في أصول صفة “مناضل”
دلال البزري
فخّم المذيع بضيفه وامتدحه حتى الملَل: إبداعية هذا الأخير، فرادة إنتاجه، شيوعه، تجديداته الفنية… كل هذا تخللته إشارات من هنا وهناك، تكلّل الضيف بالصفات الحميدة، وعلى رأسها صفة “المناضل”. لم ينعته بالـ”مجاهد”، ولا بالـ”ناشط”، على ما هو سائر الآن في وسط البارزين من بين المكافحين من أجل هناء حياتنا. فالضيف أصبح “مناضلاً” منذ سبعة وثلاثين عاماً، في بداية الحرب الأهلية، عندما قرر أن يلتحق بالمنطقة “الوطنية”، آنذاك، مضحياً بسكنه وأشياء أخرى… ومنضماً الى المنطقة التي كانت تحمل، آنذاك، “القضية الحقّة”. ولا يمكن، من غير تزوير، أو إنقلاب في العقيدة، أن يتحول هذا “المناضل” إلى “مجاهد”، لأن المجاهد من زمن لاحق، عندما تكوّن مشروع مناطحة الإمبريالية والصهيوينة (لفظان لا يخرجان إلا من أفواه ملآنة) في ظلال الإسلامية الايرانية؛ مع أنه يشترك مع “المجاهد” في “الأهداف الأسمى”، بل تكوّنت نضاليته على أولوية هذه المناطحة، لكن ضيفنا ليس إسلامياً ولا مسلماً. صفة “الناشط”، بدورها غير ممكنة: فضيفنا على مشارف الستين من العمر، وليس معقولا في هذا العمر أن ينزل إلى أهداف جزئية، محدّدة، كالتي تسم عموم نشاط الناشطين، مثل االبيئة وحقوق الانسان والعمران والنساء والنظافة والزواج المدني… الخ. لا يمكن له على مشارف الستين أن يشمر عن ذراعيه ويخوض في تفاصيل طفيفة، لا تقاس بشمولية الأولوية… الإمبريالية والصهيونية. لذلك لن ترى وسط الناشطين إلا ناشطين، لا “مناضلين”.
“المناضل” هو أيضاً رجل من عصر آخر. انبنت صفته النضالية في بداية شبابه، حيث كانت “لحظة تأسيسية”، اضطر فيها إلى التضحية بشيء ما (بيئته، صاحبته، طائفته، عمله، امتيازاته)، ليلتحق بالفريق الذي كان “معه حق” وقتها، وكله يدور في الفلك اليساري. أو انه، ببساطة، وجد نفسه، في شبابه أيضا، في عصف من الأفكار والنشاطات (النضالات)، فانجرف فيه ومعه، حتى صار النضال سياق حياته. نحن اذن أمام نموذجين: مناضل بتضحية، كبيرة او متوسطة او صغيرة، ومناضل في سياق.
ثم مرّت العقود الأربعة، وفعل الزمن بصفة “المناضل” ما يفعله بالشباب: أفسده وأذبله، فأدخله في لعبة “التخَضْرم” (مخضرم). ما مكّن المناضل من تشكيل حالة تتراوح بين حدّين: الحدّ الأدنى، هو التمتع برأس مال معنوي، أساس وجاهته، يرسم هالة حول صاحبها، بالكثير، أو القليل أحياناً، من العبوس والتجهّم. يدخل ضمن هذا الحدّ مناضلون “عاديون” إذا صحّ التعبير، عموم المناضلين الذين لا يتجاوز قطر تأثيرهم حدود العلاقات الشخصية أو العائلية. في الحدّ الأقصى من هذه الحالة، يقع المناضلون النجوم، أصحاب مواهب خاصة في الفن أو الكتابة أو السياسة، يتباهون بـ”نضاليتهم” ، برأسمالهم الرمزي هذا، بلا هوادة، ينطقون بالكلمة-الصفة مرات قليلة، كأنها جوهرة. ولكنهم عندما يظهرون أمام الناس، خصوصاً على الشاشة، كل تعبيرات وجههم (خصوصاً تجهّمهم) وجسدهم تنمّ عن تكبدهم للحمل الثقيل الذي حملوه على ظهرهم طوال كل هذه العقود، وهم مناضلون، صابرون… من هنا يغرفون الحق، ليكون معهم.
ما يجمع الحدّين الأدنى والأقصى هو نوع من الاعتزاز بالثبات على الأفكار والمواقف، نوع من الوفاء، يسمونه “صلابة”، تمأسست بفضله هالةٌ هي أغلى رأس مال يمكن أن يجنيه المرء من عمره. ما يجمعهما أيضا، ذاك الشعور العميق بالتفوق الاخلاقي على الذين “نزلوا من القطار”، فتقهقروا وتخاذلوا وخانوا وبيعوا… ولم يعودوا، مثلهم، مناضلين. وكأنهم ما زالوا هم مناضلين… كأن الزمن، مرة أخرى، لم يأتِ على نداوة المعنى الأول لصفتهم هذه… كثرٌ لا تنطبق عليهم صفة “المناضل”، بالأساس، فما بالك عندما توجب “طبيعة المرحلة” أن تضيف عليها “السابق”؟ “المناضل السابق” الذي أتى الزمن أيضاً وأيضاً على “تخصّصه”، فصار مجرد مؤيد لقضية المجاهد الأكبر، بصدفة قدر سياسي، أو تاريخ لا ينظر إلى الخلف، إلا شفقة أو صدقة.
ولكن، ما الذي يدفع هذا الرهط من “المناضلين” إلى التمسك بهذا الاصرار على صفتهم هذه؟ يقولون “وفاءً” و”تشبثاً” و”ثوابت” و”صلابة”… وهذه إجابة تصحّ في حالات “المناضل” العادي، المواطن المختبىء، الذي لا يطلع على التلفزيون، والذي قد يكون مستمراً، حتى هذه اللحظة، في دفع ثمن “تضحيته” الأولى، التأسيسية، التي استحق بفضلها لقب “المناضل”. ولكنه محل ظن شديد عندما يتعلق الأمر بمناضل نجم، في الفن أو الكتابة أو السياسة. نقول “ظن”، أي ربما، من دون أن نلغي صدقاً ما في الحالة النضالية هذه. إذا، الإجابة على سؤال اللماذا، هو أن التمسّك بلقب “مناضل” يغذي دوراً يحتاج أن يلعبه المناضل-النجم: يعزز أهمية هذا الدور برأس مال رمزي ومعنوي، بات مثل هندامه. يلبسه، وهو خارج إلى الناس، كمن يذهب الى حرب، كما كان الفرسان يلبسون الدرع الحديد… يريد أن يلعب دوراً مقنعاً في معركة دعمه لمعركة غيره. لا يستطيع ان يسمي نفسه “مجاهداً”، إلا إذا انضم الى الأنفار من المجاهدين. فهو “قائد” بمعنى من المعاني، ولكنه قائد لا ينافس القائد المجاهد. مكانه، دوره، هو الى جانب “القائد المجاهد” بصفته “قائد مناضل”… ويكون بذلك الدور مؤمَّناً ومحترماً، وإن كان لا يحتل صدارة اليوميات.
البانوراما الإنسانية لهكذا شخصيات “مناضلة” غنية جداً: في الكتابة لدينا المبدعين اللذين سُوّق لانتاجهم في لحظة أصبحوا فيها “مناضلين”، وتمسّكوا بهذه “الفضيلة” البائتة، بل وصم انتاجهم بها، وغشى وهج “نضاليتهم” بصيرتهم الفنية، وأحيانا التحليلية. في الكتابة أيضاً، لدينا القادة المناضلين السابقين، الذين يرطنون بنعتهم هذه كيفما اتفق، ويدعون أجسادهم تتكلم عن نضاليتهم بحركات كانوا يقومون بها في زمنهم، والتي كانت تعني وقتها التأكيد الصارم، المهيب، اليقيني، على صفتهم “النضالية” هذه. في الفن كذلك الأمر. قد يكون صاحب العلاقة بالنضال مبدعا حقيقياً، مثل حالة صاحبنا ضيف الحلقة. وقد تكون مسرحياته وموسيقاه إضافات حقيقية في مجاليهما. قد يكون ذكياً، خفيف الظل، قادر على إضحاكنا بلا عناء. ولكن هذا لا يمنعه من تكثيف رأس ماله بنضاليته التي أصابته وهو شاب، يحمله مثل حجاب يخشى ربما الانفصال عنه، خوفا من عين زرقاء، أو انهيار مستواه الابداعي أو فقدان رأسماله الرمزي، والتراجع عن المسرح الى أبعد من الكواليس. في السياسة، لا يحصون أصحاب السيادة المناضلين؛ من وارث نضالية أبيه، أساس زعامته القائمة على الاستفقار، على حب الفقراء، ضد الأوغاد الذين اغتنوا؛ الى نائب أصعدته الى البرلمان موجة سياسية انقضت، ما زال مزدهرا بحركته الشعبية وسيجاراته التي لا تنطفىء تدليلا على المزيد من النضالية، أو أمين عام لحزب معتّق، يصرخ مثل أيام المهرجانات “النهرية”، ضامناً لنفسه فسحة من الدور…
وكلهم، ربما من دون استثناء واحد، ضامنون لشيخوخيتهم، لا قلق على مصيرهم الشخصي، بل بالعكس، كل هؤلاء “الفلْتات” يسيرون ضمن المتوازيات. لديهم بالتأكيد بيت وسيارة وما يغطي، على الأقل، تكاليف وجاهتهم. هم ربما كانوا كلهم مناضلين في زمانهم؛ ولكن بالتأكيد لم يعودوا مناضلين. لا يضحون بشيء من نفسهم أو ملكهم، أو، خصوصاً، من صورتهم… من اجل القضية التي ما زالوا يصرون على القول بأنهم “ينذرون” أنفسهم من أجلها. بل فوق ذلك، يقف كل هؤلاء “المناضلين” ضد شعب بأكلمه لا يريد غير إزاحة الطاغية! مدعومين بهالة نضاليتهم، يفتون للديكتاتور، بعبارات محفوظة، وباحتقار شديد لـ”غير المناضلين” من أبناء هذه الشعب المباعين الى الإمبريالية والصهيونية، رافعين شفتهم العليا، تماما كما يفعل مجاهدهم الأكبر عندما ينجّس لسانه بتناول الخارجين عن دائرة “أشرف الناس”، إيذانا منه بهدر دمهم.
المستقبل