عودة المشروع النهضوي العربي/ د. طيب تيزيني
يعود المفكر العربي نجيب عازوري ثانية، إلى قلب الأحداث وأكثرها خطورة وحسماً، بعد مرور قرن وعقد من السنين على صدور كتابه «يقظة الأمة العربية» عام 1905م، فهي مرحلة مديدة وعامرة بالأحداث الكبرى والصغرى، مع ما أحاط بها من تحولات عالمية وإقليمية وداخلية في العالم العربي. ونشير هنا إلى أننا إذ نعود إلى المفكر المذكور وكتابه، فإننا نأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحدث، الذي نكتب هذه المقالة في سياقه التاريخي. أما عازوري فقد عاصر الحدث وعمل على استشراف آفاقه، وهو التأسيس لمشروع يهودي صهيوني! وتابع عازوري معلناً أن مصير هاتين الحركتين (أي الأولى اليقظة العربية، والثانية الحركة الصهيونية) هو أن تتعاركا باستمرار، هي تنتصر إحداهما على الأخرى.. وبذلك يتعلق مصير العالم بأجمعه.
كان ذلك، كما أشرنا، وبعد مرور أحد عشر عقداً، حققت في النهاية إسرائيل دولتها الصهيونية، بينما ما زال الفلسطينيون ممنوعاً عليهم أن يؤسسوا دولتهم المستقلة. ولكن العرب لم ينهزموا أمام إسرائيل فحسب، بل دخلوا في مرحلة جديدة من التوعد من قِبل خصوم قدامى جدد، هم الإيرانيون الذين جاءوا بمشروع آخر لا يكتفي أصحابه بهزيمة أحد تجليات العالم أو الأمة العربية، وإنما هم يسعون إلى هزيمة الشعوب العربية جميعاً منذ عام 1979، وفي كثير من المناسبات، يعلن إيرانيون رسميون أن بأيديهم حتى الآن.. أربع عواصم لبلدان عربية، وهذا يعني: الحبْل على الجرّار!
ونرى أن إيران تنطلق من زاويتين اثنتين، هما هزيمة التاريخ المتمثلة بهزيمتها في معركة القادسية أمام العرب المسلمين، أولاً، وهزيمة «الآخرين المعاصرين» من عرب وغربيين ثانياً. ولذلك، جاءت الثورة الإيرانية في عام 1979 بمثابة مواجهة للجميع، الذين يرفضون هيمنتها. وعلى هذا الأساس، جاء المبدأ الإيراني المتصل بالعلاقة مع الآخرين، قائماً على «تصدير الثورة الإيرانية إلى بلدان العالم»، أما النظام الذي ينطلق منه «الثوار الجدد» فهو ذاك المنطلق من نظام الملالي، أي نظام يستند إلى تراتبية قطعية تنتهي بـ«الإمام الأعلى»، وطريف أن هذا يتأسس على المبدأ النظري المنهجي المطلق، القائم على أن منْ ينتمي إلى ذلك النظام فهو إما من «المحرومين» وإما من «الحارمين الظالمين»، وعلى هذه الثنائية تتأسس مهمة تحرير عالم المحرومين من قبضة عالم الحارمين، ويتحدد المبدأ التأسيسي الإبستيمولوجي لكل الأكوان والأشياء في تلك الثنائية القاطعة، أن تكون محروماً، أو أن تكون حارِماً، أما من يحلّ هذه الثنائية، فهم المحرومون القابعون في مواقع القرار. والدال في ذلك يتمثل في أن مجتمع المحرومين المحرَّرين من قبل قيادات الملالي يصبح هو نموذج المجتمع السعيد، والمثل الأعلى للبشرية.
وحتى لا يقف أحد في وجه التأسيس لهذا المجتمع، فإنه يغدو مطلوباً أن يُنظّف ذلك المجتمع من كل ما يُعيق وجوده المتجانس، مما يترتب عليه أن يكون خالياً من «الشوائب» المتجسّدة، مثلاً، يطمح إلى أن يحكم المجتمع ومن يعبّر عنه ويمثله. وإذا ما اتضح أن هنالك «شوائب» أو انحيازات يعبّر عنها في المرجعيات الإدارية والسياسية والمجتمعية العامة، فإنه يلزم فعل ما يجوز فعله: الوقوف في وجهه واجتثاثه من المجتمع. وهذا ما عبر عنه السيد خامنئي ونُقل عنه من قِبل قنوات التلفزيون -قناة العربية- في تاريخ 21 من هذا الشهر الأول من عام 2016. فقد طالب «بعدم السماح للمعارضين بالترشح للانتخابات البرلمانية»، هكذا بوضوح.
نعم، هكذا الأمر على الضفة الأولى، أما على الضفة الثانية فالأمر أصبح واضحاً لمن يحب أن يوجه للعرب، هؤلاء البؤساء «المحرومين» من قبل من تحكمهم -في الأغلبية الكبرى- من جماعات الآخذين بزمام الحكم ضمن معظم العالم العربي. أما الآلية المُقننة المستخدمة في سبيل تحقيق ذلك، فقد أفصحت عن نفسها بقانونية الاستبداد الرباعي، أي الاستئثار بالسلطة وبالثروة وبالمرجعية المجتمعية والاستئثار بالإعلام العام والخاص.
إن ما قدمه نجيب عازوري جواباً على الاستفزاز الصهيوني التاريخي، أصبحت هنالك حاجة كبرى إليه لفعل ما لم يفكر فيه العرب حتى الآن، إنه التأسيس لعالم عربي اتحادي، وليس موحداً، وذلك ربما من قبيل نظام سياسي فيدرالي، مع التنبيه لما لم ينتبه إلى أهميته الزعيم جمال عبدالناصر، مجتمع أو مجتمعات مؤسسة من موقع مجتمعات مدنية وذات نظم سياسية مؤسسة على مبدأ التداول السلمي للسلطة، إضافة إلى دولة عصرية محكومة بدستور أو دساتير ديمقراطية فاعلة، وبانتخابات حرة لكل المؤسسات وغيره.
إن احترام التاريخ الثقافي العربي، ومن ضمنه المفكر الرائد نجيب عازوري، مفيد في كثير من المهمات، ومنها العودة إلى عازوري في سياق ما يمكن تصويبه وتطويره وتعميقه. وهنا يأتي الجواب الغائب الحاضر، الآن وليس غداً، لأن إرجاء ما هو مطروح اليوم يفقد كسب رهان المستقبل الكثير من الفرص الممكنة.
الاتحاد