته السعودية وتردد أوباما وانشغال أمريكا بمرحلتها الانتقالية بعد الانتخابات الرئاسية. وفي مقال للمحلل بمعهد بروكينغز، بروس ريدل بموقع «المونيتور»(7/12/201) قال فيه إن عام 2016 هو عام ترغب السعودية بنسيانه نظرا لما واجهته من مصاعب اقتصادية وانخفاض في سعر النفط وتورط في حرب اليمن وتوتر علاقاتها مع حلفاء مثل مصر التي كانت النجاح الأكبر للرياض في مرحلة ما بعد الربيع العربي. وأشارت مجلة «إيكونوميست» (10/12/2016) إلى انجازات إيران على حساب التراجعات السعودية من لبنان إلى العراق واليمن وسوريا ومصر التي بدأ رئيسها عبد الفتاح السيسي بالتقارب مع النظام السوري وحتى الإيراني بالإضافة للعلاقة مع روسيا رغم تلقيه مليارات الدولارات كدعم من السعودية ودول الخليج لحماية نظامه. وقالت المجلة ان تراجع حظوظ السعودية مرتبط بالدعم الكبير الذي قدمته إيران للشيعة العرب سواء في العراق ولبنان واليمن وكذا دعم حلفائها في سوريا. وقالت إن السعودية خسرت القوة الناعمة أيضا والتي دعمت من خلالها أنظمة في مصر وحاولت بناء قوة لها في لبنان حيث قبل حليفها هناك سعد الحريري بمنصب رئيس الوزراء مقابل الموافقة على مرشح حزب الله للرئاسة اللبنانية، العماد ميشال عون. بعيدا عن الحسابات الإقليمية فكارثة مدينة حلب التي جرت تفاصيلها والعالم يتفرج تعبر بالضرورة عن خيانة واضحة للمدنيين وستلطخ الكارثة ضمير العالم لسنوات مقبلة. ووصفت صحيفة «الغارديان» (1/12/2016) المشهد الحزين في حلب قائلة «آباء متعبون يحملون أطفالهم الخائفين ويدفع الشبان الصغار الكبار في العمر على عربات بسيطة أو كراسي متحركة ـ أما العائلات فتجر حقائبها المتخمة» فهذا «الخروج» الجديد من حلب الشرقية.
وقالت الصحيفة أن ما آل إليه الحال في حلب هو تجسيد لفشل السياسة الغربية ويعد إهانة للأمم المتحدة ويمثل سقوطها بيد النظام انتصارا للاستراتيجية الروسية. وستنضم حلب إلى القائمة سيئة السمعة التي ارتبطت بالجرائم الجماعية والتي ارتكبت أمام نظر العالم وتحت سمعه: «سبرينتشا وغروزني وغرنيكا». قالوا دائما «لن يحدث هذا» وها هو يحدث «الآن وهنا في غرب المتوسط» وفي حلب مدينة الصور والمسجد العظيم والسوق القديم الذي كان، والكبة الحلبية وقلعة سيف الدولة وطريق الحرير والخوذ البيض وعمران دنقيش.
القدس العربي
هدفا حزب الله بعد حلب/ منير الربيع
الجيش السوري وحزب الله سيتوجهان إلى مدينة الباب للسيطرة عليها
سياسياً، تعني سيطرة النظام السوري بدعم من روسيا وإيران وحزب الله على مدينة حلب، أنها مفصل أساسي في تطورات الأوضاع السورية. ترتكز روسيا وإيران على نتيجة هذه المعركة للاستثمار السياسي، ولأجل الذهاب نحو مسار جديد من المفاوضات قائم على أساس الرؤية الروسية والإيرانية في شأن بقاء النظام السوري واستمراره. لكن، ماذا بعد حلب عسكرياً؟ الأكيد، أن المعارضة لن تستسلم، ولن توقف حراكها السياسي أو السلمي أو العسكري.
صحيح أن بقاء أعداد من مسلحي المعارضة في الأحياء الشرقية لمدينة حلب والإصرار على عدم التسليم والخروج، يعتبر تمسكاً بالثورة ونهجها وثوابتها، لكن بالمعنى السياسي فإن ثاني أكبر محافظة في سوريا تكون قد خرجت من الحسابات السياسية للمعارضة. لكنها عسكرياً تبقى قائمة خصوصاً في ظل استمرار سيطرة المعارضة على محافظة إدلب وأجزاء واسعة من الأرياف الحلبية سواء لجهة الشمال والشرق، والريف الجنوبي الذي يربط عاصمة الإقتصاد السوري بمحافظة إدلب.
منذ بدء عمليات التهجير الممنهج الذي تعرّضت له مناطق سورية عديدة، كانت الوجهة الأساسية للمدنيين والمسلحين المعارضين للنظام، هي محافظة إدلب. وقد أصبحت هذه المحافظة تغص بأعداد السوريين المهجرين قسراً من مناطق مختلفة. ووفق مصادر مطلعة على قرار حزب الله، لا يمكن لهؤلاء المسلحين البقاء في إدلب في ظل هذا التوسع الذي يحققه الجيش السوري وحلفاؤه. وبالتالي، فإن الخيار أمام هؤلاء الآن، أو على المدى الطويل، سيكون إلقاء السلاح وتسليم أنفسهم أو مواجهة مصيرهم المحتوم. وأكثر من ذلك، ثمة من يتخوف من أن تتحول إدلب مقبرة أو محرقة لكل معارضي النظام السوري.
وتلفت المصادر إلى أنه هدفين لحزب الله بعد إنهاء العملية العسكرية لأحياء حلب الشرقية، هما التوجه نحو الريف الشرقي، وتحديداً في اتجاه مدينة الباب للسيطرة عليها، ولرسم خط أحمر أمام عملية درع الفرات التي تقودها تركيا. وذلك، لوقف التوسع التركي في اتجاه العمق السوري.
عملياً، تصر تركيا على الوصول إلى الباب والسيطرة عليها. وتعتبر المصادر أن عملية درع الفرات كانت، وفق ما أعلنه الأتراك، محددة بنحو عشرة كيلومترات في اتجاه العمق السوري، لكنها الآن تخطت هذه المساحة، وإذا ما وصلت تركيا إلى الباب فيعني أن شرق حلب سيكون مهدداً من جديد من قبل فصائل المعارضة. وهذا ما ترفضه روسيا وإيران وحزب الله. وترى المصادر أنه لا يمكن لتركيا اتخاذ هذه الخطوة لأنها ستكون بمواجهة مع الروس، وهي غير قادرة على ذلك. ومن هذا المنطلق، فإن الجيش السوري وحزب الله سيتوجهان إلى مدينة الباب للسيطرة عليها، بهدف تأمين خط دفاع أول عن المناطق التي سيطرا عليها.
كذلك، لدى الحزب اهتمام بحماية “إنجازاته” في حلب، وفق المصادر، وستتوجه قواته نحو الريف الجنوبي للمحافظة وتحديداً نحو الطريق الدولية التي تربط حلب بإدلب، أولاً لتضييق الخناق على المعارضة التي بقيت في أحياء حلب وقطع أي طريق إمداد لها عبر إدلب؛ وثانياً بهدف التمركز على مشارف إدلب، تمهيداً لأي عمل عسكري قد يعتزم الحزب والجيش السوري إطلاقه في المعقل الأساسي للمعارضة.
المدن
ماذا بعد «حلب ـ غراد»؟/ باسم الجسر
ابتهاج النظام السوري بدخول قواته إلى حلب القديمة بعد أن مهد الحلف الروسي – الإيراني لها الطريق، لا يعني أنه تغلب على المعارضة والثورة الشعبية العارمة التي تقاومه منذ ست سنوات. وحتى لو أن الحلف الدولي تمكن من القضاء عسكريًا على «داعش» في سوريا والعراق؛ فإن معظم المراقبين مجمعون على القول بأن الإرهاب سيستمر، ولكن بأشكال وأبعاد جديدة. ويستصعب الجميع على النظام الحاكم اليوم في سوريا، وخاصة رئيسه، الاستمرار في حكم شعب قتل منه مئات الألوف ودمرت مدن بأسرها وتشرد الملايين من أبنائه.
المعركة، إذن، مستمرة. وإن كان «اللاعبون» تغيروا، أو زاد عددهم أو نقص.. وسواء تلاقت مصالحهم أو تعارضت، ولا سيما أن الصراع أو بالأحرى الصراعات الدائرة في المنطقة، وفي سوريا خاصة، لم تعد وطنية أو قومية أو مذهبية وحزبية فحسب، بل باتت أيضًا إقليمية ودولية.
الجميع ينتظرون موقف الرئيس الأميركي الجديد مما يحدث ويعلقون بعض الآمال على «الغزل» المتبادل بينه وبين الرئيس الروسي. ولكن المصالح الكبرى الأميركية والروسية في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط أكبر من أن يقررها «الاستلطاف المتبادل» بين الرئيس الأميركي الجديد الآتي بأفكار ومشاريع جديدة، وبين الرئيس الروسي الدائم، والمصفي في مشاركته في الحرب السورية حسابات تاريخية دينية مع الشرق، وعقائدية اقتصادية عصرية مع الغرب.
ثم إن هناك على هامش الحرب على الإرهاب، و«داعش» خصوصًا، وعلى المعركة بين النظام السوري ومعارضيه الثائرين عليه، بل في صميمها، صراعات ومصالح إقليمية عناوينها: تركيا والأكراد، إيران ومشروعها للهيمنة، اليمن والدعم الإيراني للحوثيين. ولا ننسى الحلف السعودي الدولي لمقاومة الإرهاب، وتصميم المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي على صد وإحباط مشروع الهيمنة الإيرانية على المنطقة. ولا معركة عالمية جديدة لا بد من كسبها أو تلافي تضاعفها ونعني «النقزة» الغربية الأوروبية – الأميركية من المسلمين والإسلام من جراء العمليات الإرهابية التي تعرضت لها بلادهم وكان منفذوها من أتباع أو أنصار «داعش». وهي عمليات أضرت بملايين المسلمين المقيمين في الغرب، وباتت تهدد بوصول أحزاب يمينية قومية إلى الحكم في الدول الغربية تحت شعار «الدفاع عن القيم والحضارة الغربية المسيحية». وما قد يترتب عن ذلك من تردي العلاقات وربما صدام بين الشرق والغرب.
أكثر من سؤال ارتسم أمام مراقبي الأحداث بعد التطور الميداني الذي شهدته مدينة حلب القديمة، لعل أهمها ثلاثة؛ الأول هو عن موقف الرئيس الجديد للولايات المتحدة من الصراعات في سوريا؟ وهو سؤال بات مفروضًا عليه الإجابة عنه نظرًا لمواقف سلفه الفاترة والمحيرة. والثاني هو عن إمكانية، إن لم نقل ضرورة توحيد موقف الدول الكبرى الثلاث، ونعني مصر والسعودية وتركيا من الصراعات في سوريا والمنطقة. والثالث وهو العثور على الطريق الصحيح والطريقة الناجعة للقضاء على جذور الإرهاب غير – أو بعد – اللجوء إلى القوة العسكرية. وقد يكون هذا هو السؤال الصعب الجواب عنه.
لقد تعرض الرئيس الأميركي المنتهية مدته أوباما لانتقادات قاسية على موقفه المائع أو الحائر من الصراع في سوريا. ولكنه لم يشأ ارتكاب الخطأ الفظيع الذي ارتكبه سلفه بوش في غزوه العراق. أما الرئيس الروسي بوتين فقد انتهز فرصة استنجاد النظام السوري به كي يهرع ليدخل الساحة السورية من الباب الكبير ويقيم قاعدة عسكرية على شاطئ البحر المتوسط، محققًا حلمًا روسيًا تاريخيًا بالوصول إلى المياه الدافئة، وممسكًا بورقة يقايض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بها ردًا على تمددها إلى حدود بلاده وفرض عقوبات عليها.
الرئيس الأميركي الجديد قد لا يرسل قوات أميركية إلى سوريا أو الشرق الأوسط تلافيًا للاصطدام بالقوات الروسية، ولكنه لن يدع إيران وروسيا تكسبان الحروب فيهما. وفي الوقت الذي كانت قوات النظام السوري تدخل حلب القديمة كانت واشنطن تتحدث عن تزويد المعارضة السورية بصواريخ أرض – جو. أما الدول الأوروبية، ولا سيما فرنسا وبريطانيا وألمانيا، فلن تبقى مكتوفة الأيدي متفرجة على المناورات الروسية والأميركية. ومن دلائل اهتمامها حضور رئيسة وزراء بريطانيا إلى الخليج لحضور مؤتمر قمة دول مجلس التعاون الخليجي، وما تبذله فرنسا وألمانيا في سبيل وقف القتال في الشرق الأوسط لصد امتداد الإرهاب إلى أراضيها.
لا شك في أن «الكسب» العسكري والمعنوي الذي أحرزه الحلف الروسي – الإيراني – النظامي في حلب يعتبر انتكاسة للثوار والمعارضة السورية، أو معركة ربحها الحلف. إلا أن القتال في سوريا لن يتوقف ولا الإرهاب المرافق لها. ولا نغالي إذا قلنا إن ما من طرف من الأطراف المشاركة فيه يستطيع الجزم في مآله وحده. وأخطر من ذلك هو اختلاط أوراق المتقاتلين الدوليين والإقليميين، ولا سيما، ولسوء الحظ، الدول العربية.
وإنه من المبكر والسذاجة الاعتقاد بأن معركة حلب هي ستالينغراد النظام السوري ونقطة تحول في «حرب – الحروب» الدائرة في سوريا.
الشرق الأوسط