فقير في ضيافة فقير
ثائر غندور
للنزوح أبجدياته. هنا في البقاع تُدرّس هذه الأبجديّات. النزوح ليس وليد قمع النظام للثورة فقط. اللبنانيّون والسوريّون نازحون. الطرفان تخلّت دولتهما عنهما، وتعاطت حكومتا البلدين معهما كالزائدة الدوديّة، يتم التخلّص منها في حال التهبت.
تحار في الخيم، أيّها للنازحين السوريين وأيّها للنازحين اللبنانيين. تحار في المدارس، أي طالب هو النازح. تحار عند سماع تجارب العاملين الاجتماعيين أي شعب هو النازح. نزوح السوريين أكثر سطوعاً من نزوح اللبنانيين.
تحت الشمس، جلست العاملة الاجتماعيّة تروي ما تسمعه وتراه. كانت كمن يتحدث لطبيبه النفسي، أو يعترف للكاهن، للتخلص من عبء ما تجمّع في الذاكرة. تروي قصص أطفال باتت لعبتهم المفضّلة، لعنة حاجز الجيش السوري. يُقسّمون أنفسهم مجموعات. جزء عسكري نظامي والباقون ثوار سلميون. يتمسكون بسلميّة ثورتهم من دون أن يعرفوا السبب. يتعرّض الثوار للضرب والإهانة، والبسمات تعلو وجوههم. وسيلة الضرب المفضلة، خشبة دّقت فيها المسامير.
لا يُكتب كل ما ترويه هذه الناشطة. هي تعمل منذ نحو سنة ونصف السنة في البقاع كعاملة اجتماعيّة. شهدت ارتفاع عدد النازحين منذ أن كانت الأرقام بالآلاف فقط. تقييمها السريع هو “أننا لم نكن نعرف المجتمع السوري”. كما “أننا لم نكن نعرف تماماً الفروق الاجتماعيّة في المجتمع اللبناني”. أمّا لجهة عمل الإغاثة، فهناك نقص كبير في التقديمات، يترافق مع عنصريّة لبنانية. أكثر القصص إيلاماً، قصص نساء فقدن رجالهن في الثورة السورية. هن يُدركن ذلك، لكنهن أكيدات أن الرجال ما زالوا أحياء. يختلقن اتصالات من هؤلاء الرجال. ليس الأمر إنكاراً للموت، بل خوفاً من نتائجه. تصبح النسوة لقمة سائغة للتحرش الجنسي، فيما لو عُرف أنهن بتن أرامل.
قصص التحرش كثيرة. تروي إحدى النساء، أنها تُقدّم جسدها لصاحب أحد الكاراجات ولمن يريد من أصدقائه في مقابل السماح لأمها العجوز المبيت من دون مقابل. لا ترى هذه المرأة أن الأمر غير عادي. هي تشكر الرجل كثيراً. تتشابه القصص في القرى البقاعيّة. الدعارة باتت أمراً عادياً، مقابل مبالغ مالية أقلّ من زهيدة. خمسة آلاف ليرة لبنانيّة أو عشرة آلاف في أحسن الحالات. الحاجة إلى الطعام قاتلة.
معاناة النازحات السوريات لا تُختصر بانتهاك أجسادهن من اللبنانيين. الرجال السوريون غير مقصرين. لا يغيب الجنس عن المشهد بسبب تكدس العائلات في خيمة أو غرفة صغيرة، أو بسبب تأثيرات الحرب النفسيّة على الرجال. لكن غياب الجنس، يتحوّل عنفاً جسدياً ضد النساء. هنّ العنصر الأضعف في المشهد. لكنهن، يُحوّلن هذا العنف إلى عنف ضد الأطفال أيضاً. هكذا، تُخلق دائرة عنف، بدأها نظام البعث ضد شعبه، وانتهت في الوحدات العائليّة الصغيرة. جيل جديد، يكبر على لغة وحيدة وهي العنف.
البحث عن النازحين في البقاع ليس صعباً. في كل قرية نازحون. استأجروا بيوتاً، أو سكنوا الخيام. لكن الخوف يطغى على أحاديثهم. خوف من بطش النظام بأهاليهم الذين ما زالوا موجودين في سوريا. خوف آخر من الواقع اللبناني. يشعرون بدونية كبيرة مقابل اللبنانيين. في المدارس مثلاً، نشهد أوراقاً معلقة تمنع السوريين من دخول حمامات أو قاعات معينة.
لا يُريد النازحون البقاء في لبنان. شهدوا فيه ما يكفيهم. في مركز تجميع النازحين في بلدة المرج، يمتنع الرجال عن الكلام، وتهرب النساء من الكاميرات. يقول الرجال إن ما جرى لهم يكفي. لا يُريدون الكلام أكثر. يستذكرون قراهم وأعمالهم التي تدمرت. تدمع الأعين في لحظات كثيرة، خصوصاً عند السؤال عن العائلة الممتدة. كلهم خسر أفراداً من عائلاتهم. العبارة الشهيرة للنساء هي: بيكفينا ذلّ ما بدنا نتصور.
من لجأ إلى المرج من النازحين، كان حظه أفضل من غيره، بسبب وجود مستويات مقبولة من التنظيم تتولاها البلدية بالتنسيق مع الجهات المانحة. في تعلبايا، مبادرة أخرى ثانية، وهي مدرسة بدوام بعد الظهر، وتعتمد المنهاج السوري ويعلم فيها أساتذة سوريون. يشير رئيس بلديتها إلى أن أبرز مشكلة تواجهه هي أن الطلاب لا يستطيعون الدراسة في منازلهم، “يسكن عشرة أو أكثر في غرفة”، ويُضيف أن المشكلة الثانية هي العنف المتزايد في تصرفات الطلاب.
في تلك المدرسة، كان بعض المراهقين يلعبون كرة القدم، بعد ظهر يوم أحد مشمس. عقولهم في سوريا. يشعرون بأنهم محظيون أكثر من رفاقهم، كونهم بعيدين عن الموت. لا يستوعب هؤلاء فكرة أنهم على مقاعد الدراسة فيما أقرانهم يحملون البنادق للدفاع “عن شرف شعبنا”، يقول أحدهم.
تلك المدرسة، أو مخيم بلدة المرج، هي مبادرة فردية في المجتمع البقاعي. تأتي خارج السياق الرسمي. عمل وكالات الأمم المتحدة مقبول، لكنه بطيء، إذ إن تسجيل النازحين للاستفادة من التقديمات يحتاج لأسابيع. تحاول الجمعيات تغطية هذا النقص. لكنها محاولات غير قادرة على سد جميع الثغرات. الإيجارات المرتفعة عقبة أساسيّة، والحلول حولها غير متوافرة حالياً.
في البقاع اللبنانيون والسوريون نازحون. بدأ النازحون ينافسون بعضهم على لقمة العيش. مجتمع فقير يستضيف شعبا أفقر خرج من بيته هرباً من الموت. المساعدة باتت ضرورية للجميع. لكن المستقبل في سوريا ربما يكون أفضل بعد ثورة أعادت المعنى لإرادة شعب، أما لبنانياً وبانتظار هكذا ثورة، فإن أهل البلد تحولوا إلى مشردين نتيجة سياسات اقتصادية فاشلة وعقلية حكم لا تقيم اعتباراً للبقاع وأهله.
الأكيد أن هؤلاء الذين يتصدرون الشاشات والصحف ويتحدثون بقرف وفوقية وعنصرية تجاه النازحين متهمين إياهم بأنهم يعيشون بنعيم، لم يزوروا البقاع أو الشمال بعد. لم يمضوا نهاراً برفقة هذا الشعب المشرد. التجوال بين النازحين بقاعاً، يؤدي إلى اكتئاب نتيجة شعور العجز الذي يتملك الزائر، اللهم إلا إذا كان مسؤولا قادرا على المساعدة.