فتيات نحيلات/ يانيس ريتسوس
ثمّةَ لَحظاتٌ غَريبةٌ، فريدة
ثمّة لحظاتٌ غريبة، فريدة، وتكاد تكون مدهشة ومضحكة.
فهذا رجلٌ يَمشي في الظّهيرة حاملا سَلَّةً على رأسه،
والسّلّة تُخْفي وَجْهه كُلّه
فكما لو أنّهُ بلا رأسٍ
أو أنّه أراد التّنكّر جاعِلا لنفسِه رأسًا مُخيفًا،
بلا عَيْنَيْن،
وبعيون كثيرة.
وهذا آخرُ، يتفسّح حالِمًا وقتَ الغروب،
يَعْثُرُ في مكانٍ ما، فَتَنِدّ عنه شتيمة،
ويعود إلى الخلف، ويبحث؛ – إنّه
حجرٌ جِدُّ صغير؛ يرفعه إلى فوق، يَطبع عليه قُبلة،
ثمّ فجأةً يشعر بالقلق: فلربّما كان شخصٌ آخر
قد باغَتَه في أثناء فعله ذاك.
يبتعد في حال مَنْ أَقْدَمَ على ذنب.
وهذه امرأةٌ تُدْخِلُ يدها في جَيْبِها، فلا تَجد فيه شيئًا،
تُخْرِجُ يدها، تَرفعها، تُمعنُ فيها النّظر:
ترى اليد وقد تكاثر عليها غبارُ الفراغ.
وهذا نادلٌ أغلق راحة يَده على ذُبابة،
فهو لا يَشُدُّها؛
يُنادِيه زبون، يَكون قد نسي الذّبابة،
يبسط كفّه، تطير الذّبابة وتَحُطُّ على الكأس.
وهذه ورقة تتقلّب متحرّكةً في الشّارع بِتردُّد،
متوقّفةً بين الفَيْنَةِ والأُخْرَى،
دون أن تثير انتباهَ أيٍّ كان – وهذا يُعْجِبُها.
إلّا أنّها، في كلّ لحظة،
تُصدر قرقعةً خاصّة، وبهذا تُكَذِّبُ نفسها،
إذ تبدو كأنّها تبحث أيْضًا
عن شاهدٍ ما، لا يَزْوَرُّ عن الصِّدق
يُعاينُ حَرَكَتَهَا البطيئة، الغامضة
ولكلٍّ من هذه الواقعات جمالُها المنعزل، اللايُفَسَّر،
والألمُ العميق جدًّا الذي تنضَحُ به
إنّما هو نابع من حركاتنا الشخصية، الغريبة
والمجهولة – أليس كذلك؟
حِسُّ البساطة
خَلْف الأشْياء البسيطة، أتخفَّى من أجل أن تعثروا عليّ،
فإنْ لمْ تعثروا عليّ، عثرتُم على تلك الأشياء،
وستلمسون ما لمستْ يَدِي،
وآثارُ أيدينا ستترابط.
قَمَرُ شهر آب يُشِعّ في المطبخ
مثلما وعاء مطليّ بالقصدير ( السّبَبُ الوحيد لهذا هو
ما قُلته لكم)،
فهو يُضيء البيت الفارغ والصّمتَ الجاثي في البيت
على ركبتيه – الصّمتُ
دائمًا يَجْثو.
كلُّ كلمةٍ هي ذهابٌ للقاءٍ ما- لقاءٍ
يُلْغَى في أغلب الأحيان –
وهي كلمةٌ صادقةٌ، فَحسب، حين تُؤَكِّد
على لزوم ذلك اللقاء.
فتياتٌ نحيلات
فتياتٌ نحيلات
على السّاحل
يَجْتَنِينَ المِلْح، مُنحنيات
فهنّ لا يَرَيْنَ البحر
شِراعٌ
شراع أبيضُ يومئ إليهنّ من عُرْض البحر
وهنّ لا يَلْحَظْنه
يَسْوَدُّ الشّراع
مِنْ فَرْطِ الحُزن
سأغادر القمَّةَ البيضاء
سَأُغادر القمّة البيضاء المغطّاة بالثّلج
التي كانت تُدَفِّئ بابتسامة عارية
عُزلتي اللانهائية
سأنُفُضُ عن كتفيّ
رَمَادَ الكواكبِ الذّهبيّ
مثلما تنفُض طُيور الدُّورِيِّ الثّلج
عَنْ أجنحتها.
هكذا، بسيطًا ومستقيمًا
فَرِحًا جِدًّا وبريئًا
سَأُمُرُّ تحت أشجارِ السَّنْط المُزْهِرة
التي لِلَمَسَاتِك
وَأَمْضِي لِأَكِيلَ ضَرباتِ منقار
لِزُجاجة نافذةِ الرّبيع، السّاطعة.
سأكون الطِّفْلَ الوديع
الذي يبتسم للأشياء
ولنفسه
بلا تردّد ولا تحفّظ
كما لو أنّي لم أشهد السَّحْنَة الكئيبة
للشَّفَقِ أيّامَ الشّتاء
ولا عاينتُ مصابيحَ البيوت الفارغة
ولا رأيْتُ العابرين المُتَوَحِّدين،
تحت قمر
شَهر آب
في ألوان الورد
عُصفورٌ صغير في ألوان الورد، ومشدودٌ بخيط
بجناحيه المطويّين يُرفرف وسط الشّمس،
إنْ نظرْتَ إليه مرّة، سيبتسم لك
وإذا نظرتَ مرّتين أو ثلاثًا
ستشرَعُ في الغناء.
ما الفائدة؟
ما الفائدة من التّكلّم؟ ما جدوى كثرة التّوضيحات؟
وأنتَ تمشي بِخُطًى حثيثة لتنضمّ إلى أصدقائك
الذين ينتظرونك لأمر شديد الأهمّيّة يعنيك أنت، ويعني بضعة أشخاص
وأشخاصًا سِواهُم أيضًا،
ها أنت تتوقّفُ فجأةً في منتصف الطّريق
لترى جيّدًا
العُصْفورَ الذي يَحُثُّ خُطاه الصغيرة في سكينة
على الأسفلت،
رافعا رأسه، منتشيا، وأكثرَ استيعابًا لِما يُحيطُ به،
يحملُ بمنقاره الطّويل
تذكرةَ أوتوبيس.
مشهد شامل
الآن، أَتَرَى، هنا ستعيش – قال. هنا
هنا أو هناك،
أيّ أهمّيّة لذلك؟ – أُناسٌ ينزلون وآخرون يصعدون
السّلّمَ ذاتَه، – لا يلقون بالسّلام على بعضهم. نافذةٌ
تنغلق، أُخْرَى تنفتح. والمشهدُ هو نفسُه: وادٍ، تَلّةٌ،
شيخٌ يرحلُ وقتَ الغروب، وحيدًا مع عصاه،
أشجارُ زيتونٍ، كرومٌ، المشنوق، سَرْواتٌ وشَجَرةُ حَوْر،
قُبَّةُ جَرَس، النّهرُ، الكلب، الأوتوبيس، جَرّةٌ،
تماثِيلُ، تماثيلُ، أجنحةٌ كبيرة من المَرْمَر –
حتّى لوْ كانت لديك وعلى كتفيك، أتعتقد
أنّك ستستطيع أنْ تطير؟
الشّاعر
مَهْما حَشَرَ يَدَهُ في الظّلمات،
فهي أبدًا لنْ تَسْوَدّ. يَدُهُ
لا يَنْفُذُ إليها الليل. وحين سيرحل
(لأن الجميع سيرحلون في يوم أو آخر)
أتَصوّر أنّ بسمةً رقيقةً ستبقى منه في
هذا العالَم السّفليّ،
بسمةٌ لنْ تَكُفّ عن قول “نعم”
ثمّ “نعم”
لكلّ الآمال القديمة والتي يَنْقُضها
الواقع.
أَتَراهُ؟
يأخُذُ في كفّيه أشياءَ متباينةً – حَجَرٌ،
آجُرَّةٌ مكسورة، عُودَا ثِقابٍ مُحترقان،
مسمارٌ صَدِئٌ مِن الجدار المُقابِل،
ورقةُ شَجَرةٍ دخلتْ من النّافذة، قطراتُ الماء
التي تتساقط من أصيصِ الأزهار المَسْقِيّة، القَشَّاتُ
التي طَرَحتْها رِيحُ الأمس على شَعْرِك –
وهناك، في الفِناء، يُنْشِئُ منها شجرةً تقريبًا
في “تقريبا” هاته يكمنُ الشِّعر. أَتَراه؟
لا أُحِبُّ طَعم النّعناع في ريقك
أَسْتَمِرُّ في النّوم.
أسمعُكِ تُنَظّفين أسنانكِ في الحمّام.
وما أَسْمَعُهُ يَشْمُلُ أصواتَ
أَنْهَارٍ، أشجارٍ، جبلٍ صغيرٍ بِهِ كنيسةٌ بيضاء، قطيعِ أغنامٍ
على العُشب الأخضر (أسمع رنّاتِ جُرَيْساتهنّ)، حِصانَيْنِ أَحْمَرَيْنِ،
العَلَمِ الذي على قِمّة البُرج، عُصْفُورٍ على المدخنة؛
وتطِنّ نحلةٌ وسط وردة – ترتعشُ الوردة –
آه، كم تتأخّرين. لا تَبدَئِي الآن في مَشْطِ شَعْرِك؛
ما دُمْتُ أقولُ لكِ إنّي أنام في انتظار فَمِك.
لا أحِبّ طعم النّعناع في رِيقِك.
حين أستيقظ، سأرمي بالأمشاط، بفُرَشِ الشّعر، وفُرَشِ الأسنان
من الكُوَّة.
ترجمة مبارك وساط
(شاعر ومترجم مغربي)
العربي الحديد