فاروق مردم بك: الصراع في سوريا مديد والاستبداد حاضنة الجهاديين الإصلاح الديني متعذّر بلا إصلاح سياسي واقتصادي – ليس للديموقراطيّين واليساريين الاّ العناد
حوار عبدالله أمين الحلاق
يحتل فاروق مردم بك في ذاكرتي حيزاً كبيراً يشغله مثقف سوري كبير منذ سنوات، وأستاذ لجيل من الكتّاب والمثقفين السوريين الملتزمين الحرية والثقافة النقدية. يقاسمه في ذلك عندي وعند الكثيرين نصفه الآخر، سمير قصير، وآخرون غيرهما. ضمن مشروعي المتواضع في استحضار تلك الأسماء التي آثرت الابتعاد عن صخب الإعلام واستهلاكه للكثيرين، إلا ما ندر من ذلك الإعلام ووسائله، يأتي هذا الحوار الطويل في “الملحق” حول سوريا ولبنان والربيع العربي عموماً، وطبعاً فلسطين، وحول اليسار والمثقفين الذين كانوا على مسافات متفاوتة من كل تلك القضايا، منها جميعاً أو من كل قضية على حدة، وبيروت المتغيرة عليه وعلى آخرين من مجايليه. هكذا يرفع مردم بك صوته عالياً وهو يقول لنا إن رأسمالنا الرمزي هو الذي يجعلنا نتفكر في تلك القضايا التي يكاد الترابط الكبير بينها يجعل التفكر في كل واحدة منها عصياً، إلا في ما خص التفاصيل. هذا الحوار رسالة وتذكير بأن ما يحدث في سوريا ولبنان وفلسطين وباقي العالم العربي شيء أكبر بكثير من الأجوبة السهلة الاختزالية المنطلقة من مسلّمات ويقينيات سادت ولا تزال، وبأن المعركة اليوم لا تزال أولاً وأخيراً، الحرية. الحرية البعيدة على رغم كل ما حصل ويحصل في بلاد العرب. لن أطيل. أترك لفاروق مردم بك الحديث عنه وعنا وعن تلك البلاد، وللحديث تتمة.
اليسار، اليسار العربي، اليسار المنشود
¶ أنت المثقف السوري والكاتب “اليساري” كما لا تزال تعرّف نفسك وهويتك الفكرية، دعني أبدأ معك هذا الحوار بالسؤال عن اليسار. ما هو اليسار؟
– في العالم أكثر من يسارٍ واحد، وأكثر من ماركسيّة واحدة، لكنّ الماركسيّة اللينينيّة الستالينيّة طغت على كلّ ما عداها وحمّلته أوزارها، قبل انهيارها المريع وبعده. لذلك يبدو لي أنّ على من يدّعي اليساريّة أن يحدّد إلى أيّ يسارٍ ينتمي. لا يتسع المجال هنا لشرحٍ طويل. المرجع الأول في نظري كان ولا يزال فكر كارل ماركس، وهو ليس عقيدةً مكتملةً لا يأتيها الباطل من أيّ جانب، وقد تجد فيها تبريراً لمواقف متناقضة، من الدفاع عن الحريّات التي تُنعت زوراً وبهتاناً بالشكليّة، إلى القول بديكتاتوريّة البروليتاريا (هي عند ماركس، على كلّ حال، غيرها في “الديموقراطيّات الشعبيّة” البائدة!). من الماركسيّين مَن يعتقدون بعد قراءة سطحيّة لفقرةٍ ما من كتابٍ ما، أنّ ماركس مُنظّر الحتميّة التاريخيّة كما كانت تُدرّس في مدارس الأحزاب الشيوعيّة، وينسون كتاباته التاريخيّة مثلاً التي تبيّن تعقيد الواقع وأهميّة الحدث الطارئ في مجرى التاريخ وما لخّصه أنغلز بعبارة بسيطة: “التاريخ لا يصنع شيئاً”! أضفْ أنّ الرجل أوروبي، عاش في القرن التاسع عشر، ولهذين المكان والزمان أثرهما البيّن في فكره.
أين تكمن إذاً أهميّة ماركس الفريدة؟ أوّلاً، في كشفه “السرّ المكنون”، سرّ رأس المال، من التراكم الأوّلي إلى ما نعيشه اليوم من عولمةٍ متوحّشة، وتخريب للطبيعة، وهيمنةٍ مطلقةٍ على حيوات البشر باعتبارهم سلعاً كباقي السلع. ثانياً: في أنّه أثبت، بفضل تحليله لرأس المال، صواب مقولته المشهورة في شبابه عن ضرورة “تغيير العالم”. ثالثا، في هذا السياق: في أنّ هذا الفيلسوف والاقتصادي والمؤرّخ العظيم كان مناضلاً ثوريّاً، ولا يمكن الفصل بين الصفتين في حياته، صفة العالم الذي قارع باقتدار كبار مفكّري عصره، وصفة المناضل الذي أسّس الأمميّة الأولى. فكلٌّ من الصفتين كانت عنده تستدعي الأخرى.
ينظر اليساريّ، كما أفهم اليسار، إلى العالم على أنّه كلٌّ متكامل. والعالم اليوم ليس ما بشّرنا به، بعد سقوط جدار برلين، دعاةُ الليبيراليّة الهانئة ونهاية التاريخ، بل يزداد قسوةً بسبب تغوّل الرأسماليّة منذ ثمانينات القرن العشرين. ففي الدول الرأسماليّة الغنيّة المتقدّمة التي ترسم للبشريّة جمعاء معالم مستقبلها، تفقد الطبقات الشعبيّة شيئاً فشيئاً المكتسبات الاجتماعية التي انتزعتها بنضالها السياسي والنقابي (المرافق العامّة، الضمان الاجتماعي، قوانين العمل…). ولم تؤدّ الثورة التكنولوجيّة و”ترشيد” العمل إلى ما يُفترض أن تؤدي إليه، أي المزيد من الوقت الحرّ المفيد، بل إلى ارتفاع معدّلات البطالة، وإلى تهميش قطّاع واسع من السكّان. ترافق ذلك مع تضييق الخيارات السياسيّة أمام المواطنين، حتّى فقدت السياسة معناها، فالبرامج الاقتصاديّة للأحزاب اليمينيّة و”الاشتراكية- الديموقراطيّة” السائدة لا تكاد تختلف إلّا في نبرتها وبراعة زعمائها في تسويقها، وتمتثل كلّها لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي ونقابات أرباب العمل.
تهدّد هذه الرأسماليّة المعولمة إنسانيّة الإنسان وبيئته الطبيعيّة في كلّ مكان. اليساريّ هو الذي يرفض أن يصبح العالم سلعةً تُباع وتُشرى. هو الذي يدعو إلى عولمةٍ بديلة عادلة. هو الذي يؤمن بضرورة تغيير العالم، والذي يراهن على إمكان تغييره – ولا يستند في رهانه الصعب إلى المشيئة الإلهيّة ولا إلى التقدّم العلمي والتكنولوجي، ولا إلى ما يُسمّى “منطق التاريخ”.
¶ ماذا بقي من اليسار العربي اليوم؟ ومن اليسار السوري تحديداً؟
– لا جدال في أنّ اليسار العربي، أو لنقلْ على وجه التحديد الأحزاب والجماعات الشيوعية في مختلف اتجاهاتها، في أزمةٍ خانقة. من الظلم الفادح إنكار نضالاتها وتضحياتها في مراحل عديدة من تاريخنا الوطني، ويجدر التذكير أيضاً بأنّها ضمّت في صفوفها عدداّ لا يستهان به من المفكّرين والأدباء والفنّانين المرموقين. لقد تبدّد هذا اليسار، مثل غيره في العالم، بسقوط جدار برلين وتفكّك المعسكر السوفياتي والتحوّل الرأسمالي في الصين الشعبيّة. انتقلت فئةٌ منه إلى الليبيراليّة، وقادتها ليبيراليّتها بصورة عامّة إلى الهوس بالديموقراطيّة الغربيّة بعجرها وبجرها، هذا في الوقت الذي صار فيه ألمع المفكّرين الليبيراليّين الأوروبيّين يشكّكون في إمكان التوفيق في المستقبل القريب بين الديموقراطيّة والرأسماليّة في طورها المالي المعولم. التحقت فئةٌ بالتيّار القومي- الإسلامي، أو استعارت منه لغته “الممانعة”، وتاهت على الناس بثوبها المرقّع. وبقيت فئاتٌ أُخرى، في المشرق والمغرب، على حالها، كأنّ شيئاً لم يكن، من دون أيّ مراجعةٍ نقديّة جدّيّة لتجربتها، ومن دون تأمّلٍ في أسباب الانهيار العظيم وجذوره العميقة في النظريّة نفسها وفي تطبيقاتها.
أعتقد أنّ المشكلة الجوهريّة في ممارسة أغلب هذه الأحزاب منذ الستّينات، بالإضافة إلى عقليّتها الستالينيّة المتحجّرة، كانت تبعيّتها للأنظمة الاستبداديّة “التقدّميّة”، متعلّلةً بنظريّاتٍ أبدعها “علماء” الماركسيّة اللينينيّة في الاتحاد السوفياتي، مثل نظريّة “التطوّر غير الرأسمالي”، ومفادها إمكان الانتقال إلى الاشتراكيّة في بلدان مثل مصر وسوريا والجزائر من دون المرور بمرحلةٍ رأسماليّة ديموقراطيّة. أدّى بها ذلك في سوريا إلى مشاركةٍ دونيّة في السلطة من موقع شاهد الزور، فسوّغت برطانتها المعتادة فظائع النظام في الثمانينات، وواظبت على وظيفتها بعد زوال المعسكر السوفياتي، وحتّى يومنا هذا، بهمّة ونشاط!
قلّةٌ قليلة من الشيوعيين السوريين نجت سياسياً وأخلاقيّاً من هذا البؤس، وأعني في الدرجة الأولى مناضلي المكتب السياسي وحزب العمل الشيوعي الذين دفعوا ثمناً باهظاً لمعارضتهم النظام، إذ اعتقلوا سنواتٍ طويلة وعُذّبوا عذاباً مريراً. بعد خروجهم من السجن، شارك أغلبهم في الحراك الديموقراطي، ومنهم من انخرط في الثورة بحماسةٍ منذ انطلاقتها. قد أتّفق معهم، أو مع بعضهم، وقد أختلف في تحليلهم السياسي وفي مواقفهم القديمة والحاليّة، إلّا أنّي لن أنسى أبداً أنّهم هم الذين حملوا همّ بلادنا في أحلك الظروف، وهم الذين أنقذوا بذلك شرف اليسار العربي.
الإسلام، الإصلاح الديني، العلمانيّة
¶ قلتَ في الأسابيع الأولى من الثورة السورية: “أما عن الإسلاميين ودورهم، ففي الأمر مبالغات وتعميمات وشمل لقوى وتيارات شديدة الاختلاف بعباءة واحدة”. ألا تزال على رأيك اليوم مع تصدر الاسلام السياسي والحربي للمشهد السوري وابتلاعه للثورة؟
– قلتُ هذا الكلام لأنّ النظام ادّعى منذ تظاهرات درعا أنّ الجهاديّين أو السلفيّين يقودونها، وهذا ما لم تكفّ أبواقه عن ترديده حتّى الآن. قلته أيضاً وفي ذهني ما جرى في مصر من مبالغات في صدد دور “الأخوان المسلمين” في الثورة، ونحن نعرف أنّهم التحقوا بها متأخّرين، بعد محاولات من طرفهم ومن طرف مبارك لتقاسم الأدوار في الالتفاف على الثورة. ولكن دعني أوضح لك باقتضاب، موقفي من هذه “الحُمّى” الإسلاميّة التى تتحدّث عنها.
لا أختلف مع أصدقائي العلمانيّين في ضرورة إبعاد الدين عن الدولة وعن السياسة. ولست سعيداً بما يُسمّى “الصحوة الإسلاميّة” (المباركة!) التي غيّرت إلى عكسه منحى التاريخ العربي الحديث منذ إصلاحات القرن التاسع عشر، والتي أرى آثارها المدمّرة في حياتنا السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. لقد تجلّت هذه “الصحوة” بأشكال مختلفة، من التشدّد في ممارسة الشعائر الدينيّة إلى السلفيّة المتزمّتة، ومن عودة الروح إلى الإسلام السياسي كما يمثّله “الأخوان المسلمون” إلى العنف الجهاديّ الذي بلغ أقصاه في البربريّة “الداعشيّة”. السؤال الملحّ المطروح علينا، وليس في سوريا وحدها، هو كيف نتصرّف إزاء هذه الظواهر المتعدّدة. العلمانيّون الأصوليّون يضعونها كلّها في سلّة واحدة، ويحتقرون الجمهور المتديّن ويعتبرونه “الحاضنة” الطبيعيّة للإرهاب الجهادي، ممّا يعني اليوم قطيعة كاملة مع شعبهم. علمانيّتي تدفعني أوّلاً إلى القول بأنّ الأنظمة الاستبدادية هي الحاضنة الفعليّة للجهاديّين، وثانياً إلى الدفاع من دون لبس في وجه جميع الإسلاميّين عن حرّيّة الضمير والتعبير وعن المواطنة الفرديّة المتساوية، وثالثاً إلى اتخاذ موقفٍ نقديّ جذريّ من مرجعيّة الإسلام السياسي الفكريّة ومن ممارسته السياسيّة (من دون أن يؤدي بي ذلك إلى السير في ركاب الاستئصاليّين)، ورابعاً إلى التعامل مع المسلمين العاديّين، حتّى المتزمّتين منهم، على أنّهم شركائي في المواطنة، لا أفرض عليهم سلوكهم، وأطالبهم بأن يُعاملوني بالمثل. قد تقول لي: “هذا كلام نظريّ، لأنّ المسلمين المتزمّتين لن يُعاملوك بالمثل”، وقد تكون محقّاً في قولك، ولكن، هل ترى سبيلاً آخر إلى التوفيق بين العلمانيّة والديموقراطيّة؟
¶ بما أننا نتحدث عن الإسلاميين، أيّ أفق للعلمانية؟ أو للإصلاح الديني في العالم العربي وفي سوريا؟ وكيف تقرأ الإسلام كدين وموقعه في عصرنا الحالي ومنطقتنا؟
– لمّا كنتُ من جيل المخضرمين، الذين عاشوا قبل “الصحوة الإسلاميّة” وبعدها، فقد عرفت نوعين من المسلمين، وعاينت إسلامَين، ولذلك أؤمن بأنّ إسلام المسلمين على صورتهم، وحاله من حالهم. لم يكن المسلمون في الخمسينات والستّينات (على الأقلّ حتّى منتصف الستّينات)، باستثناء فئةٍ قليلة العدد، مشغولين حتّى الهوس بتطبيق الشريعة وإقامة الحدود. لم يكن الحجاب الشرعي زيّاً شبه رسمي في المدارس والجامعات. كانت البرامج الدينيّة في الإذاعات، ثمّ في التلفزيونات، تُصرّ على أنّ الله “كتب عليه الرحمة”، وأنّه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، وأنّ الدين المعاملة. لم تكن الكتب الدينيّة أكثر الكتب رواجاً، وكانت في أغلبها على كلّ حال تدعو إلى الوسطيّة. لا شكّ في أنّ المجتمع كان محافظاً، متديّناً، ولكنْ من دون غلوّ في التعبّد، يقدّس الماضي لكنّه لا يتطلّع إلى العودة إليه بل إلى اللحاق بركب الحضارة الحديثة.
لماذا تغيّر المسلمون وتغيّر الإسلام؟ وإذا كانت النصوص الدينيّة، كما أعتقد، تحتمل الإسلامَين، لماذا وكيف غيّب أحدهما الآخر؟ لماذا ارتدّ الإسلام الوسطي إلى أقصى درجات التعصّب والعنف ولم يتطوّرْ ليصبح إسلاماً عصريّاً يتقبّل انفصاله عن الدولة والسياسة، بل يسعى إليه؟ تستدعي هذه الأسئلة تحليلاً دقيقاً جامعاً لما جرى خلال عشرين عاماً، من منتصف الستينات إلى منتصف الثمانينات (الاستبداد السياسي، الهزائم القوميّة، الطفرة النفطيّة، السياسة الأميركيّة في المنطقة، تعميم الاقتصاد الريعي، “مأسسة” الفساد، أزمة اليسار العالمي…) وليس الاكتفاء بإجابةٍ جوهرانيّة تجعل من الموروث الثقافي طبيعةً ثانية للإنسان المسلم.
أخلص من هذا إلى أنّ الإصلاح الديني المنشود متعذّر إذا لم يأتِ في سياق إصلاحٍ جذريّ اقتصادي وسياسي يعيد إلى المجتمع حيويّته ويبعث في الطبقات الاجتماعيّة المسحوقة أملاً بحياةٍ أفضل. العلمانيّة متعذّرةٌ أيضاً إذا بقيت مطلب نخبةٍ معزولةٍ عن مجتمعها. ثمّ أيّ دينٍ نريد فصله عن الدولة، وعن أيّ دولة؟ حين ندرس تجارب الشعوب الأوروبيّة نستنتج أنّ العلمانيّة ليست وصفةً جاهزة، إذ تختلف تطبيقاتها بحسب تقاليد البلد الدينيّة، الكاثوليكيّة أو البروتستانتيّة أو الأرثوذكسيّة، وبحسب نظام حكمها، الجمهوري أو الملكي، ومنها من يتشدد في “خصخصة الدين”، مثل فرنسا التي لا تفسح له مبدئيّاً أيّ مكان في الحقل العام، ومنها من يتعامل معه بمرونة لأنّ الإصلاح الديني طبع بطابعه هويّتها القوميّة. ليس المهمّ اللافتة العلمانيّة التي نرفعها بل النضال من أجل الحرّية، حرّية الضمير والتفكير والتعبير، لأنّها جوهر العلمانيّة، ورفض المساومة في شأنها.
فلسطين ولبنان
¶ لنعد إليكَ، أنتَ أحد أكثر المثقفين السوريين متابعةً للقضية الفلسطينية. أين صارت القضيّة الفلسطينيّة اليوم؟ وما هو موقع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وسط كل ما يحدث من تحولات في المنطقة وفي دول الجوار لفلسطين؟
– حصل الشعب الفلسطيني بنضاله الشجاع على اعترافٍ دولي بحقّه في تقرير مصيره وفي إقامة دولةٍ مستقلّة في الضفة الغربيّة وغزة، لكنّ هذا الاعتراف المتأخّر بقي حبراً على ورق. لم يتمكّن الفلسطينيّون حتّى الآن من تحقيق أيّ هدفٍ من أهدافهم الوطنيّة، لا بالكفاح المسلّح ولا بالمفاوضات مع الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة. وليس في الأفق ما يشير إلى تحوّلٍ ما يمكن الاعتماد عليه في المستقبل القريب، لا في الرأي العام الإسرائيلي ولا في الجاليات اليهوديّة في العالم ولا في الكونغرس الأميركي. على النقيض من ذلك، يزداد الإسرائيليّون وأنصارهم تعصّباً وتشنّجاً، ويستمرّ تقطيع أوصال الضفّة وبناء المستعمرات بحيث أصبح مشروع الدولة المستقلّة مستحيل التحقيق. أضفْ إلى ذلك تأزّم الوضع الداخلي الفلسطيني، بين سلطةٍ عاجزةٍ في الضفّة، منخرطة في مفاوضاتٍ عبثيّة، ولا تملك من أمرها شيئاً، حتّى حلّ نفسها بسبب اعتماد مئات الألوف من الفلسطينيين عليها في قوتهم اليومي، وسلطةٍ أخرى في غزّة، محاصَرة إسرائيليّاً وعربيّاً، لم تنجح استراتيجيّتها السياسيّة والعسكريّة إلّا في تشديد قبضتها على القطاع المنكوب.
في هذه الظروف، وبما أنّ إسرائيل لا تريد السلام، لا “سلام الشجعان” الذي كان يأمله ياسر عرفات، ولا سلام الاستسلام الذي يحضّ عليه رؤساء الولايات المتّحدة، وتعتبره خطراً على وجودها، ليس للفلسطينيّين، أفراداً وجماعات، في الوطن وفي المنفى، من خيار غير المقاومة. أيّ مقاومة؟ المقاومة الشعبيّة السلميّة بكلّ الوسائل المتاحة، ومنها المقاطعة، لأنّ العنف لم يُجدِ ولن يُجدي نفعاً مع عدوّ شرس مثل إسرائيل لديه مخزونٌ ماديّ ومعنويّ من العنف يكفي لتدمير المنطقة بكاملها. لا خيار إلّا المقاومة، وتفعيل المقاطعة عالمياً، مع التمسّك بالمكتسبات القانونيّة الدوليّة، وأوّلها الحقّ في إقامة دولةٍ مستقلّة. أعتقد جازماً، بعد قراءة عشرات المقالات عن الموضوع، أنّ أيّ مطلبٍ بديل، كالكلام على دولةٍ ديموقراطيّة واحدة لكلّ مواطنيها، أو دولةٍ واحدة لشعبين، يجرّ الفلسطينيّين إلى متاهةٍ سياسيّة وديبلوماسيّة، وهو أبعد منالاً من الدولة الفلسطينيّة المستقلّة لأنّه يفترض انقلاباً جذريّاً في بنية الدولة اليهودية وعقليّة سكّانها اليهود من جهة، وتحوّلاً لا يقلّ جذريّةً في طبيعة الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة من جهةٍ أخرى، أي انتقالها بقدرة قادر من حركة تحرّر وطني إلى حركة حقوق مدنيّة.
سؤالك الثاني يدعوني إلى التمييز بين نظرتين إلى القضيّة الفلسطينيّة. الأولى هي اعتبارها “قضيّة العرب المقدّسة”، ونعلم ما في هذا القول من كذبٍ وتدجيل على الصعيد الرسمي منذ وعد بلفور حتّى الآن، وما فيه أيضاً من “فزعةٍ” عاطفيّة بعيدة كلّ البعد عن السياسة على الصعيد الشعبي. الثانية، اعتبارها قبل كلّ شيء، على خصوصيّتها و”مركزيّتها” في العالم العربي، قضيّة الشعب الفلسطيني الوطنيّة. هذه النظرة الثانية لا تعني البتة “فكّ ارتباط” العرب، وخصوصاً عرب الدول الحدوديّة، بالقضية الفلسطينيّة، فهم جميعاً معنيّون، شاؤوا أم أبوا، بما أسمّيه “المسألة الإسرائيلية”: دولةٌ بجوارهم ليست كغيرها من الدول، خائفةٌ ومُخيفة، لا حدود لها، دينيّة القوميّة، مدجّجة بالسلاح بما في ذلك القنبلة الذرّيّة، متفوّقةٌ في العلوم والتكنولوجيا، تبتزّ العالم بأساطيرها التوراتيّة ومظلوميّتها التاريخيّة ولا تمتثل للقانون الدولي، تدعمها بقوّة في القارات الخمس لوبيّاتٌ اقتصاديّة وسياسيّة وإعلاميّة، وتدّعي أنّ مجالها الأمنيّ يمتدّ من منغوليا إلى السنغال!
هذه الدولة تجدّد بنفسها الصراع العربي- الإسرائيلي يوماً بعد يوم. لكنّ ديمومة هذا الصراع لن تُجمّد في المستقبل التناقضات العميقة في المجتمعات العربيّة، ولن تُقنع الشعوب العربيّة بضرورة تأجيل حلّها والقبول بالأنظمة القائمة إلى ما شاء الله. أليس هذا ما بيّنته الانتفاضات العربيّة في العام 2011 في طول العالم العربي وعرضه؟ نعم، قضية فلسطين لم تعد “قضيّة العرب المقدّسة”. هي قضيّة استقلال فلسطين وحرّيّة شعبها وكرامته. وهي بهذا المعنى قضيّتي.
¶ ما هو موقع لبنان اليوم أمام ما يحدث في سوريا، وأنت كنت ممن يقولون بتلازم مسارَي الديموقراطية والاستقلال في سوريا ولبنان؟ وماذا تعني لك بيروت اليوم؟
– لم يكن تلازم المسارين، استقلال لبنان وديموقراطيّة سوريا، يعني فقط، بنظري ونظر صديقي الأحبّ، سمير قصير، أنّ إقامة نظام ديموقراطي في سوريا شرطٌ أساسي من شروط استقلال لبنان. كنّا نعتقد أيضاً أنّ استقلال لبنان يخدم قضيّة الديموقراطيّة في سوريا لأنّه يضع حدّاً لمحاولة حلّ مشكلاتنا الداخليّة في “حديقتنا الخلفيّة”. وكان التلازم في فم حافظ الأسد كلمة حقّ يُراد بها باطل، ويتجلّى الباطل اليوم بأقبح صوره في سياسة “حزب الله” الفاجرة في سوريا: فاجرة لأنّها تدعم بشراسةٍ ولؤم نظاماً دفع ببلاده إلى هذه الأوضاع الوطنيّة والإنسانيّة المرعبة، وفاجرة لأنّها أيقظت فتنةً لن ينجو من نتائجها لبنان بطوائفه “الكريمة” كلّها. حمى الله لبنان واللبنانيّين – وحمى اللاجئين السوريّين في لبنان.
ماذا أقول عن بيروت؟ لم تعد لي علاقة حميمة بها منذ زمن بعيد. لم أعد أعرف أن أمشي في شوارعها كما كنت أفعل في شبابي الأوّل، أي في الستّينات. كانت بيروت آنذاك نافذتي إلى العالم، مكتبتي الكبيرة التي أقتني فيها ما لم أكن أجده في بلدي من كتبٍ ومجلّات وصحفٍ بالعربيّة والفرنسيّة. أجيء إليها من دمشق، وفي ما بعد من باريس، وتبهرني حيويّتها في كلّ شيء. أعترف لك بأنّي كنت غافلاً، قبل حروبها الصغيرة والكبيرة، عمّا تدّخره في أعماقها من عنف، ربّما لأنّ التحالفات العابرة للطوائف كانت “تلطّف” طائفيّة كلٍّ منها. كانت بشاعتها العمرانيّة جذّابة، مثل بشاعة بعض النساء، وهي الآن منفّرة. بقي في بيروت شيءٌ من بيروت الكوسموبوليتيّة، وبقي شيء من بيروت العربيّة، وبقي لي أصدقاءٌ رائعون، ولكنّ بيروت لم تعد بيروت.
تونس، الثورة الناجحة
¶ كيف تنظر إلى التجربة التونسية وإلى النجاح الذي حققه الشعب التونسي في مرحلة انتقالية ناجحة، ثم انتخابات ديموقراطية سقط فيها الإسلاميون بصناديق الاقتراع؟
– لستُ ملمّاً بالأوضاع التونسيّة، لكنّ القليل الذي أعرفه من تاريخ تونس قد يفسّر إلى حدٍّ ما خصوصيّتها. تونس، أوّلاً، كيانٌ سياسي مستقرّ ضمن حدوده الجغرافيّة منذ القرن الثالث عشر، أي منذ الحفصيّين. وقد حكمتها في العهد العثماني، حتّى الاحتلال الفرنسي 1881، سلالة شبه مستقلة، وبقيت هذه السلالة في السلطة في ظلّ الحماية الفرنسيّة حتّى الاستقلال. ثانياً، سبقت تونس جميع الأقطار العربيّة في الإصلاح السياسي والإداري، أُلغي الرقّ فيها في العام 1846 (قبل فرنسا بسنتين!)، وصدر “عهد الأمان” في العام 1857 وتبعه دستورٌ عصريّ في العام 1861، وبقي المسعى الدستوري عامل تعبئةٍ سياسيّة في سنوات الاحتلال الفرنسي. ثالثاً، لم يسعَ الاستعمار في تونس إلى اقتلاع ثقافتها من جذورها ولم يرتكب فيها جرائم ضدّ الإنسانيّة كما فعل في الجزائر. رابعاً، ليس في جميع البلدان العربيّة حركة نقابيّة متجذّرة تُماثل الاتّحاد العام التونسي للشغل. خامساً، بفضل ذلك كلّه استطاع بورقيبة إصلاح الأحوال الشخصيّة (المساواة بين الرجل والمرأة) ومحو الأمّيّة وتحديث التعليم – ولعلّ نظام التعليم في تونس أفضل الأنظمة في العالم العربي.
لا يقلّ أهمّيّةً عن هذه الاعتبارات تجانس النسيج القومي والديني التونسي، فجميع السكّان تقريباً، بعد رحيل أكثر اليهود، عربٌ، مسلمون، سنّيّون، ممّا أعفى البلاد من التوتّر الإثنيّ والطائفيّ الذي نعرفه، وإنْ لم يُعفها من توتّر “جهوي” بسبب التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين العاصمة والساحل من طرف، والجنوب والغرب من طرفٍ ثانٍ.
فرنسا والعالم العربي
¶ تُقيم في فرنسا منذ سنين طويلة. ما هو موقف اليسار الفرنسي والأوروبي مما حدث ويحدث في سوريا؟
– حين انطلقت الثورة السوريّة، بعد سقوط بن علي ومبارك، كان الرأي العام في فرنسا يتراوح بين التأييد والترقّب، وأعربت الحكومة في عهدَي ساركوزي وهولاند عن دعمها، وكانت ايجابيّة جدّاً في تعاملها مع المعارضة، وكان اليمين المتطرّف وحده منحازاً بصورةٍ سافرة إلى النظام. إذا راجعت الصحافة اليساريّة، كجريدة “الأومانيتيه” الشيوعية، حتّى أواخر العام 2011 على الأقلّ، وفي ذهنك ما صارت إليه في أيّامنا، فقد تُدهش من حماستها آنذاك للانتفاضات العربيّة كلّها، بما فيها الثورة السوريّة، ومن سعيها إلى تغطية وقائعها بأمانة. ثمّ تغيّرت اللهجة شيئاً فشيئاً. كذلك الأمر في صفوف حزب اليسار وحزب الخضر، من التأييد الصريح إلى التأييد المشروط إلى التشكيك في المعارضة إلى التعبئة ضدّ التدخّل “الامبريالي” في سوريا، وذلك حين كان السوريّون بأمسّ الحاجة إلى هبّة سياسية وإنسانيّة لنصرتهم بعد الجريمة الكيميائيّة. لم يبقَ مع الثورة من دون لبس، بعد المسخرة الروسية الأميركيّة في صدد الترسانة الكيميائيّة واستعادة النظام بعض مواقعه بفضل تدخّل “حزب الله”، إلّا جماعتان صغيرتان من اليسار الراديكالي. أمّا اليوم، فـ”داعش”، في نظر اليمين واليسار، هو العدوّ الأوحد، وهو عدوّ يُندّد به بقوّة حيت يتعلّق الأمر بالمسيحيّين والإيزيديّين والأكراد، ولا تُقال كلمة واحدة عن المجازر التي ارتكبها ويرتكبها ضدّ العرب المسلمين.
أعزو هذه المواقف إلى ستّة أسباب: الأوّل، والأهمّ، نزعةٌ عامّة، عميقة، إلى اختصار الصراعات البعيدة بأبعادها الإقليميّة والدوليّة وتغييب المجتمعات وتناقضاتها الداخليّة. من هنا التركيز على دور السعوديّة وقطر، وهما دولتان لا يكنّ لهما الجمهور الغربي محبّة كبيرة، وهذا أقلّ ما يُقال! الثاني، مآل الثورة الليبيّة بعد سقوط القذّافي الذي كان لفرنسا الساركوزيّة اليد الطولى فيه. ثالثاً، أسلمة الثورة السوريّة تدريجيّاً، بعد عسكرتها، على يد الجماعات الجهاديّة، وهذا في الوقت الذي استشرت فيه الإسلاموفوبيا في أوروبا على نطاق شعبيّ واسع. رابعاً، المواقف المؤيّدة للنظام التي اتّخذتها الأحزاب الشيوعيّة والقوميّة في العالم العربي، وكذلك “حزب الله” وبعض التنظيمات الفلسطينيّة، ولبعضها علاقات قديمة راسخة مع اليسار الاوروبي. خامساً، الأداء السياسي والإعلامي المخزي لقوى المعارضة المنظّمة. ولا بدّ أيضاً من أن نعترف بنجاح النظام – وللكنائس الشرقيّة حصّة كبيرة في هذا النجاح – في تسويق ادّعائه بأنه يحمي الأقليّات، وهو موضوعٌ حسّاس جدّاً في الرأي العام الغربي منذ قرون. يُمكن أن يُبرّر هذا كلّه موقفاً معادياً أو متحفّظاً من تنظيمات المعارضة، لكنّه يطرح تساؤلاتٍ مؤلمة عن أُصول العمى الايديولوجي الذي يدفع بعض اليسار إلى مساندة النظام، وبعضه إلى النأي بنفسه عن كلّ ما له علاقة بسوريا وإلى عدم الاكتراث بمأساتها الإنسانيّة. من الملاحظ في الحالتين، عند هؤلاء المؤمنين، بأنّ محرّك التاريخ هو الصراع الطبقي، غياب أيّ تحليلٍ طبقي لما جرى ويجري.
هذا عن اليسار. أمّا اليمين، اليمين الليبيرالي، الذي لم تسألني عنه، فهو تاريخيّاً، في غالبيّته العظمى، الحليف الطبيعيّ لأنظمة الاستبداد العربيّة، ولعلّ مقالات “الفيغارو” عن الثورة السوريّة أقذر ما كُتب عنها في الصحافة اليوميّة الفرنسيّة. لا بأس بأن نُذكّر بذلك بين الحين والآخر.
سوريا: النظام، المعارضة، المثقفون، الإسلاميون
¶ ما رأيك بالتشكيلات السياسية المعارضة التي تدّعي تمثيل الشعب السوري أو التي لا تدّعيه، وأي القوى السياسية المعارضة تجدها أقرب إليك؟
– كانت نقطة الضعف الكبرى في الثورة السوريّة، ولم تزل، فقدانها القيادة السياسيّة الثوريّة. انطلقت الثورة بصورةٍ عفويّة، حاملةً شعاراتٍ عامّة، نبيلة، ولكن من دون برنامجٍ واضح، وفي ظروفٍ محلّيّةٍ وإقليميّة ودوليّة غير ملائمة. بحثت عن قيادةٍ لها ولم تجدها. وتبيّن للجميع بعد أشهرٍ قليلة أنّ الأحزاب والشخصيّات التي شكّلت هيئة التنسيق من جهة، والمجلس الوطني من جهةٍ ثانية، ثمّ الائتلاف وتجمعات هزيلة أُخرى، وادّعت تمثيل الشعب السوري، تفتقر في وقتٍ معاً إلى الشرعيّة والصدقيّة في الداخل وإلى الخبرة السياسيّة والديبلوماسيّة التي تؤهلها لإدارة التحالفات التي لا بدّ منها بما ينبغي من استقلاليّةٍ وحكمةٍ وصلابة.
حين تسترجع اليوم وقائع السنوات الثلاث الماضية، أي منذ عسكرة الثورة، لا يمكنك إلّا أن تُحمّل مختلف تنظيمات المعارضة مسؤوليّة ضخمة في المأزق الذي نحن فيه. لم تنحرف الثورة أو “تُخطف” كما يُقال لأنّها تعسكرت. تكمن المشكلة في أنّ المعارضة لم تتوقّع هذا التحوّل الحتميّ ولم تتهيّأ له، بعكس النظام الذي سعى إليه منذ البداية، وخصوصاً حين زجّ بالجيش في قمع المتظاهرين، ولذلك كانت العسكرة عشوائيّة، من دون استراتيجيا، ومن دون تفكير في وسائل حماية المدنيّين، ومن دون أيّ شكل من أشكال التنسيق بين الكتائب المقاتلة، وبينها وبين المعارضة السياسيّة. هل كان بعد ذلك في استطاعة معارضة كهذه، بعيدة عن أرض المعركة، منقسمة على نفسها، واهمة في تقدير صدقيّتها على الصعيد الدولي وقليلة الحيلة في علاقتها مع “أصدقائها” الإقليميّين (هم منخرطون في صراع سخيف في ما بينهم)، هل كان في استطاعتها مجابهة الإسلاميّين الجهاديّين الذين انتهزوا للسيطرة على المناطق “المحرّرة” كلّ الفرص المتاحة، ولم تكن قليلة: تشرذم كتائب “الجيش الحرّ” وهزال تسليحه وتمويله، الاحتقان الطائفي الذي ازداد حدّةً بسبب التدخّل الإيراني الكثيف وغزوات “حزب الله”، تدفّق الجهاديّين الغرباء، وكذلك انحسار الحراك الشعبي المدني بسبب بطش النظام ومقتل عشرات الألوف من الناشطين أو اعتقالهم؟ تتحمّل تنظيمات المعارضة أيضاً مسؤوليّة كبيرة في تأميل الناس بتدخّل عسكريّ غربيّ ضدّ النظام، أو تخويفهم منه، فقد ظنّته وشيكاً، وتناحرت في أمره، ولا يزال بعض اليساريّين يعيبون على خصومهم انّهم كانوا يحبّذونه، مع العلم بأنّ الإدارة الأميركيّة أعلنت بصراحة رفضها التدخّل لتأمين ممرّ للمساعدات الإنسانيّة أو لإقامة منطقة عازلة أو لفرض حظر جويّ، فما بالك بالتدخّل العسكريّ المباشر على طريقة حلف الأطلسي في ليبيا.
أحاول أن أجد تفسيراً عقلانيّاً لتخبّط تشكيلات المعارضة، وأُرجعه إلى ما تعرّضت له طويلاً من قمعٍ شرس ومراقبة مخابراتيّة وحرمانٍ من أيّ فسحة للحوار والمراجعة النقديّة لتاريخها وتاريخ البلد، ممّا منعها بعد انطلاقة الثورة من تنظيم نفسها على أسس جديدة ومن تجاوز خلافاتها القديمة والحساسيّات الشخصيّة بين قادتها. لكنّي أعترف بعجزي عن فهم “الولدنة” (لا أجد تعبيراً أدقّ!) في أفعالها وأقوالها، هي التي تتنطّع لتمثيل شعبٍ منكوب وبلدٍ يحترق. يستوي في هذا السلوك الانتحاري “الأخوان المسلمون” ومن لفّ لفّهم والمنحدرون من أحزابٍ قوميّة أو يساريّة قديمة والليبيراليّون الجدد. لا تكفي إدانة الثقافة الحزبيّة الضيّقة المتأصّلة في النفوس أو الفساد المالي أو التبعيّة للدول الراعية، فالمشكلة أعمق، لا ينجو من بعض أعراضها المستقلّون الذين لا يُشكّ في إخلاصهم، إذ يجمعهم هدفٌ واحد ولكنّهم يختلقون كلّ يوم أسباباً للتخاصم والتنابذ، ولو استطاع كلٌّ منهم تأسيس حزبٍ أو جمعيّة تحمل سماته الشخصيّة لفعل.
تسألني أيّ التشكيلات أقرب إليّ؟ حتّى إشعارٍ آخر، ومع أنّي لست من مؤلهي “المجتمع المدني”، أجيب من دون تردّد: الجمعيّات المدنيّة التي تعمل بدأب في ميادين الإغاثة والإعلام والتعليم والثقافة.
¶ وماذا عن الثقافة والمثقفين السوريين؟ وجدنا كثيرين منهم صامتين منذ بداية الحوادث في سوريا، وإن تحدثوا يتحدثون بخجل عن الثورة حتى قبل أن تصل الامور إلى ما وصلت اليه. ما هي قراءتك لذلك؟
– لنذكرْ أوّلاً بالخير الذين لم يصمتوا، وهم كثر، ومن بينهم بعض أفضل الأدباء والفنّانين التشكيليّين والموسيقيّين والسينمائيّين السوريّين. وقد اضطرّ أغلبهم إلى الهجرة، وبقي آخرون في سوريا صامدين في ظروف بالغة القسوة، ولم يكفّوا جميعاً عن الإنتاج الثقافي ولا عن المشاركة ما استطاعوا في النشاط السياسي والإعلامي والإنساني. أقول ذلك ردّاً على نزعة جلد الذات السائدة في هذه الأيّام. لقد عانت الثقافة السوريّة خلال عقود طويلة من قيودٍ لا تُعدّ ولا تُحصى، من قانون الطوارئ إلى قانون المطبوعات، ومن الرقابة الرسميّة التي مارستها وزارة الإعلام واتحاد الكتّاب والأجهزة الأمنيّة إلى الرقابة الاجتماعيّة. وكم من كتابٍ مُنع من النشر، أو حُرم من التوزيع بعد نشره في بيروت أو القاهرة، بل لقد كانت تُمنع من العرض أفلامٌ تُنتجها مؤسّسة السينما، وتُسحب من التداول كتبٌ تنشرها وزارة الثقافة. أدهى من القوانين القمعيّة والرقابة “الخارجيّة”، ذلك الرعب الذي عاش فيه المجتمع بأسره في الثمانينات، مطوّقاً بجيشٍ من المخبرين، وما بعثه البعث من حساسيّات إثنيّة وطائفيّة ومن حذرٍ بين كلّ جماعةٍ وجماعة، وكلّ فردٍ وفرد. كانت الثقافة “مؤممةً”، إذا صحّ التعبير، وكانت المؤسّسات الرسميّة تُؤطّر المثقّفين كافّة، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، وترسم لكلٍّ منهم الدائرة التي ينبغي له أن لا يخرج منها – وقد تضيق أو تتّسع بحسب بعده أو قربه من أصحاب الحلّ والعقد. وهذا ما دفع كثيراً من الكتّاب إلى التكتّم أو إلى الرقابة الذاتيّة والتقيّة – أو إلى الهجرة. حين أستعيد في ذاكرتي الروايات التي كُتبت في تلك المرحلة، فأوّل ما يتبادر إلى ذهني الوسيلة الملتوية التي سعى بها الكاتب إلى نقد الواقع من دون التعرّض للسلطة السياسيّة، أو إلى التلميح إليها بعد ترحيل الواقع إلى زمانٍ غير زماننا وإلى مكانٍ غير سوريا.
تبلورت في هذا الإطار العام نماذج عدّة من المثقّفين الموالين، فهناك مثقّف السلطة العضويّ، الذي نشأ في رحمها وارتبط بها سياسيّاً واجتماعيّا. وهذا ليس بحاجةٍ يوميّة إلى التعبير الصاخب عن ولائه لأنّه “من عظم الرقبة”. هناك الموظّف في أجهزة الدولة الثقافيّة، الذي ينفّذ المهمّة الموكلة إليه كأيّ موظّفٍ في القطّاع العام. وهناك “التقدّمي”، المضطرّ إلى تبرير سلوكه بشعاراتٍ سياسيّة واعتباراتٍ إيديولوجية، ولن تجد في العالم من يُجيد مثله تغطية غربته عن “عامّة” شعبه (أو طائفيّته) بخطابٍ علمانيٍّ زائف. وهناك أخيراً المثقّف العربي النموذجي، مثقّف الدولة التحديثيّة منذ محمّد علي باشا والتنظيمات العثمانيّة، نصير “المستبدٍّ العادل”، على ما في هذا المصطلح من تناقض فادح، وهو غالباً لا يطالب الدولة مقابل ولائه إلّا أن تضمن له استقلالاً نسبيّاً في ميدان عمله الضيّق، ويتعهّد بأن لا يتعدّاه. لا صلة لهذه النماذج كلّها، كما ترى، بالصورة النمطيّة التي رسخت في أذهاننا عن المثقّف الغربي الملتزم، أكان ليبيراليّاً أم يساريّاً، الذي يوظّف في الحقل العام رأس المال الرمزيّ الذي راكمه بفضل تفوّقه الأدبي أو العلمي أو الفنّي. والحقّ، أنّ الاستبداد في صورته القصوى، كما نعرفه في سوريا، وكما عرفه العراقيّون في عهد صدّام والليبيّون في عهد القذّافي، جعل بروز مثقّفين من هذا الطراز شبه مستحيل. لذلك كلّه، لم أستغرب البتة صمت بعض الكتّاب والفنّانين أو غمغمتهم، ولا دفاعَ آخرين عن النظام وانضواءَهم البليد تحت “سقفه”.
¶ إلى أين يسير الصراع السوري اليوم، وهل من أفق لبناء ديموقراطية في سوريا؟
– ليست تعقيدات الوضع الحالي كلّها وليدة الموقف الدولي المشين من الصراع في سوريا، وخصوصاً بعد المجزرة الكيميائيّة، لكنّ قسطاً كبيراً منها يعود إلى السياسة المتخبّطة التي اتّبعتها الولايات المتّحدة، ومعها بريطانيا وفرنسا، من التلويح باستخدام القوّة ضدّ النظام، إلى الاتّفاق مع روسيا على الاكتفاء بحرمانه من ترسانته الكيميائيّة، تالياً إلى منحه حصانةً وحُرمةً مهما تمادى في ارتكاب جرائمه بالأسلحة الأخرى. هذا ما شجّعه على التصعيد الجنونيّ في قصف المدنيّين جوّاً وبرّاً، وما مكّنه، بدعمٍ قويّ من إيران والميليشيات الشيعيّة اللبنانيّة والعراقيّة، من استعادة زمام المبادرة ومن استرداد بعض مواقعه بعد تدميرها على رؤوس أهلها. لنتّفقْ على خطل المفاضلة آنذاك بين النظام والجهاديّين، فالمفاضلة الوحيدة الموضوعيّة كانت بين إضعاف الطرفين معاً أو السماح لهما معاً بتحصين المواقع التي يسيطران عليها وتوسيعها. أليس هذا ما جرى؟ ألم تترافق انتصارات النظام العسكريّة مع انتصاراتٍ مماثلةٍ، وأكثر “مشهديّةً” منها، حقّقها تنظيم “داعش”؟ وهل كان “داعش” هذا، في أيّام الانعطاف الحاسم الذي أتحدّث عنه، جيشاً عرمرماً كما هو الآن؟
ليس في إمكان أحد التنبّؤ بمستقبل الصراع لأنّ الأمور لم تفلتْ فقط من أيدي السوريّين بل من أيدي جميع اللاعبين، ومن بينهم الولايات المتّحدة (أقول هذا ردّاً على الذين يعتقدون أنّها تُمسك بكلّ الخيوط وتُحرّك الشعوب كالدُمى). ولكنْ من المؤكّد، بحسب كلّ المعطيات المتوفّرة، أنّ الصراع لن يُحسم في القريب العاجل، لأنّ القوى الدوليّة (الولايات المتّحدة وروسيا) والإقليميّة الفاعلة (إسرائيل وإيران) لا تريد له أن يُحسم قبل أن تتوافق على حلّ يحفظ لها مصالحها الاستراتيجيّة الكبرى. وإلّا، فما معنى التصريحات الأميركيّة عن معركةٍ ضدّ “داعش” قد تدوم ثلاث سنوات وأكثر؟ وما معنى التسريبات عن تدريب مقاتلين معارضين لتأهيلهم للقتال بعد المدّة نفسها؟ وما معنى الغزل الأميركي- الإيراني؟ من المؤكّد أيضاً أنّ مصالح هذه القوى الفاعلة كلّها لا تقتضي على الإطلاق إقامة نظامٍ ديموقراطي في سوريا، بل قد تدفعها، على النقيض من ذلك، إلى العمل على تأبيد الاستبداد، استبداد الطغمة الأسديّة أو غيرها.
لا أرى في هذه الظروف المقيتة من طريقٍ للديموقراطيّين السوريّين، ولليساريّين منهم قبل غيرهم، إلّا العناد. معاندتنا ضدّ ممانعتهم!
سيرة
ولد في دمشق في العام 1944.
– درس الحقوق في جامعة دمشق، والعلوم السياسيّة في جامعتَي كان وباريس الأولى، وتربية التاريخ والعلوم الاجتماعيّة في جامعة باريس السابعة.
– عمل قيّماً للكتب العربيّة في مكتبة معهد اللغات والحضارات الشرقيّة بباريس (1972-1986)، ومحرّراً ثمّ مديراً لمجلة الدراسات الفلسطينية الصادرة بالفرنسية (1981-2008) ومستشاراً لمعهد العالم العربي في باريس (1987-2008). يشرف منذ العام 1995، في دار “أكت سود”، على سلسلة “سندباد” التي تُعنى في الدرجة الأولى بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الفرنسية.
– نشر بالفرنسية، بالاشتراك مع سمير قصير، كتاباً في مجلّدين عنوانه “مسالك بين باريس والقدس، فرنسا والصراع العربي الإسرائيلي” (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992-1993)، وبالاشتراك مع الياس صنبر “أن تكون عربياً” (أكت سود، 2007) ، ومع إدفي بلينيل والياس صنبر “فرنسانا” (أكت سود، 2011)، وثلاثة كتب في تاريخ الطعام عند العرب، وأشرف على نشر كتب جماعية ذات طابع تاريخي أو سياسي أو أدبي أو بيبليوغرافي، كما ترجم إلى الفرنسية أعمالاً لمحمود درويش وسعدي يوسف.
– يُقيم في فرنسا منذ أواخر 1965.
النهار