فرج بيرقدار هزّ القوة السحرية للحرية
عناية جابر
فرج بيرقدار هزّ القوة السحرية للحرية. البقاء الطويل في السجن، من وجهة نظره، ثمناً غالياً وبخساً في آن، في سبيلها. السجن قد يقتل الروح، ويبعث بالسجين الى رقاد مُقبض، فارغ المحتوى وخامد، ومؤرق لجهة عبادة هيكل الحرية الثابت، والقناعات التي يمكن ان تمسخ طبيعتها. سوى ان السجن للبعض، لبيرقدار خصوصاً، الجسر الذي يربطه بالحياة، بالتفكير العقلاني والقناعات والثبات، كما يربطه بالحلم، الخيال الذي لابدّ منه، للعبور الى الحياة مرّة ثانية.
مع ذلك لايعلم إلإ السجين ماهو السجن، فثمة من يسقط ضحية عتمته، وصريع المكان الواحد والعذابات المتنّوعة الوحشية وغير الآدمية. آخرون يصمدون ويمتلؤن عزماً مهما طال الوقت. وليس من شك بأن الرغبة المتقدة الى الحرية، والإنصات لها وإن سجيناً، تترك مساحة مطلقة للأمل، للفوضى الحقيقية الخلاّقة، للإبتكار بحسب قدر المكان الضيّق، وقدر الزمان الطويــــل. روح فرج بيرقدار بقيت محترمة في سجنها، بل تعالى وهجها داخل الحيّز المُقبض، والدهر الهائل من الإعتقال.
نقرأ في كتاب فرج بيرقدار: ‘خيانات اللغة والصمت’ تغريبته في سجون المخابرات السورية، صدر حديثاً في طبعة ثانية عن دار الجديد، بعد طبعة أولى وترجمتين الى السويدية والإلمانية، نقرأ في بانوراما هادئة أحياناً وهاذية أكثر المرّات عن حياة إعتقال طويل، حيث يرقد الموتى ساكنين، وتحار في ما إذا كانت لاتزال، ثمة نتفة من حياة تتحرّك، أو تزفر في أولئك المساجين الموتى. حياة مزّنرة بالف سلك شائك، مع ذلك كان بيرقدار نشطاص ومليئاص بالمل، منصتاً لما خلف العتمة، بإبتسامة رضا وليس من دون تعاطف مع غيره من السجناء حتى لشكلّوا جميعاً بطريقة ما وبشكل متّحد، نواة هذا الكتاب.
فرج بيرقدار شاعر وصحفي سوري، معتقل رأي في زنازين سورية، ومتنّقل بينها حتى تحريره،(أفرج عنه أخيراً ويعيش في السويد) ويقول بان الشعر كان قد حرّره في سجنه:’حرّرته في داخلي، فحرّرني داخلياً ممّا يحيط بي من جدران وأنفاق وجنازير وأقفال. لو كنت سياسياً فقط، لكان يمكن ان أنهزم. غير ان الشعر إستطاع ان ينقذني، ويعطي حياتي في السجن، معنى مختلفاً وقيمة مختلفة عمّا يُراد. ما من شيء يستطيع أن يشّد القوس بي الى النهاية أكثر ممّا يفعل الشعر’.
ثمة قراءات متعددة للسجن، ولكــــن مهما تعددت تلك القراءات فإن من حقها وواجبها، جميعها ومن دون إستثناء، ان تُحيل الى فلسفة واحدة.. الى مرجعية واحدة وحيدة..هي الحرية.
على أوراق السجائر، نزف الشاعر في سجنه نصوصاً ضمّها ‘خيانات اللغة’، وهي محاولته لإضاءة شيء ما. خاض مغامرة الكتابة من الداخل، من داخل السجن نفسه، حين كانت دماءه لاتزال طرية، وانطوت الكتابة على قدر غير قليل من العبث والتناقض والغموض واليأس والدم والقداسة والموت والجنون واللامعنى.
أيّ عالم عربي هذا الذي يسجن شاعراً على رأيه، كائناً على رأيه؟ وأيّ عالم عربي نراهن على ولادته الآن؟. سبق لبيرقدار ان توّقع ان يرشحّنا المستقبل كأصحاب أكبر تراث عالمي في أدب السجون، وهو لايزال عند توّقعه، مع الإضافة الآن، ان المستقبل قد يرشحّنا أيضاً كأصحاب أحدث إنتفاضات أو ثورات، واكثرها رقياً وإبداعا
‘كان مؤلماً لي ـ يقول بيرقدار- أن انجز كتابي هذا عن السجنن ولكن سؤالي الذي يعيد إليّ الآن الجوانب الجميلة من مراهقتي الشخصية والسياسية هو: هل سيتاح لي أن أنجز كتاباً عن الحرية ؟ لم تعنيني حرية الإبداع في حياتي لا قبل السجن ولا خلاله . كنت مكتفياً بحريتي الداخلية . الآن أيضاً لاتعنيني حرية الإبداع. إن تركيزي منصذب على إبداع الحرية الذي تُشرّفنا به شعوبنا رغم فجائعية التضحيات. السلام على الشعوب ولها ومنها، بتشابك اغصانها وأديانها وأمانيها’.ً
في التاريخ السوري رجال عظام ذاقوا عميقاً مرارات السجون. وجود السجون بحّد ذاته يعني ان نزّج بها الرجال العظام. ولكن هذا التشريف ليس مخلصاص لكل الرجال، وما من احد يستحقه في الحقبقة، غير الأحرار منهم في السجن وخارجه. من المفهوم ان السجن ليس مبهجاً لأيذ كائن، وهو يسعى للإفلات من قبضته بمختلف الطرق .
بعضهم ينساق في حمأة يأسه الى الإستسلام الهادىء، وهؤلاء غير مروّضين على التمرّد، غير ممتلئين بالروح. آخرون يضعون على رؤوسهم التاج الملكي للحرية، لاينزعونه مهما بلغت ظروف سجنهم وعذاباتها، ويعرفون ان الكشف عن إنجازهم الرائع الحقيقي لن يتّم إلإ بعد زمن طويل.
لكنهم جميعاً يشعرون أن المأساة المرعبة للشــعب السوري، هي ان رجاله العظام لايصيرون قط جـــــزءاً من ثقافته الحيّة ،نظراً للعسف والبطش والجهل الأمني، في حين ان العقل الجمالي، التاريخي الثابت، يفرد لهؤلاء الرجال كل الإجلال والحب.
تغريبة فرج بيرقدار في السجون السورية
عبده وازن
مَن يقرأ كتاب الشاعر السوري فرج بيرقدار «خيانات اللغة والصمت: تغريبتي في سجون المخابرات السورية» في طبعته الجديدة ، يشعر كأنّه يقرأه للمرّة الأولى، على رغم مرور خمسة أعوام على صدوره الأول، يقرأه بمزيد من الشعور بالحريّة، وبمزيد من الجرأة وعدم الخوف، فالانتفاضة السورية الراهنة أرخت بظلالها الوارفة على هذا القارئ، سورياً كان أم عربياً، ومنحت هذا الكتاب وسواه من الكتب «المضطهدة» والمحظورة «نكهة» أخرى، غير مألوفة، فقراءة مثل هذه الكتب الآن أصبحت صنو كتابتها، قراءة مفعمة بالأمل الذي لم يعرفه يوماً «مواطنو» السجون السورية، وبالحلم في كسر بوابات الزنزانات وتحطيم هالة السجّانين والجلادين والجزارين.
كان لا بدّ فعلاً من أن تُقدم دار الجديد على معاودة إصدار هذا الكتاب، في هذه اللحظة التاريخية التي تشهدها سورية وبلدان عربية أخرى، وبدت «زهرة الدم» التي حملها غلاف الطبعة الجديدة خير تحية يمكن أن توجَّه الى الشهداء الذين يسقطون في الشوارع والأحياء، ثم الى الشهداء الأحياء الذين مازالوا يقبعون خلف القضبان في سجون الحقد والكراهية.
الكتاب، بنصوصه المختلفة، السردية والشعرية، شهادة مكتوبة بالحبر والدم على السواء، بالألم والأسى، بالعصب النافر والمزاج الحادّ. لا يُقرأ هذا الكتاب إلا في كونه «تأريخاً» عاطفياً مجروحاً للأعوام الأربعة عشر التي قضاها الشاعر فرج بيرقدار في الأسر، متنقلاً من سجن الى سجن، من زنزانة «إفرادية» الى زنزانة جماعية. في السنوات الستّ الأولى عاش (أو مات) في حال من الانقطاع الكلّي عن العالم (لن أقول الخارجي لأن عالم السجن ليس بعالم أصلاً)، حُرم من الزيارات ومُنعت عنه الأقلام والأوراق، وطبعاً الراديو، فسجين مثله، سياسيّ وكاتب، يجب قطع رأسه مجازاً وإفراغه من الفكر والعواطف والذكريات، وجعله فريسة الخواء التام. حتى اسمه سعوا الى أن يُنسوه إياه، مطلقين عليه رقماً هو الرقم 13، فالاسم في السجن يؤكد الانتماء الإنساني للسجين، والسجانون مثل هؤلاء همّهم أن يجردوا سجناءهم من إنسانيتهم.
يروي بيرقدار كيف أنّه وجد نفسه يحمل اسماً آخر هو «سيف أحمد» اضطرّ سجّانوه إلى أن يلقوه عليه عندما نقلوه الى المستشفى بعدما انهار في أقبية التعذيب. فرح بهذا الاسم ولو لم يكن اسمه، لكنّه خشي أن يصبح نكرة إن هو توفّي في المستشفى: «نعم، اسمك هو اسمك، ومحوه أو غيابه هو محوك أو غيابك». لكنّ محنة «قتل» الاسم لم تقتصر على استبداله برقم فقط، بل بألقاب سافرة، ساخرة وقميئة: أبو البيجامة الكحلية، أبو الكنزة الرمادية، أسود الكلب، رأس الجحش، الممعوط أبو رقبة… ولم يكتفِ السجانون بتجريد السجناء من أسمائهم وإنسانيتهم، بل هدّدوهم أيضاً بأنهم سيجعلونهم ينسون الحليب الذي أرضعتهم إياه أمّهاتهم، كما يكتب الشاعر. وهذا اعتداء على جوهر إنسانية الإنسان، قتل للحياة في وجهيها: الطفولي والأمومي.
وجد الشاعر نفسه داخل السجن أمام سؤال حرج: هل يكتب داخل السجن أم ينتظر الخروج منه ليكتب لاحقاً؟ هذا السؤال طرحه الكثيرون من الشعراء والروائيين الذين سيقوا الى السجون وكانت أجوبتهم عنه على قدر من الاختلاف. لكنّ الشعراء كانوا دوماً الأشدّ حماسة للكتابة في الداخل، تبعاً لطبيعة اللحظة الشعرية نفسها، وكذلك للقصيدة. أما الروائيون، فمعظمهم كتبوا أعمالهم في الخارج، وهذا أمر بديهي، فالرواية عمل يفترض الكثير من التركيز والبناء. ويمكن أن يضرب هنا مثل الكاتب السوري مصطفى خليفة، الذي وضع روايته الرهيبة «القوقعة «(دار الآداب) بعد خروجه من السجن السوري القاسي الذي قضى عليه روحياً ونفسياً. أما فرج بيرقدار، فاستجاب لنداء الشاعر الكامن فيه وكتب القصائد في الداخل، حيناً على ورق السجائر وحيناً بالذاكرة، وعليها غيباً، وفي أحيان ساعده الرفاق على حفظ القصائد… وعندما كانت تتوافر له فرصة تهريب هذه القصائد لم يكن ينثني عن تهريبها. كان الشاعر عاجزاً عن تجاهل نداء الشاعر في داخله، والشعر -كما يعبّر- تمكّن من إنقاذه ومنح حياته المأسورة «معنى مختلفاً وقيمة مختلفة». إنّه الشعر، وليد هذه اللحظة المأسوية العميقة التي لا يمكن «تأجيلها» ولا التغاضي عنها: «هنا لا تزال دمائي طرية، وقد تكون الآن أكثر استجابة للكتابة عنها أو بها».
لا تختلف حياة السجن هنا عن حياة السجون هناك وهنالك، حتى وإن بلغت القسوة هنا في أحيان ما لم تبلغه في سجن آخر. وسائل التعذيب التي يتحدّث عنها بيرقدار كانت رائجة (ولا تزال) في سجون الأنظمة الديكتاتورية (وغير الديكتاتورية أيضاً): الشبح على السلم، الفسخ، الدولاب، الكهرباء، الكرسي الألماني الذي يؤثر أن يسمّيه «الكرسي النازي»، حرصاً على سمعة الشعب الألماني. يشرح الشاعر تقنيات هذه الوسائل الوحشية في التعذيب التي تجعل الإنسان «حيواناً» في مختبر أو في مسلخ بالأحرى. لكنّ هذا السجن الذي خبره بيرقدار، تخطّى هذه الوسائل «الكلاسيكية» وكلّ أنواع الضرب والصفع و «الفلق» بالكرابيج، معتمداً وسيلة رهيبة ومذلّة، وهي جعل السجين يبتلع فأراً ميتاً. فأر ميت يُجبِر السجان سجينه على حمله بذنبه وابتلاعه كاملاً. هل من تعذيب أشد وحشية من هذا التعذيب؟ وكان يحسن لبعض العسكريين أن يأمروا سجيناً عجوزاً بأن ينحني ويلحس جزماتهم بلسانه، أجل بلسانه. أما أطرف «تقاليد» هذا السجن، فهو ما يسمّيه الكاتب «نظام المناوبات»، وهو يعني أن ينقسم السجناء، عندما يزداد عددهم، مجموعاتٍ أربعاً: مجموعة تناوب وقوفاً مدّة ست ساعات، مجموعتان تجلسان القرفصاء، مجموعة تنام وقد تمدّد أفرادها متعاكسين، رأساً لعقب أو عقباً لرأس، «متعانقين بأقصى ما يمكن من اليأس والقرف، ثم يقوم أضخم سجينين بكبسهم بأرجلهم». وبعد ست ساعات تتبدّل الأدوار أو الأحوال… وهكذا دواليك.
يعيش السجين وكأنّه خارج الزمن، هذا الذي يصفه بيرقدار قائلاً: «الزمن يمضي رخواً وبليداً وزنخاً وركيكاً ورجراجاً». إنه زمن السجن الذي ليس بزمن، فاللحظة ليست بلحظة، إنها دهر بكامله، إنه «الزمن الميت» كما كتب الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس نزيل السجون، قائلاً: «يجب أن نبقى هنا، لا أحد يعرف كم من الزمن الميت. شيئاً فشيئاً نسينا الزمن، فقدنا معنى الأشهر، الأسابيع، الأيام، الساعات…». أما الكاتب الروسي فلاديمير بوكوفسكي، فيتحدّث عن «اللحظة» الرهيبة التي يصبح «كلّ شيء فيها بلا معنى» ويمسي همّه الوحيد أن «يحصي الأيام بأسى».
القمر، إذا تسنى للشاعر أن يبصره في الليل هــــو عزاء له. إنّه رمز فتوّته العاطفية ودفتر ذكريات الصــبا، إنه وجه فتاة أحبها يوماً أو ابتسامة امرأة تركها للتوّ، منذ عام أو خمسة أعوام أو عشرة… أما «تاء» التأنـــيث، فهي «تصبح الحرف الأجمل في دنيانا» يقول الشاعر. إنها الحرف الأجمل والأشــــدّ بعداً واستحالة، إلا إذا استعادته الذاكرة بنداوته. «تاء» التأنيث، أو المرأة التي «تصبح فــــي السجن معادلاً رمزياً وإنسانياً وفنياً للحرية» يقول، مضيفاً: «بل تصبح الحرية هي المرأة». هنــــا لا بدّ من سؤال: هل كتب بول إيلـــوار قصيدته الشهيرة عن الحرية، أم عن المرأة، أم عن كلتيهما وكأنّ الواحدة مرآة الأخرى؟
في ختام الكتاب، نشر الشاعر نصّ المرافعة التي كان تقدّم بها أمام محكمة أمن الدولة العليا في دمشق عام 1993 وعنوانها «دفاعاً عن الحرية»، وهذه المرافعة هي بذاتها شهادة عنيفة وجريئة ضدّ السجن والسجان ونشيد للحرية، الحرية التي يؤكّد الشاعر في نهاية شهادته أنها وحدها التي ستنتصر. وهي ستنتصر فعلاً.