فلسطينيو الثورة السورية بين جيلين وهويتين: أهملتهم «منظمة التحرير» وتنكّرت لهم مؤسسات النظام السوري/ راشد عيسى
بدا المشهد الثقافي الفلسطيني في سوريا عشية الثورة السورية خاوياً تماماً، جاء ذلك بعد فترة السبعينيات والثمانينيات الذهبية حين كان الفلسطينيون، فلسطينيو مخيم اليرموك بالذات، يشكلون مركز استقطاب حتى لنخبة من المبدعين السوريين، وذلك بسبب الصحافة الفلسطينية (الفصائلية) المنتعشة آنذاك، والتي استقطبت أسماء بارزة كسعدالله ونوس وممدوح عدوان ونزيه أبو عفش وسواهم.
كان مخيم اليرموك حجر الزاوية، عندما كان ملاذاً لسوريي المدن والقرى البعيدة. لطالما سمعت ذلك من مبدعين باتوا اليوم في صدارة المشهد الإبداعي في سوريا، كيف احتضنهم المخيم، وكيف كان ملاذهم الدافئ، بسبب من تلك الحيوية الثقافية المرتبطة بحالة ثورية ناهضة. أما في سنوات التسعينيات فقد تبدلت الصورة تماماً، لقد أدى طرد «منظمة التحرير» من لبنان والأزمة السياسية مع النظام، إلى تناقص الحيوية الثقافية الفلسطينية في سوريا، مع ابتعاد مؤسسات المنظمة عن لبنان وسوريا. ما تبقى من فصائل فلسطينية جرى تطويعها من قبل النظام السوري، فكانت صحافتها وإعلامها عموماً يدور في فلك النظام لا في الفلك الفلسطيني. كما تدهورت حال الصحف الفلسطينية البارزة، ومثالها «الحرية»، «الهدف»، هاتان المجلتان اللتان ارتبطت سمعتهما بأسماء وعلامات فارقة في تاريخ الثقافة الفلسطينية، وربما العربية. باتت الفعاليات الثقافية في حدودها الدنيا. خصوصاً أنها كانت تتطلب موافقات أمنية مضاعفة عمّا تتطلبه فعاليات سورية مماثلة.
ما تبقى من مبدعين فلسطينيين في سوريا كانت صحف «اتحاد الكتاب العرب» (بزعامة الطاغية الأصغر علي عقلة عرسان) ملعبهم الأثير، وكذلك بعض الصحف الرسمية أو الخاصة. نتحدث هنا عن شعراء أو قصّاصين وروائيين، أما على مستوى الفنون الأخرى كالمسرح والسينما والموسيقى فالأسماء قليلة إن لم تنعدم. لا محاولات سينمائية أو مسرحية تذكر، خصوصاً بعد انقضاء تجربة «المسرح الوطني الفلسطيني» الذي كان له الفضل في صعود أسماء مثل المخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي. المشتغلون في هذه الأنواع الإبداعية عملوا في إطار المؤسسة الرسمية، أو غير الرسمية في أعمال سورية الطابع. على مستوى فنون الأداء كانت لافتة جداً أعداد الراقصين الفلسطينيين الذين وجدوا ضالتهم في فرقة «إنانا»، أو سواها من الفرق الراقصة التي مثّلت سوريا، استوعبت هذه الفرق عدداً آخر من الموسيقيين الذين ترّبوا في فرق الفصائل الفلسطينية، «العاشقين» على سبيل المثال. هذا يعني أن البيئة الفلسطينية كانت خصبة للغاية، ومليئة بالمواهب، وكانت هذه حائرة في انتمائها وهويتها ووجهتها، حيث لا مؤسسات فلسطينية ترعاهم، ولا هموم فلسطينية خالصة أتيح لها الظهور.
محاولات للتوثيق
أول النتائج المباشرة لاندلاع الثورة السورية أنها دفعت الفلسطينيين للتفكير بهويتهم من جديد، فمن كان يرفض الانتماء إلى سوريا، رغم أنه ولد وعاش فيها ولا يعرف غيرها مكاناً، بات يسارع لإعلان فخره بهذه الإضافة المشرّفة على هويته، نستطيع أن نلاحظ الكثير من كتّاب ومبدعين يصرّون على تعريف أنفسهم بـ «فلسطيني سوري». ذلك الانتماء وجد تعبيره على الأرض، قبل أن ينخرط المخيم بشكل كليّ في أتون الحرب، كان كثير من أبناء المخيمات الفلسطينية عموماً يشاركون السوريين في التظاهرات وفي أعمال الإغاثة، وقد دفعوا مثلهم أثماناً باهظةً، قتلاً أو اعتقالاً وتشريداً.
مخيم اليرموك، وهو يصلح نموذجاً لمعظم المخيمات الفلسطينية الأخرى، بقي متردداً بعض الشيء، ويمكن القول إنه كان مقسوماً لأكثر من رأي، ضد النظام، كما ينبغي أن يكون من تعرّض للظلم مثله مثل أشقائه السوريين، أو مع النظام كما حدد لأبناء الفصائل- الدكاكين، إلى جانب جزء حاول أن يدفع المخيم إلى الحياد، خصوصاً أنه تحوّل إلى ملاذ للنازحين من أحياء دمشقية أخرى. غير أن قصف النظام لم يوفر موالياً ولا محايداً ولا معارضاً. قُصف المخيم، وضُرب بطائرات الميغ، وهنا بدأت محاولات التوثيق نابعة من حاجة لإقناع المعاندين بأن النظام لا غيره هو من يقصف.
اندفع الشبان مع كاميراتهم ممتلئين حماساً ورغبة للقول، هكذا وجد طالب الإعلام المستجد ثائر السهلي نفسه بمواجهة تجربة ضخمة حين راح يلاحق طائرة الميغ وما خلّفته من قصف في المخيم. صنع فيلمه التسجيلي «ميغ»، ليحكي تجربته الشخصية ووضعه تحت القصف، ويلاحق ما حلّ بأمكنته وشوارعه الأثيرة. إذا تسنّى للمرء أن يستمع لتجربة السهلي سيدرك إلى أي مدى أنضجت هذه التجربة الهائلة هؤلاء الشبان.
بين جيلين
الكاميرا التي صارت بمتناول الشبان، والأهم الفرصة الكبيرة بأن يجدوا من يستمع إليهم، حيث العالم كله بانتظار لقطة، صوت، كلمة من تحت القصف، كل ذلك دفع بأصحاب المواهب الأصيلة إلى الظهور، هنا لا بد أن تُشفَع الموهبة مع الشجاعة، وهذه لم تكن تنقص شباب اليرموك وسواه من مخيمات. ظهرت العديد من المبادرات، شاهدنا الشاب حسان حسان وهو يؤدي مقاطع تمثيلية ويبثها عبر اليوتيوب، وهو سيعتقل من قبل قوات النظام ويقضي تحت التعذيب، ليكون هو ذاته موضوعاً لأفلام مثل «شهادة وفا» لزميله حسن طنجي، المخرج الشاب الذي سينجز عدداً من الأفلام التسجيلية القصيرة من قبيل «برج البراجنة» و»رقم». ويعدّ سامر سلامة لإنجاز فيلمين واحد بدأه الشهيد حسان حسان ولم يكتمل، والثاني يتعلق بحق العودة. سلامة لم يولد سينمائياً بعد الثورة، فهو يحاول منذ سنوات شقّ هذا الطريق. وكنا شاهدناه أحد أبطال فيلم الفرنسي أكسل سلفاتوري – سينز «شباب اليرموك»، وفيه يظهر مجموعة من شباب المخيم الذين يهجسون بالفن والإبداع والكتابة. وهناك أيضاً الشابة تسنيم فريد، إحدى أبطال الفيلم التسجيلي «أنا مع العروسة»، الذي يتابع تجربة لاجئين سوريين وفلسطينيين عبر البحر، وهو للفلسطيني السوري خالد سليمان الناصري إلى جانب مخرجين إيطاليين.
ما يهمنا الآن في فيلم أكسل سلفاتوري – سينز عن شباب اليرموك أنه عرض لجانب من الطاقات الإبداعية لشباب المخيم. والتي سرعان ما ستثمر في وقت قريب من إنجاز الفيلم حين يصادف اندلاع الثورة السورية، وانخراط المخيم فيها، تثمر فيديوهات وأغاني وأفلاما تسجيلية. من ينسى تلك الظاهرة الفريدة تحت حصار اليرموك، ونعني مشهد البيانو الذي يتنقل مع الفرقة الغنائية في أنحاء المخيم المدمر، ليستمر الغناء من دون أن يعبأ بما يجري حوله؟
قد يكون من غير المهم الآن أن نحصي ما أُنجز على أيدي فلسطينيي سوريا بعد الثورة، وقد لا نقع على أعمال إبداعية فائقة الجودة، بل تقترب من كونها محاولات أولى أنجزت تحت الضغط. لكن ما يهم أنه جرى الكشف عن جيل واسع من الطاقات الإبداعية، التي تنتظر فقط المؤسسة الحاضنة، والتدريب اللازم، وقسط من الحرية. إنه تحوّل كبير من دون شك، وقفزة بين جيلين من المبدعين الفلسطينيين في سوريا، جيل عاش في كنف النظام، متمثلاً بـ «اتحاد الكتاب العرب»، أو «اتحاد الكتّاب والصحافيين الفلسطينيين- فرع سوريا»، وجيل طافح بالرغبة في القول والتعبير مكّنته الثورة السورية في أن يقول على هواه ما يريد. ليس علينا الانتظار طويلاً إذاً، إنهم قادمون.
باريس
القدس العربي