فلسفة الاستشراق: عن غرامشي وفوكو وإدوارد سعيد/ د. مدى الفاتح
في مقدمة كتابه الأشهر عن الاستشراق، وخلال تعرضه للربط بين الثقافة والإمبريالية، وهي الفكرة التي سوف تتطور لاحقاً لتشكل كتاباً بهذا العنوان، سوف يستعين إدوارد سعيد بالتفرقة التي تحدث عنها الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937) بين المجتمعين المدني والسياسي.
يقول غرامشي إن «المجتمع المدني» يتكون من روابط ووشائج اختيارية وغير قسرية كالمدارس والعائلات والنقابات، في حين يتشكّل «المجتمع السياسي» من مؤسسات الدولة، أي الجيش والشرطة وما يدخل في نطاق «الجهاز المكتبي المركزي»، وكلها تلعب في نظام الحكم نوعاً من السيطرة المباشرة. أما الثقافة فتقع حسب هذا التعريف ضمن نطاق المجتمع المدني، وهنا يأتي تأثير المدارس والأفراد الآخرين والمؤسسات الذي لا يكون عبر السيطرة المباشرة والظاهرة، بل عبر ما سماه غرامشي الإقرار أو الرضا.
عن طريق هذا الإقرار تسود ثقافة معينة داخل المجتمع، مكونة هويته ومهيمنة على غيرها من الثقافات الأخرى. من هنا سوف ينحت غرامشي، وسوف يتبعه في ذلك إدوارد سعيد، مصطلح «الهيمنة الثقافية»، إلا أن سعيد سيعمّق هذا المصطلح، حينما يقوم بتطبيقه على المجتمعات الغربية ليخبرنا بأنه بهذه الهوية المهيمنة سوف تتحدد الثقافة الأوروبية الغربية، التي لن تعرّف نفسها إلا في مقابل الآخر المشرقي. الاستشراق بهذا المنطق ليس سوى وجهة نظر هوياتية غربية مقابل الهويات الأخرى، وهي وجهة تستند إلى مزاعم التفوق الأوروبي مقابل التخلف الشرقي، وتحاول عبر إدعاء العلمية والموضوعية والمنهج العلمي أن تثبت ذلك التخلف وأن تنسب للمشرقيين، خاصة العرب والمسلمين، كل نقيصة.
سوف يسهب سعيد في ذلك عبر التمثيل ببعض النماذج البحثية والأدبية، من أجل التدليل على تورّط المثقفين الغربيين المقصود في تثبيت وتبرير الهيمنة الثقافية ـ كل هذا على أهميته ليس الارتباط الوحيد بين المفكر العربي والفيلسوف الإيطالي، بل إن هناك ارتباطات فكرية أخرى، فإدوارد سعيد هو مثال لما كان يسميه غرامشي بالمثقف العضوي، أي المثقف الذي لم يكن يقصر نفسه ونطاق عمله بدواوين الحكومة البيروقراطية أو الانغلاق خلف نوافذ الدرس والأكاديميا المنفصلة عن الواقع، بل الذي يندمج في قضايا مجتمعه وبيئته، فيؤثر ويتأثر، وينفعل بهذه القضايا التي لا يتعامل معها كمتفرج، بل كجزء أصيل منها.
كان ادوارد سعيد مثالاً لكل ذلك، فقد كان الأسهل بالنسبة إليه أن ينحصر بدوره الأكاديمي كأستاذ مرموق للأدب في جامعات الغرب، وأن يكتفي بالوجاهة العلمية وبما يوفره له وضعه الأكاديمي من ميزات، إلا أنه آثر الالتصاق بهويته الحقيقية، كما آثر أن يوظّف وضعه ومكانته العلمية ومقدراته البحثية في سبيل الدفاع عن الحق الفلسطيني وفضح ادعاءات وتزوير مغتصبي أرضه.
لو لم يكن سعيد مثقفاً عضوياً لما كنا لنذكره اليوم، إلا ربما في إطار أكاديمي ضيق، لكن توسيع مجالات عمله وربطه بشكل غير متكلف بين السياسة والثقافة والعلوم الاجتماعية قد أكسب اسمه أهمية من نوع خاص وتألقاً.
أما علاقة إدوارد سعيد بالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926- 1984) فهي علاقة أكثر تعقيداً، حيث تبدو نقاط التشابه بين الرجلين أكثر من أن تعد أو تحصى. يظهر تأثر سعيد ،على سبيل المثال، بالأفكار التي وضعها فوكو في كتابه «السلطة والمعرفة» التي أوضح فيها كيف أن السلطة تلجأ دائماً لصنع معارف على قياسها وبما يخدم مصالحها، مع توضيحه أن ما يقصده بالسلطة لا ينحصر فقط بالسلطة السياسية، وإنما يمتد ليشمل حتى سلطة الأعراف أو سلطة المعلم أو الأب في المنزل. قبل أن نتابع يجدر بنا أن نوضح أمراً قد يخلق بعض الالتباس عند القارئ، وهو أن بحثنا عن حدود التأثر والتأثير لا يعتبر خصماً على إدوارد سعيد أو غيره، فالمفكر في جميع الأحوال لا ينطلق من فراغ، وإنما يبني على ما سبق واضعاً بصمته ومضيفاً رؤيته حول موضوع معين. على سبيل المثال فإننا نجد جذور فكرة «السلطة والمعرفة» هذه عند معلم فوكو لويس ألتوسير الذي تأثر بأفكار كارل ماركس الثورية، التي كانت تمثل بدورها تطويراً لما وضعه الألماني هيغل.
إدوارد سعيد نفسه سيتحدث عن هذه المؤثرات بامتنان، تماماً كما كان فوكو يتحدث بامتنان عن فلسفة وأفكار ألتوسير أو نيتشه أو هايدغر، التي اعترف بأنه لولاها لما استطاع استكمال مشروعه. مثل فوكو سوف ينتقد سعيد السلطة، بالتركيز على سلطة الاستعمار، من أجل إثبات أن المعرفة التي أنتجتها هي مجرد معرفة مضللة لا يمكن الوثوق بها. يقول إدوارد سعيد إنه يدرس الاستشراق بوصفه تبادلاً حيوياً بين مؤلفين أفراد والمؤسسات السياسية الواسعة التي شكلتها الامبراطوريات العظيمة الثلاث: البريطانية والفرنسية والأمريكية التي أنتجت الكتابة الاستشراقية ضمن حدودها الفكرية والتخيلية. من هنا تنبع أهمية وعصرية بحث الاستشراق، ليس لجهة تحليل السلطة الاستعمارية وما خلفته من قراءات مغلوطة وافتراضات عن الشرق والإسلام فقط، ولكن لتحليل العلاقة الجديدة التي أنتجتها دولة ما بعد الاستعمار مع الرأي الشعبي العام، والتصورات المجتمعية ومحاولاتها الحثيثة من أجل وضع كل ذلك تحت السيطرة وفي الإطار الذي يخدم مصلحتها.
تساعدنا كتابات إدوارد سعيد والمنهج النقدي والتتبعي الذي استخدمه بالاستناد إلى فوكو وغرامشي وغيرهما، على إعادة التفكير في المرحلة الاستعمارية باعتبارها مرحلة لم تنته، إلا بعد أن ساهمت في وضع التصورات الذهنية التي سنخضع لها في دول ما بعد الاستعمار. الاستقلال قد تم من الناحية النظرية، لكننا في الواقع ما نزال مقيدين ضمن أطر التصورات والتعريفات التي صاغها المستعمر لنا ولهويتنا. من الاستشهادات المثيرة في هذا النطاق ما ذكره سعيد نقلاً عن تقرير اللورد كرومر السنوي الأخير: «القومية المصرية كانت فكرة طارئة كلياً وغرساً لم ينبت في تربة محلية، بل غربية». الإحالة لشخصية مثل كرومر لم تكن عبثية، فكرومر لم يكن مجرد إداري مهم، بقدر ما كان جزءاً من مشروع سياسي غربي يعتبر الاستشراق ذراعه الثقافي. لعب كرومر أدواراً متباينة في الشرق وكتب «حكم الأعراق الخاضعة» وهي المقالة التي سيحاول فيها أن يوضح كيف بإمكان بريطانيا أن تسيطر على مستعمرات كبيرة وشاسعة ومترامية الأطراف. ستكون المقالة وصاحبها محط نظر سعيد. كرومر صاحب كتاب «مصر الحديثة» الذي عمل بجد على «تشريق الشرق»، وهو تعبير «سعيدي» يشير إلى محاولة صنع مشرق بمواصفات خاصة، لن يكتفي بالتنظير الثقافي فقط، بل سيعمد إلى السيطرة على التعليم والثقافة ووسائل الإعلام، التي أوجد فيها أصواتاً تنقل أفكاره وتستلهمها وتتعامل معه كمثقف كبير وحر. على سبيل المثال فإنه وبتاريخ السابع من يوليو 1906 وفي خضم انشغالها بانتقاد فكرة «الجامعة الاسلامية» التي كان ينادي بها الكثير من المواطنين، كانت صحيفة «الوطن» تبرز تصريحاً للورد كرومر يقول فيه إن هذه الفكرة هي خرافة وحلم وأن المنادين بها ليسوا سوى حمقى أو مجانين.
سيسبقنا إدوارد سعيد حين يلفت لوجود شبه بين كرومر وهنري كيسنجر، رغم اختلاف الزمان والسياق. أما الأسئلة التي ناقشها من قبيل السؤال عن العلاقة بين السلطة والمعرفة، فسيظل الكثير منها، ولوقت طويل، مفتوحاً.
كاتب سوداني
القدس العربي