غالب ومغلوب..
ياسين السويحة
قدر الثوراتِ أن تكون أشدّ أنواع الصراعاتِ صعوبة، فهي الأكثر جذريّة والأقدر على إحداث تغيير في بنيان المجتمع وتبديل نظام حكمه السياسي واﻻقتصادي. ليس كلّ صراعٍ على السلطة ثورة، كما أنّ آليّة تعريف الغالب والمغلوب وتحديد نمط العلاقة المركّبة والمعقّدة بينهما شديدة الأهميّة بقدر صعوبة مقاربتها نظرياً وفكرياً عندما يكون المناخ السائد خانق الحرارة وغزير الدم والألم، ويصبح الحديث عن “أخلاق الثوّار” إما متهماً بالرومانسيّة والطوباوية من قبل الأصوات المتطرّفة أو أداةً بيد من عادى الثورة ومن قام بها أصلاً واتخذ اﻻنتهاك المفترض للأخلاق الثوريّة حجّة تبرر موقفه. الواقع أن خارطة الطريق المرسومة أخلاقياً ليست فقط مثاليّة في سلوكها، أو طريقة لسدّ الدّرب أمام الطاعنين في مشروعيّة الثورة (فهذا دربٌ لن يُسدّ إطلاقاً) وإنما هي، على المدى المتوسط والبعيد، وحتّى القريب غالباً، الطريق الأكثر أماناً واقتصاداً للألم في مسير تغييرٍ ثوري ﻻ يمكن التهرّب من دفع ثمنٍ يتناسب طرداً مع وحشيّة اﻻستبداد الذي يحارب.
…
تكمن صعوبة مقاربة المسائل الأخلاقيّة الثوريّة في نقطتين، الأولى تخصّ اللغة والمنهج المستخدمين. ليس سهلاً للتعبير الفكري أﻻ يبدو سفسطائياً أو “تنظيرياً” (بالمعنى السلبي المتداول للمصطلح) وسط ظروف من القهر والقمع بالغة القسوة والدمويّة كتلك التي تحدث في سوريا، كما يسهل أن تبدو المقاربة الفكريّة وكأنها تشرّط نخبوي على “الرعاع” مقابل التضامن مع كفاحهم وتضحياتهم في سبيل حقوقهم وحرّياتهم. السبيل لتجنب هذين المطبّين متعرّج ووعر، كما يقتضي شجاعةُ وقدرة على السباحة عكس التيّار أحياناً (سمير قصير قارئاً بياناً ضد اﻻعتداءات على العمّال السورييّن في لبنان أمام حشد المتظاهرين ضد الوجود السوري مثالٌ ساطع)، لكنّه، قبل أغلب الأدوات الأخرى، يحتاج إلى مقاربة مسببات ودوافع بروز مظاهر غير مرغوبة أو معاكسة للمراد الأخلاقي الثوري. إن البحث عن أسباب هذه المظاهر ليس تبريراً لها، إنما محاولة لفهم منبعها واجتثاثها من هذه الجذور، وفي علوم اﻻجتماع والسياسة (وعلم النفس!) ما يكفي من الأدوات لمعرفة منبت الظواهر المنحرفة والعمل على تجفيفه. أمام هذه الوقائع ﻻ يبدو التشبّث بمقولات عنصريّة ذاتيّة من طراز “العقل العربي” أو “اللانسجام الجيني” بين العرب والمسلمين والديمقراطيّة إﻻ دفاعات مستحية عن استبدادٍ ﻻ نقاط ضوءٍ في مسيره الظالم والظلامي يمكن التشبّث بها.
…
إن الصراع مع اﻻستبداد بقصد إنهائه وإقامة بديل إنساني وديمقراطي، يحترم الحقوق والحرّيات والكرامات، هو صراع أخلاقي قبل أيّ شيء آخر، وفي هذا الصراع الأخلاقي مغلوبٌ حتمي هو اﻻستبداد. يبقى التحدّي كامناً في أﻻ ينتهي هذا الصراع إلى وجود مغلوبَين اثنين. هذا، بلا شك، أخطر الطرق..
ﻻ أدواتٍ لدى نظامٍ كالسوري امتهن القمع والإذلال والإفقار واﻻبتزاز ضد شعبه طوال عقود لدخول أي معركة أخلاقيّة مع أحد، وقد عرف هذا النظام مبكراً أن شعار “إسقاط النظام بكافة رموزه وإقامة نظام مدني ديمقراطي في دولة ذات سيادة تامة ولجميع مواطنيها” سلاحٌ فعّال ضد ظلاميته الفاشيّة، ولذلك عمل واجتهد، باستخدام البطش والقمع والقتل بشكل منفلت من كل عقال، على زحلقة نضالٍ في سبيل تحقيق هذا الشعار إلى صراع سياسي (بالمعنى السلبي المتداول للكلمة) حول إسقاط النظام فقط، وساهم قصر النظر لدى بعض الأصوات المعارضة المتطرّفة في مساعدة النظام على وضع الشطر الأول من الشعار، أي “إسقاط النظام” في مواجهة الشطر الثاني، أي “إقامة نظام مدني ديمقراطي.. الخ” بدل أن يكون كتلة واحدة ﻻ تتجزأ. بهذا الشكل اعتبر النظام أن هناك من سيقع، تحت ظل المزاودة على الآخرين بحجة عذاب الشعب السوري، وبناءً على بنيانٍ فكري- إيديولوجي مريض أصلاً، في فخ لحاق النظام في طريقه نحو إغلاق صراع أخلاقي خاسر له حتماً نحو صراعٍ سياسي تكون فيه الغاية مبررة للوسيلة، وتكون الغاية مختصرة فقط في سقوط النظام. هذه هي ساحة المعركة المفضّلة لدى النظام، والتمسّك برفض اﻻنجرار إليها بكل قوّة وعزيمة هو خيار ثوري بامتياز، بل أنه الخيار الثوري الأوحد..!
لذلك، ﻻ سبيل لتحويل صراعٍ ضد اﻻستبداد إلى ثورة إﻻ بمفصلة الصراع السياسي مع الصراع الأخلاقي، ونبذ كل الشعبويات والحجج التي تضع صراعاً مقابل آخر. ليس سهلاً، لكن.. متى كانت هناك ثورة سهلة في التاريخ؟
…
تخوض الثورات امتحانها الأخير، والأصعب، في نفس يوم نجاحها في إسقاط النظام السياسي اﻻستبدادي. يكمن هذا الامتحان في استخدام كل الوسائل الممكنة لكي يكون هناك غالب ومغلوب واضحين في كل الأصعدة، ما عدا على الصعيد الشّعبي. إن اليوم الذي نتحدّث عنه هو حجز أساسٍ في كتابة العقد اﻻجتماعي لدولة المستقبل (والتي نريدها ديمقراطيّة تساوي بين جميع مواطنيها)، ولذلك علينا أﻻ نبخس التفكير فيه واﻻستعداد له حقّه.
نكون كاذبين لو قلنا أن كل، أو حتّى أغلب، أنصار النظام السوري هم من المنتفعين منه، وقائل هذا الحكم، لو استثنينا محاكمة النوايا، على الأقل جاهل بقدرة الاستبداد على التأثير على الرأي العام الشعبي واختطافه، ﻻ سيما استبدادٌ كالسوري دام عقوداً أربع سيطر فيها بشكل كامل على ميادين العلم والثقافة والفكر وكل ما يخص الحقل العام، وبنى مفهوماً ابتزازياً للوطنيّة قائم على الولاء الأعمى له، أشبه بالتأليه. نعم، علينا أن نقر بأن للنظام قاعدة شعبية ليست منتفعة وﻻ مجبرة (بمعنى إجبار فوهة البندقيةّ)، كما أن هناك فئة ذات مخاوف وهواجس. قد ﻻ تكون مخاطبة الفئة الأولى ممكنة بأي طريقة، لكن التوجّه نحو الفئة الثانية ومعالجة أسباب توجسها ومخاوفها هو خطوة أكثر من ﻻزمة، حيث ﻻ يمكن أن تُحسم المعركة أو أي من جزئياتها دونها.
يوم زوال اﻻستبداد، ستكون العدالة وحدها مخوّلة بمحاكمة قيادييه ورموزه وأزلامه والمنتفعين (الحقيقيين) منه على ما اقترفت أياديهم الآثمة طيلة فترة اﻻنتفاضة الشعبيّة وطيلة العقود الأربعة الماضية. عدا عن ذلك، سيكون لدينا شعب واحد عليه أن يعي، قبل غيره، أنه واحد. ﻻ محاكم تفتيش ولا أشباهها، فكلّ فعلٍ يشبه اﻻستبداد هو جريمة بحق الثورة وبحق شهدائها.
هذا الطريق، الصعب والطويل، هو طريقنا، ﻷنه فعلياً هو الأقصر.
…
الغد لنا..