فلافل الباسل
ماهر شرف الدين
لم تكن لحظة وفاة حافظ الأسد لحظة وفاة عادية عند السوريين. الإنسان العادي حين يموت ينفلق نصفَين: نصف ينزل إلى الأرض (الجسد)، ونصف يصعد إلى السماء (الروح).
لكنْ في حالة دكتاتور صنع سمعته من الرعب، فإن نصفه الثاني (الروح) سيرفض مغادرة الأرض. سينتشر بين البيوت ويتحوَّل إلى آذان وعيون. العاطفة لا مكان لها عند تلقّي خبر موته. وإذا كان ثمة من مشاعر فهي مشاعر غير واثقة، ولذلك هي غير صادقة. حتى الذين تألَّموا فعلاً للخبر طردت الصدمةُ مشاعرَهم الحقيقية وأجلستْ مكانها مشاعرَ مزوَّرة. حتى الذين سعدوا بهذا الخبر لم تكن سعادتهم حقيقية. حتى الذين شمتوا لم تكن شماتتهم صافية. إن إنساناً حُبس في القبو لمدّة أربعين عاماً حين يرى الشمس للمرّة الأولى لن يعرف كيف يستقبل ضوءها، ورغم كل الدفء الذي تبثّه في جسده إلا أنها حتماً ستُزعج عينَيه اللتين لن يستطيع فتحهما بسهولة لتلقّي هذه الكمّية الفائضة من النور. لقد أعمى بعضَنا الشعاعُ البازغ من خبر موت الدكتاتور، لقد جعلنا نغمض أعيننا. لذلك شعرنا بالخوف والريبة حين سمعنا الخبر، فأقفلنا بابَ البيت علينا.
***
بعد موت حافظ الأسد ببضعة أشهر، كنتُ أقف مع أهل قريتي في مأتم شاب قضى بحادث سير، حين قام رجلٌ جاوز المئة من عمره، وكسرَ أمام الجميع عصاه التي يتوكَّأ عليها، حالفاً ألا يستعملها بعد اليوم، ما دام الشبّان يموتون، وهو العجوز حيّ يرزق!
على مرآنا جميعاً، وضعَ هذا العجوز عصاه على حافة مصطبة «الموقف» (باحة العزاء لدى الدروز)، وقال بيتَين من الشعر قبل أن يدعس على العصا بكل عزمه ويكسرها.
يومها انفجر والد الشاب بالنواح، بينما انفجر أخوته بالسُّخط. وأنا أراقب الجميع مذهولاً بالسحر الذي يستطيع صنعه أناس بسطاء.
العجوز كسرَ عصاه ومشى منتصباً وكأنه كسر سنواته المئة والعشرين مع العصا. عاد شاباً مليئاً بالفخر. صحيح أن كُثُراً انتقدوه بشدّة وقالوا إن في هذا الفعل «استكباراً» و«تجبُّراً»، إلا أن الجميع كان في قرارة نفسه مُعجباً بهذه الحركة الاستعراضية التي لا تخلو من فلسفة للحياة والموت.
***
بقي حافظ الأسد شاباً حتى بعد موته. حكمَ سوريا من قبره كما كان يُردِّد الناس بتسليم كامل.
وفي لحظة إعلان موته برزت قسوته كما لم تبرز يوماً. فقد جرى همسٌ يقول بأن حافظ الأسد كان قد مضى على موته أسابيع عدّة قبل نعيه، وقد وضعوه في برَّاد الموتى ولم يعلنوا وفاته ريثما يُمهِّدون الأرضية للشروع بتنفيذ خطة التوريث.
إذاً، لقد عاش ملايين السوريين طوال أسابيع يهتفون بحياة جثَّة! ويخرجون في المسيرات طالبين «الأبد» لجثَّة! ويسمعون تلفزيونهم يدعو بطول العمر لجثَّة!
كان ذلك مأساوياً بالنسبة إليَّ كشاب في مقتبل العمر. وقد أثارني جداً التفكيرُ بأنه في وسع مومياء مثلَّجة أن تحكم بلداً بأكمله، بأنه في وسع جثَّة رجل عجوز أن تثير الرعب في قلوب ملايين الناس.
لقد برز حافظ الأسد قاسياً حتى في موته.
***
هستيريا من النفاق والدَّجَل اندلعتْ فور إعلان خبر الوفاة.
كان الشعراء في المقدّمة لرثاء الرجل الذي «لم يحلم بهِ في الملاحم الشعراءُ»! والذي لولاه «لكان العُرْب ما وُجدوا»!
كتبتْ شاعرةٌ تقول إن حافظ الأسد هو الميِّت الذي يُحيي! وكتبتْ زميلةٌ لها تُطالب الأبجدية بأن تكون «مليارَ حرف» كي تستطيع إيفاء الأسد الراحل حقَّه! شاعرٌ آخر أقسم بأن الموت لم يكن موجوداً ولم يسمع به الناس حتى مات حافظ الأسد!
وفي حومة الدَّجَل تلك، لم ينسَ هؤلاء المنافقون التبشير بالأسد الابن. أحد الشعراء أصدر حكمه المبرم بأن بشار الأسد، الذي كنا آنذاك لا نعرف عنه شيئاً، «أعدلُ مَن يسودُ ويحكمُ»! شاعر آخر تغزَّل بوجه الأسد الابن كما يتغزَّل شاعر بوجه محبوبته: «عشقتُ وجهَكَ يا بشار…»! قبل أن يتحدَّث عن «حرقةَ اللهب» التي تعتمل في قلبه!
لم يتركوا شيئاً يمكن أن يُقال في مديح أبطال الحروب وأبطال السينما على السواء إلا وقالوه في الرئيس الوريث، حتى طوله كتبوا عنه وامتدحوه! حتى مجلس الشعب الذي عدَّل الدستور في خمس دقائق من أجل انتخاب الأسد الابن امتدحوه: «يا مجلس الشعب الوفيّ بجُلَّق»! أحد الشعراء قال بأنه حين سمع كلمة «نعم» في مجلس الشعب أُصيب بحالة انصهار عاطفي!
***
في الحقيقة إن مسألة انتقاء الألفاظ في المديح هي مسألة غاية في الجدّية والخطورة في الدول الدكتاتورية. لذلك يلجأ الشعراء المنافقون عادةً لإبراز المبالغات في الوصف كي يحموا أنفسهم في حال أخطأوا في انتقاء الصورة المناسبة. فكتابة بيت من الشعر يمتدح طول بشار الأسد مخاطرة لأن هذا الطول الزائد ربما يكون بمثابة العقدة الحساسة عنده وتناولها بطريقة غير مُحكَمة ربما يزعجه.
حين ضربتْ سوريا حمَّى «الباسل» منتصف التسعينيات على شكل مئات التماثيل وملايين الصور وآلاف المحال والصالات والمراكز المسمَّاة باسم باسل الأسد، قام أحد الشبّان البسطاء في مدينة الشدادي، حيث كانت تقيم أسرتي، بافتتاح كشك بسيط لبيع الفلافل سمَّاه: «فلافل الباسل».
كان الكشك بائس المنظر، مصبوغاً باللون الأزرق الغامق، ذا سقف من الصفيح، وعبارة «فلافل الباسل» مكتوبة بخط اليد بشكل رديء.
لم يتوقَّع الشاب إطلاقاً أن هذه التسمية ستُعرِّضه لتحقيق عنصر أمن معه! بل على العكس تماماً، هو اعتقد أن إطلاق اسم «الباسل» على كشكه سيُعطيه امتيازات، أهمها عدم تعرُّض عناصر المخابرات له، حيث أنهم يتدخّلون في كل شيء يتعلَّق بالسوق.
جاء إلى الكشك رجل مخابرات، ككل رجال المخابرات في سوريا يضع نظارات سوداء ويُثبِّت مسدَّسه على خصره بشكل بارز ليُرهب الناس، وبدأ يوبِّخ الشاب المسكين لأنه تجرأ ووضع اسم «الباسل» على محل لبيع الفلافل!
ومن شدَّة خوفه اقتنع الشاب فعلاً بفداحة الجريمة التي ارتكبها حين قرنَ اسماً مقدَّساً كـ«الباسل» بأكلة شعبية رخيصة كالفلافل، وراح يعتذر مُقسِماً لعنصر المخابرات بأنه لم يقصد أي إهانة للاسم، ثمَّ سأله – وبشكل بريء وساذج – السؤال الآتي: «ما رأيك أن أُحوِّله إلى محل شاورما… شاورما الباسل؟».
أُسقطَ رجل المخابرات في يده، ولم يعرف بماذا يُجيب، لذلك أخبره بأنه سيأتي له بالجواب في الغد.
ومضى الغد وبعده، وبقي الكشك كشكَ فلافل، وبقي اسم «الباسل» عليه، وصرنا كل يوم في طريق عودتنا من المدرسة نلمح عنصر المخابرات واقفاً أمام الكشك يلتهم بنهمٍ سندويشة الفلافل التي لم يكن يدفع ثمنها بالتأكيد، غير مكترثٍ باسم «الباسل» الذي تسخَّمَ كثيراً مع مضي الوقت بسبب الدخان المنبعث من الوعاء الكبير لزيت القلي.
كلنا شركاء