صفحات الرأي

تيار الإسلام السياسي وامتحان السلطة


الياس سحاب

ما ان انتهى العام المنصرم الذي شهد تحركات شعبية عربية عارمة هزت اركان انظمة عربية راسخة، وهدت أركان بعضها، حتى تصدر المشهد السياسي العربي وصول عدد وافر من حركات الاسلام السياسي الى سدة السلطة، أو اقترابه من مواقع السلطة، في كل من تونس ومصر والمغرب وليبيا واليمن، وبعد ان كان قد سبق الى صدرارة المشهد السلطوي في كل من العراق والسودان، وبعد ان ظهرت اشارات الى انه سيلعب دورا مركزيا في السلطة في سوريا، مهما كانت التحولات القادمة.

هذا المشهد السياسي المتدفق بكثافة في كل ارجاء الوطن العربي، دفع ببعض السياسيين العرب الى التأكيد بأن الربيع العربي قد تمخض عن تقدم حركات الاسلام السياسي الى السلطة. لكن من ابرز ما احدثه هذا التحول العارم، على الصعيد الفكري، وليس فقط على الصعيد السياسي، تلك الحيرة العارمة التي شملت اوساط التيار العروبي التقدمي، والتيار اليساري، عن شكل الموقف الاشد حصافة ونجاعة، والاقرب الى المصلحة الوطنية العامة، على الصعيدين الفكري والسياسي:

– هل هو اقامة نوع من الحوار والتحالف مع حركات التيار الاسلام السياسي حيثما وصلت الى السلطة؟

– أم هو التفرغ لتجديد المشروع النهضوي القومي التقدمي، على خط متمايز تماما ودون اي لبس او ميوعة، عن مشروع الاسلام السياسي؟

الحقيقة ان المشهد جديد بالكامل، فلم يسبق ان تقدمت حركات الاسلام السياسي، الى صدارة المشهد السلطوي العربي، كما تفعل الان، بل انها كانت في معظم، ان لم يكن في جميع المراحل السابقة في التاريخ العربي المعاصر، في موقع الاستبعاد الى حد احتلال موقع الضحية أحيانا، ولعل هذا الوضع السابق المستديم تقريبا، هو جزء من مسؤولية الزخم الحالي لحركات الاسلام السياسي في الانتخابات، هنا وهناك.

لكن للمشهد خلفية لا يكتمل ويتعمق فهم المشهد من دونها، وهي ان انظمة عربية راسخة قبل الربيع العربي بزمن طويل، هي بالذات انظمة دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، قد قدمت مشهدا سابقا فيه الكثير من التداخل بين السلطة السياسية ومفاهيم الاسلام السياسي، خاصة نظام المملكة العربية السعودية، زعيمة الخليج العربي، حيث يقوم الوضع منذ تأسيس النظام السائد حاليا، على تحالف بين قوة السلطة السياسية، وقوة المذهب الوهابي. واذا اضفنا الى هذه البنية الاساسية في تكوين انظمة الخليج العربي، ان النظام السعودي قد لعب الدور المركزي بل الاساسي في تحريك ودعم وترسيخ الانتقال بمصر، اكبر واهم الاقطار العربية، من نظام ثورة المشروع القومي العربي التقدمي لعبد الناصر، الى نظام الثورة المضادة، الذي توج باخراج مصر من صدارة الصراع العربي- الاسرائيلي، الى موقع الحليف الاستراتيجي (بل الكنز الاستراتيجي) للمشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة فان في ذلك اكثر من اشارة عملية الى ان الموضوع من اساسه ليس مشهدا عربيا جديدا، بل هو مرحلة متقدمة من مشهد قديم.

على اي حال، فلنكن عمليين الى آخر مدى، ونقول ان بالامكان تأجيل النقاش الفكري بشأن هذه المسألة، فامامنا مشهد سياسي عملي شديد الاغراء: ها هي حركات الاسلام السياسي اخيرا في صدارة المشهد السلطوي العربي، من المحيط الى الخليج. وها نحن امام ذروة التحديات التاريخية مع التخلف والتجزئة من جهة، وتحكم المشروع الصهيوني على ارض فلسطين، في ذروة تهويد فلسطين بالكامل وتصفية قضيتها، والاستيلاء حتى على اماكنها المقدسة اسلاميا.

انها فرصة تاريخية، برأيي، يمكن للتيار القومي العربي التقدمي التصرف ازاءها بصبر تاريخي بهدوء استراتيجي. فها هو تيار الاسلام السياسي بقضه وقضيضه، بتغبيراته القديمة والجديدة، يعتلي تباعا مواقع السلطة السياسية. اي ان ساعة الامتحان السياسي والحضاري الكبير قد دقت لهذا التيار، لنراقب ماذا ستكون حقيقة موقفه من المشروع الاستعماري والصهيوني، وقد شارف على ابتلاع فلسطين بكاملها؟ ماذا سيكون الموقف من تحديات دخول العصر الحديث، باعلاء صيغة السيادة السياسية للشعب وليس للسلطة التي ما هي- في العصر الحديث – سوى موظفة لدى هذا الشعب؟

ماذا سيكون الموقف العملي من الحريات العامة: حرية العقيدة الدينية، حرية التعبير السياسي، حرية الابداع الفني في كل مجالاته. لم يعد النقاش النظري هو الاجدى في كل هذه المسائل المصيرية، بل المواقف العملية.

هنا، قد يقول قائل ان دلائل الاشهر الاولى لغالبية التيار الاسلامي في مجلس الشعب المصري تشير منذ الان الى اتجاه لا يبشر بالخير، واقول ان هذا ادعى الى الصبر والمتابعة والمراقبة، انها مرحلة جديدة انفتحت ابوابها على مصاريعها، وهي قد تستغرق سنوات. اما ما يشجع على الصبر والاناة ومراقبة الواقائع العملية، لا النقاش النظري، فهو ان الارادة الحرة لجماهير الشعب العربي في كل مكان، قد حررتها الى الابد نار البوعريزي المشتعل في تونس، وثورة ميدان التحرير في القاهرة. قد تكون المعاناة طويلة، وقد يكون الثمن باهظا، لكن جماهير الشعب العربي في كل مكان، بدأت تمسك من الآن فصاعدا زمام مصيرها ومستقبلها. وكل القوى السياسية من الآن فصاعدا امام الامتحان الكبير، داخل السلطة وخارجها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى