فيضان المستنقع الأسدي
د.خالد الحروب
من ناحية نظرية بحتة وفي مواقف وقضايا سياسية كثيرة تبدو سياسة “النأي بالنفس” حكيمة ومُتصفة بالحصافة. وعندما تتعقد الجوانب وتتفاقم المخاطر المحتملة من أزمة سياسية ما فإن الحياد الذي تلتزمه بعض الدول والأطراف والمنظمات، خاصة في الجوار الجغرافي الأقرب، يكون مفهوماً بل ومُحبذاً. وعندما يكون الصراع المُحتدم أكبر بكثير من طاقة تحمل دول الجوار الصغيرة فإن “النأي بالنفس” يُصبح استراتيجية دفاع وبقاء. والشرط الأولي والأهم لنجاح هذه الاستراتيجية هو وجود حد أدنى من العقلانية والبراغماتية السياسية عند الأطراف المتخاصمة بحيث تنأى هي الأخرى بنفسها عن أطراف “النأي بالنفس”، لأن في ذلك تحقيقاً لمصلحة المتخاصمين، ذلك أن كلاً منهم يقر بأن بقاء طرف ما على الحياد أفضل من انحيازه للخصم. ولكن عندما ينعدم الرشد تماماً عند أحد الأطراف المتخاصمين من خلال تصميمه على توريط الآخرين في الدم وتصدير الأزمة إليهم، أو عندما تفيض الأزمة عن حدودها الجغرافية ويشكل استمرارها تهديداً استراتيجياً وأمنياً لأحد الأطراف المحايدة فإن استراتيجية “النأي بالنفس” تصبح انتحاراً سياسياً.
والنظام الأسدي هدد كثيراً، وها هو الآن قيد تنفيذ تهديداته، بإغراق المنطقة في مستنقع من الفوضى والحرب والدم. وكل دول الجوار ستدفع الثمن، ولن تهنأ دولة بالأمن طالما أن أمن العصابة الحاكمة في دمشق مُهدد، هذا هو جوهر استراتيجية “أنا أو الدمار الإقليمي الشامل” التي يتبناها الأسد. ومعالم هذه الاستراتيجية وإعلاناتها تتكرر يومياً، إن على شكل تصريحات أو ممارسات وتعديات ومحاولات تصدير للأزمة على الحدود التركية واللبنانية والأردنية. والإطار الأعم للاستراتيجية هو تحويل المعركة العادلة للثورة السورية المُنتفضة على نظام مُستبد وفاسد إلى معركة “نضال إقليمي” يتورط فيها الجميع وتصبح مصلحة الكل مرهونة بالحفاظ على نظام الأسد وإجهاض الثورة. وليس هناك ذكاء خارق في اجتراح هذه الاستراتيجية إذ لولا انحياز روسيا بوتين المتوترة والباحثة عن دور في السياسة الدولية، ولولا انحياز إيران إلى جانب “مُستكبر دمشق” ضد “مستضعفي” سوريا كلهم، لما كان هناك أدنى فرصة لاستمرار النظام في الحكم حتى هذه اللحظة.
وتوازن، أو بالأحرى، لا توازن القوى في المعركة على مستقبل سوريا يُشير إلى أنها ستطول، وإطالتها لا تصب وحسب في مصلحة النظام الأسدي، بل وتفاقم من منعكساتها على المنطقة وخاصة دول “النأي بالنفس” في الجوار، وفي مقدمتها الأردن ولبنان. فهذان البلدان هما من يعاني الآن وبشكل مباشر من مخاطر فيضان المُستنقع الأسدي وهو المقصود والمُستهدف تماماً من قبل النظام. ومقارنة الوضع الراهن سواء داخل سوريا، أو المنعكسات الحالية للأزمة على الأردن ولبنان بما كانت عليه الأمور في نفس الوقت من السنة الماضية، تدلل على المنحى الحاد والمُتدهور وزيادة المخاطر على البلدين. والأكثر قتامة في الصورة هو أن هذا المنحى ما زال حاد الانحدار بما ينبئ بحالة أسوأ بكثير بعد عام من الآن. فإذا كانت التحديات الإنسانية والأمنية والمعيشية التي يفرضها وجود مئات الألوف من اللاجئين في البلدين تستنزف مقدرات حكومتيهما، فلنا أن نتوقع الحال عندما تتفاقم هذه الأعداد، وهو الأمر المرشح حدوثه في ظل استعار المجازر التي يقوم بها النظام في كل أرجاء الوطن السوري.
فاتت الفرصة الذهبية في تأييد دول الجوار وخاصة الأردن للثورة السورية في مرحلتها السلمية الأولى، وعندما كان الملك الأردني أول من تحدث وبجرأة عن ضرورة رحيل الأسد وخضوعه لمنطق المطالبات الشعبية العارمة. ثم فاتت الفرصة الفضية اللاحقة بتأييد الثورة السورية التي أجبرت على التحول إلى مسلحة من قبل النظام، وعندما كان الجيش الحر وعلى ضعف إمكانياته هو العنوان الرئيسي للحركة المسلحة وقبل دخول جماعات التطرف والتعصب وبروز جبهة النصرة، ثم فقدان الثورة لوضوحها الأولي مع ازدياد الشحن الطائفي والثقافة “القاعدية” التي جاءت مع تلك الجماعات. وكانت إمكانية تسليح الجيش الحر وتقويته وتوثيق هرميته مع المجلس الوطني السوري أولاً ثم الائتلاف لاحقاً ما زالت قائمة بحيث تقوم بنية سياسية-عسكرية موحدة تكون هي الناطق الرسمي باسم الثورة والشعب السوري، والطرف الأكثر فعالية من ناحية عسكرية.
وتتحمل الولايات المتحدة والغرب المسؤولية الأكبر في التردي الذي آلت إليه أمور الشعب السوري وثورته وهو يواجه آلة الدمار الأسدي/ الإيراني/ الروسي، وهي مسؤولية تتمثل في وضع الخطوط الحمراء أمام تسليح الطرف الأهم في الثورة السورية. وتلك الخطوط أتاحت لجبهة النصرة وغيرها أن تتمدد وتسلح نفسها وتعتمد على التدريب والتأهيل الذي يتمتع به أفرادها، وبالتالي تصدر جبهة القتال ضد النظام. ولكن الدول العربية مجتمعة مع تركيا تتحمل مسؤولية لا تقل عن المسؤولية الأميركية والغربية وتتمثل في أمرين: الأول هو التجاوب مع المطالب الأميركية بعدم تسليح المعارضة والوقوف عند النقطة التي ترسمها واشنطن ولا يتم تعديها، والثاني هو التمسك بسياسة “النأي بالنفس” عند بعض الدول العربية، وخاصة دول الجوار كالأردن، على رغم اتضاح مسار الأمور وفجاجة الاستراتيجية الأسدية في تصديرها الأزمة بلا تردد للجوار الإقليمي. وكل ذلك صب ولا زال يصب الحَبَّ في طاحونة النظام ويطيل من عمره، ويطيل بالتوازي من هول المجزرة التي يتعرض لها الشعب السوري.
والأمر الثاني هو التغافل عن كون حسابات العواصم الغربية وخاصة واشنطن وبروكسل ومصالحها الحالية والمستقبلية والمحتملة في سوريا ومآلاتها تختلف عن حسابات ومصالح الدول العربية ومحددات صناعة القرار فيها. وبوصلة صوغ المصلحة والسياسة الأميركية والأوروبية إزاء سوريا هي “أمن إسرائيل”، وهي البوصلة التي كانت قد حكمت تلك السياسة إزاء حكم عائلة الأسد، الأب والابن، طيلة العقود الأربعة الماضية. وطالما كانت العائلة حارسة على أمن إسرائيل كان الغرب جاهزاً لتقديم كل تنازل، بما في ذلك التغاضي عن ابتلاع دمشق للبنان كله لفترة مديدة من الزمن. وعلى ذلك فإن مقدار التأييد للثورة السورية ينضبط على هذا المقياس: هل سوريا ما بعد الثورة تشكل تهديداً أكثر أم أقل على إسرائيل؟
أما الحسابات العربية فمن المُفترض أن تقودها بوصلة ثانية وهي تغول النفوذ الإيراني في قلب المنطقة العربية. وأي نظام يرث النظام الأسدي سيكون أفضل للعرب، وأفضل لمواجهتهم مع إسرائيل لأنها لن تكون مواجهة خطابية هدفها الإبقاء على نظام حكم معين. ولكن هزيمة الثورة السورية معناها سقوط سوريا في الحضن الإيراني لعقود قادمة، وربما سقوط لبنان أيضاً، وتهديد الأردن. ومعناها ترسخ النفوذ الإيراني طولاً وعرضاً. وتلكؤ العرب و”نأيهم بأنفسهم” عن الثورة السورية لن يضمن لهم دحر المخاطر، بل هو خداع للنفس، وغدا أو بعد غد ستضطر العواصم “النائية بنفسها” لأن ترد على القبضات الإيرانية وهي تدق على بوابات عواصمها.
الاتحاد