صفحات الرأي

الحرب الباردة في المنطقة العربية ميدانُها الدول الضعيفة/ سعود كابلي

 

طرح غريغوري غوس في ورقة نشرها مركز بروكنغز- الدوحة «ما وراء الطائفية: الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط» (تموز/ يوليو 2014) رؤيته بأن المنطقة أصبحت اليوم أسيرة حرب باردة بين السعودية وإيران، ساحتها دول انهارت أو ضعفت حكوماتها المركزية، مما فتح الباب لقيام الدولتين بالتواجه من خلال لاعبين محليين. فالمواجهة بين السعودية وإيران غير مباشرة ولا تعتمد على ميزان القوة العسكرية بينهما وإنما على قدراتهما في التأثير في سياسات الدول ساحات الصراع، من خلال حلفائهما على الأرض. وتدل المؤشرات إلى صحة ما ذهب إليه غوس، وأن ساحة الصراع توسعت لتشمل سورية ولبنان والعراق واليمن ولفترة وجيزة البحرين، إضافة إلى محاولة ايران اختراق مصر عقب ثورة 2011. في هذه الساحات تزداد المنافسة بين الدولتين بضراوة. ولعل مواقف كل من عُمان والكويت وقطر توضح حجم هذه الحرب الباردة وأبعادها، التي حدت بالدول الثلاث إلى اتباع سياسات وقائية توازن بين الطرفين، في ارتداد عن مقومات التحالف الأمني الخليجي كما حاول مجلس التعاون إرساءه عند تأسيسه، وهو ما يوضح شراسة هذه الحرب الباردة الصامتة بين الطرفين.

ورقة غوس الجديرة بالقراءة طرحت نقاطاً مهمة:

١- البعد الطائفي للصراع بين السنّة والشيعة ليس العامل الأساس بل هو مجرد انعكاس للصراع السياسي بين الدولتين على النفوذ في المنطقة. الطائفية هنا ليست سبباً للصراع وإنما مجرد آلية من آلياته.

٢- القوة العسكرية ليست عاملاً حاسماً في الصراع، إنما قدرات الدولتين على التأثير في سياسات الدول ساحات الصراع من خلال حلفائهما المحليين. لهذا السبب لم تنجح تركيا أو اسرائيل في لعب دور فعال، على العكس من قطر التي استطاعت إيجاد بعض الحلفاء لها على الأرض.

٣- ساحة الصراع لا ترسم من أعلى الى أسفل، وإنما بشكل تصاعدي من الأسفل الى الأعلى. فأي فراغ ينشأ في أي من دول المنطقة يفتح بشكل تلقائي ساحة جديدة للصراع من خلال الفصائل السياسية المتناحرة في تلك الدولة، وبالتالي فإن المحك الرئيـــس للصراع هو إبقاء او ضرب قدرات الحـــكومات المـــركزية لــدول المنطقة في السيطرة على أراضيها سياسياً وأمنياً.

٤- إيران نجحت على الأرض أكثر من السعودية في مناطق عدة من خلال عملائها الأكثر تنظيماً وتسليحاً.

٥- المملكة تواجه جبهة أخرى للصراع تتمثل في حرب باردة سنّية- سنّية على شرعية التمثيل السنّي (الجبهة السنية تتنازعها من جهة دول مثل قطر وتركيا من خلال جماعة الإخوان المسلمين، ومن جهة أخرى تنظيمات متشددة مثل القاعدة و «داعش»).

٦- المنطقة شهدت صعوداً لدور اللاعبين المحليين مقابل دور الدول، فالتطورات السياسية اليوم تقودها مجموعات داخل الدول مثل «حزب الله»، والحوثيين، و «داعش» و «النصرة»، أو حتى الميليشيات الليبية، في مقابل أفول لدور الحكومة المركزية في بعض الدول العربية.

ويكمن جوهر الصراع في اختلاف رؤى الدولتين لما يجب أن يكون عليه الشرق الأوسط، وبالتالي حاجة كل منهما الى الهيمنة على المنطقة ومد نفوذها لتطبيق هذه الرؤية، وقد تسبب ضعف عدد من الدول عقب الربيع العربي في فتح الباب للقوى المحلية في كل دولة للتنافس، ومن ثم السعي الى إيجاد داعمين خارجيين للإمداد بالأموال والسلاح والغطاء الأيديولوجي الذي بات مبنياً على الهوية أو الطائفة تبعاً للحالة، ما جعل السعودية وإيران تبرزان كقطبي المنطقة بلا منازع.

دخول القوات الخليجية البحرين بهذه السرعة، ودخول «حزب الله» سورية بهذه القوة، كلاهما مؤشر على خلفية هذه الحرب وجديتها بين الطرفين، حيث اصبحت خطوط التماس واضحة والخنادق مرسومة بلا لبس، وإن كانت المواجهة المباشرة بين المملكة وإيران بعيدة من التصور، فإن المواجهة غير المباشرة تستدعي للذاكرة نموذج الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

بعد انســحاب الولايات المتحدة من العراق نهاية 2011 (ما مثل ضمنياً انسحاباً لها من المنطقة) ترسخ الفراغ السياسي الاقليمي بشــكل أكبر (وهو فراغ نشأ بالأساس مع الســـياسة الانسحابية والانـــعــزالية لإدارة الرئيـــس أوباما). وبرزت فكرة مـــفادها أن مـــلء هذا الفراغ لن يتم إلا بتحـــالف بين اثنـــين أو أكثر من الدول الخمس المهيمنة في المنطقة (الســعودية ومصر وإيران وتركيا وإسرائيل) والتي يشكل توازن القوى والردع بينها حاجزاً يحول دون هيمنة طرف على البقية.

هذه الفرضية التي بدت منطقية عام 2012، ودعمتها تحركات الدول في حينه، أثبتت قصورها عن تفسير جوهر ما يجري على أرض الواقع، واحتساب ان السياسة لا تحددها عوامل القوة الثابتة فقط وإنما أيضاً القوة الحركية والتدافع الذي يمثل عنصر حركة التاريخ. فالقوة تجلب المزيد من القوة، والقوة السياسية مثل رأس المال تتآكل مع الركود وتزيد مع الإنفاق والحركة المستمرة. في 2012 حاولت تركيا إنشاء تحالف مع مصر خلال فترة حكم «الإخوان» تكسر به حلقة التوازن بين الدول الخمس المذكورة، ثم عادت بعد سقوط «الإخوان» لتحاول جذب إيران نحو شبه تحالف معها مستغلة علاقتها الاقتصادية بها. وما اوضحته محصلة التحركات التركية – على سبيل المثال – هو ان الأبعاد الحقيقية للصراع الإقليمي تتجاوز مجرد إيجاد هيمنة عددية بين أطراف متعددة، فالمواجهة السعودية- الإيرانية ضاربة بجذورها بأعمق من ذلك، ومن ثم فإن المسألة الاقليمية أكثر تعقيداً من مجرد إنشاء تحالف بين طرفين أو أكثر يستدعي بالضرورة تنازلات بين تلك الأطراف للتوفيق في ما بينها. السعودية وإيران تجاوزتا منطقة الحلول الوسط التي يمكن بناء تحالفات عليها، كلاهما راسخ في توجهاته مقابل الطرف الآخر ويصعب عليهما بناء تحالف يعتمد على التنازل في التوجهات من أجل اطراف أخرى، لأجل ذلك عجزت تركيا – مثلاً – عن بناء تحالف مع المملكة أو حتى مع إيران خلال الفترة الماضية.

أصبحت المواجهة السعودية- الإيرانية من القوة إلى درجة جذب كل المنطقة على صيغة «إما معي أو ضدي»، وأصبح من الصعب حتى على الدول الكبرى اقليمياً الانعتاق من هذا التجاذب، فعلى سبيل المثال، أصبحت مصر بعد حزيران (يونيو) 2013 جزءاً من المعسكر المواجه لإيران عقب محاولة 2012 لفتح باب علاقة موازنة بينها وبين المملكة.

أشار غوس في ورقته إلى ان إيران نجحت على الأرض اكثر من السعودية، وهي ملاحظة مبدئية صحيحة تدعمها امثلة، سواء دور إيران في العراق من خلال نوري المالكي أو أطراف عراقية أخرى، أو في سورية من خلال دعم بشار الأسد للبقاء، أو في لبنان من خلال «حزب الله»، عدا الحوثيين او فصائل فلسطينية كحماس والجهاد. مقارنة بانتكاسة بعض تحركات سعودية في مسارح عدة، سواء في لبنان من خلال سعد الحريري أو العراق من خلال إياد علاوي في 2010، أو حتى «الجيش الحر» في سورية. لكن، في المقابل أثبتت المملكة قدرتها على تحقيق نجاح كبير حين دخلت إلى مسرح اللعب بقوتها كما حدث في كل من البحرين سياسياً أو مصر اقتصادياً بعد حزيران 2013. وفي المثالين نجحت المملكة في اقتلاع الحضور الإيراني او غلق الباب أمامه في البلدين.

ويلاحظ ان تحرك المملكة على المسرحين السابقين جاء بصيغة دفاعية بينما كانت التحركات الإيرانية في مسارحها تأتي بصيغة هجومية، وهو ما يبرز الفرق بين نموذج عمل الدولتين، ويستدعي المراجعة من السعودية حتى تتمكن من مواجهة ايران في المسارح الأخرى. وعليه، قد يبدو من الجدير طرح خطوات يفضل أن تنظر فيها المملكة حال أرادت الخروج من هذه الحرب الباردة بالكفة الراجحة:

١- تقوية الجبهة الداخلية:

تواجه السعودية وإيران تحدياتهما الداخلية الخاصة. تمثل التنمية البشرية التحدي السعودي الأبرز، فالتنمية البشرية لا تقف عند حدود معالجة التعليم والبطالة وإنما تتجاوزها نحو بيئة التنمية البشرية نفسها. كثافة السكان بالنسبة الى الوحدة السكنية الواحدة (density per dwelling unit) في السعودية أعلى من الهند، بينما تعادل مساحة المملكة ربع مساحة أوروبا تقريباً (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وإنكلترا وألمانيا والبرتغال مجتمعة)، في حين يفوق عدد سكان تلك الدول الأوروبية عدد سكان المملكة بـ 11 ضعفاً. من جهة أخرى، تعد السعودية ثالث أعلى دولة في العالم في معدل استهلاك المياه بالنسبة الى الفرد (per capita). تملك المملكة المؤهلات المالية اللازمة لإطلاق تنمية غير مسبوقة، لكن، يحدها العامل البشري اللازم لها، وهو ما يستدعي مراجعة سياسات التنمية البشرية.

٢- اصلاح البيت السنّي:

اتخذت المملكة مواقف جادة وقوية في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب، لكن الخلاف الداخلي السنّي- السنّي يتعلق بمسار آخر يدور حول القيادة الفكرية للخروج بصيغة اجتهادات فقهية تتوازى مع حاجة المنطقة الى التنمية الاقتصادية والبشرية. ما حاولت جماعات سنية متعددة بدءاً من الإخوان وانتهاءً بـ «القاعدة» وتوابعها القيام به هو ملء فراغ فقهي لا يزال حاضراً في المخيلة السنّية. السعودية من طرفها تملك ما يؤهلها للقيام بذلك، بافتراض ان معالجتها للمسألة ستتم باجتراح نموذج جديد يرتكز على المقومات العقلانية واتخاذ مواقف جادة وواضحة حول ما يعانيه السنّة فكرياً.

٣- تطوير آليات جديدة للسياسة الخارجية:

ارتكاز المملكة على فكرة التحرك المضاد (reactive policy) والخطوات الدفاعية فتح الباب أمام إيران للمبادأة في مسارح التنافس، وأظهر المملكة بمظهر المتردد وغير الواضح نتيجة استمرار ايران بالهجوم في كل مسرح. مواجهة هذه التحركات الايرانية قد تستلزم الخروج عن التقليد السعودي واتباع مناهج عمل أقرب الى الإيرانيين، وذلك من خلال رؤية مبتكرة توجد حلفاء جدداً للمملكة، فكما تدعم إيران (الشيعية) حركتي حماس والجهاد السنّيتين، فإن المملكة، ومن خلال الاعتماد على العروبة كقاعدة بناء، يمكن أن تنفتح على المكونات الشيعية العربية في العراق وغيرها، بما فيها إيران من خلال العرب الأحواز (الشيعة). هذا الامر يستلزم أن تكون رؤية المملكة للمنطقة أكثر وضوحاً للغير، وأن تطرح هذه الرؤية كنموذج شامل يقابل النموذج والرؤية التي تحاول إيران طرحها.

٤- تطوير منظومة دعم الدول الحليفة:

ارتكز دعم المملكة لحلفائها على البعد المادي بشكل أساس وكذلك الدعم السياسي من خلال مواقفها ودورها في المحافل الدولية، إلا أنه يقابل هذا تحرك إيراني يعتمد على دعم مباشر من خلال الحضور على الأرض. آلية دعم الحلفاء آن لها أن تتجاوز فكرة الدعم المادي من بعيد أو من خلال المقاولين المحليين، فلا يمكن ضمان مواجهة فعالة مع المؤسسات الإيرانية الامنية أو الاقتصادية ما لم تكن للمؤسسات السعودية المقابلة قدرة حقيقية على المنافسة على الأرض، من خلال أذرعها وبأيدي شبابها السعودي. الدعم المادي أبسط مثال، ففي حين تحتاج المملكة الى زيادة معدلات دعمها لحلفائها بأكثر مما هي الآن، فإن مثل هذا الدعم يجب أن يتم من خلال مؤسسات سعودية حاضرة في الدول التي يقدم لها الدعم، لضمان كفاءة تنفيذه وحتى يكون التعاون متسقاً مع الحالة العامة للمنطقة.

* كاتب سعودي

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى